![]() |
عبد الناصر صالح وراية المجد
[align=justify]
لا أدري كم من السنوات مرت على معرفتي بالشاعر عبد الناصر صالح، من خلال قراءة قصائده في صحف الوطن المحتل، وسواها. وكنت دائماً شديد الإعجاب بهذا الشاعر الذي يفصّل القصيدة لتكون كما الوطن، أو كما القلب الخافق بعشق الوطن. والغريب أن يدفعني ذلك إلى تأجيل الكتابة عنه، وكأني أنتظر شيئاً ما لا أعرف ما هو لأبدأ وضع النقطة الأولى في صفحة الكتابة حوله. وها أنا أعود إلى عبد الناصر صالح من جديد، لأدخل عالمه الشعري الزاخر. بداية أعرّف بالشاعر فأقول: إنه من مواليد مدينة طولكرم عام 1957، وقد تخرج في جامعة النجاح حاصلاً على بكالوريوس في علم النفس وعلم الاجتماع عام 1984، وعمل في مركز الدراسات الريفية في الجامعة المذكورة، كما حرر الملحق الثقافي لجريدة "الشعب" المقدسية.. وقد صدرت له الدواوين التالية: "الفارس الذي قتل قبل المبارزة" وهي قصائد كتبت في المعتقل عام 1977 ونشرت في ديوان عام 1980. ثم "داخل اللحظة الحاسمة" عام 1981، و"خارطة للفرح "عام 1986 و"المجد ينحني أمامكم" عام 1989. ومطولة شعرية بعنوان "نشيد البحر" عام 1990، وسواها .. عرف الشاعر عبد الناصر صالح أكثر سجون ومعتقلات الوطن المحتل، حيث اعتقل أكثر من خمس عشرة مرة في الفارعة وقلقيلية وطولكرم ونابلس وعتليت، وكان أحد هذه الاعتقالات في أنصار 3 مع خمسة شعراء آخرين هم: المتوكل طه، سامي الكيلاني، وسيم الكردي، نبيل الجولاني، وعدنان ضميري. حصل على الجائزة الأولى في الشعر من جامعة النجاح الوطنية 1980، والجائزة الأولى للشعر الفلسطيني ( مناصفة ) 1990. في قراءة قصيدة الشاعر عبد الناصر صالح، خلال تطورها الزمني، يمكن أن نقف بداية عند قصيدة "نبضات لا تموت" المنشورة عام 1978 حيث: "مشيت إليك يا وطني / وكلّي ثورة كبرى / يقاتل فجرها الأنذال / مشيت إليك لم أتعب / من الليل الذي قد طال / مشيت إليك روحي في سماء الوجد والآمال / وكنت عرفت يا وطني / بأنك لا يزال الحب فيك يصارع الأغلال..".. وحيث: " فهذا الشعب لن يرضى / وهذا السيف لن يرضى / بأن تبقى وحوش الغاب / وقال الطائر الدوري / إن الشعب يمحقُ.. يمحقُ الأذناب / ولا يبقي / جذور البغي والأوصاب" .. "وحين يثور تأتي الشمس هادرة / من الجدران والأبواب..".. الصوت يمكن أن يعبر عن حركة دائمة نحو الفعل، أو في مسار الفعل، وطبيعي أن يكون الشاعر في هذه القصيدة ملتزماً بالتأكيد على مساحة الضوء، وهو ما يضعنا بشكل دائم مع قصيدة المقاومة التي تبني محاورها وتدفعها باستمرارية إلى الأمام لتكون محاور صمود وتحد وثبات. وقد نلحظ في قصيدة نشرت في هذا العام 1978 تحت عنوان " قراءات في عيون حبيبتي" الكثير من هذه المحاور حيث: " فلسطين / إني أحبك رغم عذابي بسجني اللعين / ورغم قتالي مع القهر / ورغم جفاء السنين...".. "أراك فأصبح حياً"لتكون فلسطين في القلب والشريان والروح، وعندها لا تكون كل العذابات إلا الدافع لتأكيد الصمود والمواجهة. في مثل هذه العلاقة مع الوطن والأرض والبيت، تتبدى ملامح الوقوف بصورة قد لا تشبه أي صورة أخرى. والشاعر عبد الناصر صالح شديد الالتصاق بمفردات الوطن، ودفء الجملة التي تعبر عن حبه لهذا الوطن، وحين تكون كل المسافات شديدة الظلمة والقساوة والضغط، تأتي صورة الوطن لتشحن الشاعر بكل معاني الصمود والثبات. من هنا بروز الوطن كصورة أولية ليكون محور الأمل والدفء. الوطن في هذه الحالة يعطي صدره ليضم كل الوجع وليمسح كل الآلام، وليبعد كل حالات اليأس.. ماذا يعني كل ذلك؟؟.. في "الرحيل إلى الجزر النائية" المنشورة بتاريخ 8/1/1982 يقول عبد الناصر صالح "أصرخ في ملكوت الله / أبكي في ملكوت الله / وأنسى عالمي المتحجر / لكن لا أنسى وطني في ملكوت الله" و" قلدني النفي وشاح الموت / …. ترميني عاصفة التهيام إلى جزر لا أعرفها / لا أعرف مرساها...".. وتأتي الصورة الكبيرة لتقول: "يا وطني أنت دليلي / أنت نبي الأزمان السائبه الهرمه / يا وطني أنت الحرف وأنت الكلمه" حيث الوطن في النهاية هو الملجأ والصدر الحنون والسياج والأمان.. فماذا تقول صورة هذا الوطن أيضاً في المسار الذي أشرنا إليه؟؟.. نسمع في قصيدة "البديل" المنشورة بتاريخ 28/1/1983 أربعة أصوات أولها "صورة يفترض ألا تتغير" حيث "أنت المناخ الذي أرتديه / غطاء من الرمل والياسمين" وثانيها "الجسد، الأرض، البحار" حيث "ربما أجعل منك البديل عن الرؤية السائده / يا صراطاً جديداً يقاوم / يا جموحاً يقاوم / يا جسداً تورق فيه العناقيد..".. وثالثها "العاشق" حيث: "سأمنحك الوقت والنظرة الشامله / سأمنحك الصحوه الرافله / وأجثو على صدرك الرحب" ورابعها "الانتفاضة" وهو الصوت الذي يأتي مختزناً كل الأصوات السابقة ومبشراً بميلاد الانتفاضة بعد حين، إلى جانب هذا التحريض الذي يدفع إلى إشعال كل شيء وتأجيج كل شيء، يقول: "يا بلاداً تغني على حافة الجرح / تلهو على حافة الجرح / كالطفلة الواعدة / هذا أوانك فانتفضي / موجة، شعلة، نجمة عائده / هذا أوانك / موعدك الأخضر الثر / أيتها المقلة الشاهده".. أفلا نسمع صوت الانتفاضة القادمة بعد حين؟؟.. أفترض أن قصيدة المقاومة عند كل شاعر من شعراء الوطن المحتل كانت تختزن معنى الانتفاضة وتدعو إلى فعلها وحضورها بهذا الشكل أو ذاك، ولا داعي لتحميل قصيدة عبد الناصر صالح أو سواها من القصائد أكثر مما تحتمل، ذلك أن القصيدة تقول حياة معاشة في الوطن المحتل وتدعو بصورة ما إلى تغيير الواقع القائم وصولاً إلى الحرية التي يطلبها الشعب العربي الفلسطيني. وكما نلحظ في أصوات "البديل" فإن الشاعر يلح على صورة واقع ثقيل ضاغط، ليبحث بشكل دائم عن الواقع الذي يريد من خلاله التمسك بالفعل والمقاومة، وهو ما يعني اللجوء إلى الوطن للنهوض من خلال الذوبان فيه. يأتي شاهد الأرض أحياناً، وشاهد الوطن، وشاهد التداخل مع المستقبل، لتكون الخطوة أكثر إصراراً على التقدم والتوافق مع ما هو آت بعد حين. لا نقول إن قصيدة الانتفاضة قادرة على فتح بوابة المستقبل لتطَّلع على ما سيكون، كما لا نسجل هنا القول بقدرة القصيدة على معرفة الغيب. ولكن نقول بكل وضوح إن قصيدة الانتفاضة، استطاعت أن تفهم حاضرها بشكل واع وخبير، مما أهلها لفهم المستقبل وفهم آلية كل خطوة قادمة، وهو أمر طبيعي. في هذا المسار، لا تقدم القصيدة قفزة في فراغ، ولا تسعى لتكوين عالم مغاير غريب، إنها تقول ببساطة إن الحاضر يدل على المستقبل، وإذا كان الحاضر على هذا الشكل الذي نراه، فالمستقبل سيكون ولادة طبيعية لما هو موجود.. كيف؟؟.. تقول قصيدة "كتابة على جدران أم الفحم" المنشورة بتاريخ 2/11/1984 "تأخرت يا ركب أمي المسافر في الليل / تاقت عيوني / وتاق يراعي المكسّر فوق سطور الدفاتر" ومرة أخرى نسمع: "أنادي عليك / تأخرت يا ركب أمي..".. ثم "أنادي عليك.. وأشلاء بيتي تنادي عليك..".. أفلا يفتح الشاعر صورة دائمة من النداء الملحاح الذي يدعو إلى هذا الفجر القادم، من خلال قراءة الحاضر المعاش في الوطن المحتل، ولكن ماذا يقول هذا الحاضر، أو ما هي ملامحه. تقول القصيدة "إن التراب يريد دماء / تغذي جذور الربيع / وتفرش درب النضال المثابر" و"لا أستطيع الوقوف على الوقت / إن الزمان اللعين يريد اغتيالي" وأصرخ إني "أعاني على القيد بؤسي / وهذي الأيادي الحقيرة / تسلخ جلدي عن الجسم / تطفئ نور عيوني..".. لتكون الصورة صورة عذابات متواصلة لا يتوقف ضغطها بأي شكل من الأشكال، وطبيعي أن الخلاص من الاحتلال، حيث يتأجج الغضب ثورة عارمة "هو الحب سيل من الانتفاضة / يملأ خارطة الوطن المتعطش / يزرع في القلب أيقونة الغضب المستفيض / تؤوب التقاطيع / تأتي الطيور / إذا الفجر أمطر ناراً على الليل / أمطر موتاً / وأشعل كل المنابر..".. هكذا تأتي الصورة بالصورة، وتكون الولادة، ولادة طبيعية. فماذا قالت قصيدة الانتفاضة عند الشاعر عبد الناصر صالح فيما بعد...؟؟.. في "الصهيل" المنشورة بتاريخ 3/1/1988 يأخذ الجواد معناه المتجدد من خلال تعبيره عن الانتفاضة / الثورة، فهو يصهل فوق الريح، ويعانق الدماء والجراح "دمي سال على وجه التراب / ولم يزل هناك ترتوي الأشجار منه / تحتمي به الطيور من مخاوف الدمار والحريق / من أين تأتين / تصلب جسدي / وماتت النجوم فوق صخرة العناد / غاب وجه الشمس في الأفول..".. ولكن لا داعي لكل هذه الأسئلة، إذ كفاك يا جراحنا جراح " كفاك وانظري: "هنا الأطفال يحملون حبهم على الأكتاف / يحملون القدس والجليل / يطاردون الجند / والرصاص فوقهم كندف الثلج..".. و"إني الأسير حطمت يداي / حزني العميق" ويصهل الجواد "يصهل الجواد / تبرق العيون في الجبال والوهاد" وتكون خاتمة هذه القصيدة تأكيداً على قدوم النهار حيث: وبيارات أهلي تغصّ بالثمار.. في هذا المسار لا يقفز الشاعر ليحتفل بالانتفاضة متناسياً أو متجاوزاً لكل ما كان في ذاكرة الزمن السابق عليها، بل يصر من خلال جواده على التلاقي مع كل المسافات لتكون الانتفاضة حلم المضي المسكون بالمعاناة، وضوء الحاضر المسكون بالمواجهة والنضال والثورة، والتفاؤل بالمستقبل المسكون بالفرح والنصر والخلاص من الاحتلال، لذلك كان "الصهيل" متدرج الوتيرة بحيث لا يسمح بالفجائية التي تعلق الأشياء في الفراغ، مما جعل الصورة واضحة في تداخل ألوانها وخطوطها، وبما يؤدي إلى جمالية خاصة. في قصيدة "هل غادر الشهداء" المنشورة بتاريخ 18/1/1988 تأتي الكلمات إلى موسم الفرح لتقول صورتها بشكل رائع أخّاذ. في هذه المساحة تشتعل الأنفاس مع الحروف لتعلو دفعة واحدة في هذا الدفق المتواصل الجميل.. لا أدري لماذا اختصرت هذه القصيدة مسافات كثيرة من الشعر، لتقول الكلمة بهذا الصفاء: يتسابق الشهداء في سجن النقب ليشكلوا بدمائهم جدلية الموت الحياة ويعمدوا أجسادهم بالرمل يلتحقون بالركب الطويل إلى احتفال الروح ينزرعون أشجاراً على درب الشهادة كم على أيديهم دكت عروش القمع كم منع الغزاة من اقتحام القلب كم فشل الغزاة يتسابق الشهداء يلتحمون بالرمل القديم يسافرون لعرسهم يتعانقون بمهرجان المسك والحناء " وفي ارتفاع النشيد، يأتي القول: "للعرس الفلسطيني طعم المسك.. للشهداء لون الزعتر البري والحناء أقمار تحلق في السماء وراية للمجد تخفق في فضاء القلب تعطي الانتفاضة بعدها الشعبي تحفر فوق سطح الرمل تاريخ الغضب يبقى أنّ الشاعر عبد الناصر صالح ذو بصمة متميزة في الشعر الفلسطيني المقاوم، وقد استطاع أن يصل إلى هذه الدرجة من التميز في سنوات قليلة ومن خلال إصراره على تطوير قصيدته ورفدها بكل جديد، ولا نبالغ حين نرى أن صوت الشاعر عبد الناصر صالح من الأصوات القليلة التي يمكن لها أن تطور في مسار قصيدة المقاومة وأن تصل بها إلى الأفضل، ذلك أنه يملك مقومات الشاعر المبدع الأصيل. [/align] |
الساعة الآن 54 : 08 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية