منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   النقد (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=231)
-   -   سليمان دغش والتوحد مع الرض (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=10015)

طلعت سقيرق 11 / 04 / 2009 31 : 02 PM

سليمان دغش والتوحد مع الرض
 
في مقالات كثيرة سابقة، نشرت في الصحف والمجلات العربية، وفي كتابي "الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني" كنت قد تحدثت عن الشعر الفلسطيني المقاوم متناولاً بالبحث والدراسة شعر عدد كبير من الشعراء الذين لم يعرفهم الوطن العربي ولم يقرأ أشعارهم. وربما استطاعت مثل هذه المقالات أن تعطي فكرة واسعة في مجال التعريف والتقديم، من خلال التعرف على الموضوعات والمحاور التي تناولوها في شعرهم بشكل جماعي. فبرزت بشكل عريض واسع صورة العشق الوطني المتألقة، من خلال التركيز على الوطن في كل جزئياته وموجوداته وطبيعته، ومن خلال التركيز على الثبات والمقاومة والتحدي والوقوف في وجه الاحتلال. وإذا كانت الصورة الجماعية قادرة على إبراز الكثير من الموضوعات المشتركة والمتشابهة، فإن الحديث عن كل شاعر بشكل منفرد يعطي فكرة أكثر تحديداً عن هؤلاء الشعراء وكنت من قبل قد تناولت عدداً من شعراء المقاومة، محاولاً تقديم تعريف وافٍ عن كل شاعر من الشعراء الذين تناولتهم، مع دراسة شعره بشكل عريض.وقد ضمّ هذا الكتاب جزءاً من هذه الدراسات. فماذا يمكن أن يقال حول الشاعر سليمان دغش...؟؟..
في الغناء الذي ترتفع وتيرته، وتصل إلى حدّ التداخل مع كل موجودات الطبيعة، لتكون فلسطين أروع صورة يحفظها القلب وتحتضنها الشرايين، تأتي القصيدة لتقول:
لماذا حاولوا فصلي
عن الأرض التي انتشرت على جفنيَّ منديلاً
من الأزهار والعشبِ
لماذا حاولوا فصلي
عن الأرض التي التحمت على قلبي
جناحاً ناعم الزغب
لماذا حاولوا التفريق
بين العين والهدب
وكأن الحالة الوجدانية تسيطر على كل رعشة وخفقة وقطرة دم. ولا تغيب المسافة ولا تتلاشى مع أي مفردة من المفردات، أو أي حرف من الحروف. والصورة الأكثر بروزاً وحضوراً في جسد القصيدة المتصل أن الجسد الإنساني تحد ووقوف وثبات وتواصل. إذ الرؤية الواضحة والراسخة أن الفلسطيني لا يمكن أن ينفصل عن الأرض التي خرج منها وعجن بترابها:
سلوا الزيتون فالزيتون يعرفني
ويشهد أنّ ذا وطني
وأني راسخ كالصخر
كالزيتون
كالعنب
جبيني فوق كف الشمس ملتهب
وقلبي ناضج بالعشق
والأحزان
والتعب
سلوا الأشجار
والأحجار
إن شئتم
فكل الأرض تعرفني
وكل الأرض تعشقني
ويهتف كل ما فيها
أنا عربي.. أنا عربي.. أنا عربي..
يشتدّ التلاحم والتواصل والتداخل، ولتنطلق صورة الوجد العربي محلقة عالية، قوية رائعة..
في الغناء الذي تحدد على مثل هذه الصورة من الوجد، تبقى الوتيرة عالية حين يأخذ الشاعر سليمان دغش في إعطاء الوطن القدرة على الخفق والإحساس والشعور. هنا نرى في قصيدة "هويتي الأرض" أنّ التوحد حالة صوفية رائعة، وأن التداخل حالة متوقدة متوهجة. الأرض هنا ثبات من القدرة على الاحتضان بحنان كبير متوقد:
مخدتي زهرْ
وفرشتي حشائش بريةٌ
والبدر قنديل السمرْ
في مثل هذه الحالة تستطع الأرض وموجوداتها أن تهب الإنسان قدرة عالية على الثبات والوقوف والتحدي. ونجد أن الإنسان العربي الفلسطيني يستطيع إن ضاقت الدنيا، وإن أغلقت كل الأبواب أن يلجأ إلى طبيعة فلسطين لتكون له ما يريد،ولتؤمِّن له ما يشاء:
إن جعت آكل التراب
وأمضغ الحجرْ
وإن عطشت أوقف السحاب
وأنزل المطر"..
سليمان دغش في مثل هذه الوتيرة يصل إلى حدّ من التداخل لا يماثله حد، حيث:
أصابعي شجرْ
ومهجتي صخرية
وأنت لي القدر
يا أرض والهويه..
ومن قبل:
أرضي أنا أعرفها
جبلت من ترابها الأصيل
أعرفها من شامة في خدها الجميل
خضراء اسمها الجليل
وكانت الصورة السابقة والبانية لمثل هذه الصورة:
أنا بعثت في ضميرها البذور
لتولد الأطفال والسنابل
أنا وفجرت الصخور
جداولاً جداولْ
فالإنسان الفلسطيني هو الأرض، والأرض هي الإنسان الفلسطيني، وفي الحالة المتكاملة لا فواصل ولا حدود ولا فوارق..
يمكن أن نرى بوضوح إلى هذه الأصابع التي لا تكون مثل الشجر، أو مشابهة للشجر، أو كالشجر في أي صورة من صور التشبيه، ولكنها تكون شجراً. ولنا أن نتصور كيف ترتفع وتيرة التداخل في مثل هذا التماهي القادر على التحويل والتحول. وبطبيعة الحال لا تنفصل مثل هذه الصورة عن سياقها العام السابق واللاحق، فالأرض قدر وهوية، والمعرفة بكل التفاصيل قائمة موجودة. ولا نستطيع أن ننسى أو نتناسى هذا التأكيد على بعث البذور في ضمير الأرض، لتكون الولادة أطفالاً في هيئة سنابل، أو سنابل في هيئة أطفال.
مثل هذا البروز الحاد الواضح للتداخل مع الطبيعة، نجده كثيراً في قصائد سليمان دغش، ولا نبالغ حين نرى أنها الخاصية الأبرز عنده.
في التحدث عن إجابة سؤال يقول: لماذا كان مثل هذا البروز الكبير والواضح؟؟.. تطل علينا قصيدة "سوف آتي بقمر" لتقول إنه الحب المتجدد والنامي باستمرار، والأمل الذي لا ينضب بعطاء الغد:
فلأوراق الشجرْ
ألف وعد بربيع منتظرْ
سوف آتي بقمرْ
وبمنديل طريٍّ
وبأغصان شجرْ
فافتحي عينيك أفقاً
من نخيل وبلح
ما الذي نرجو
إذا لاح لنا قوس قزحْ
غير زخات المطرْ
وعلى هذا كانت العودة المباشرة والسريعة إلى نبض التداخل مع الطبيعة الفلسطينية، لأن الصورة لا يمكن أن تكتمل بمعزل عن مثل التداخل النابض. فالحب الذي نما وكبر وتجدد، والعشق الذي ازداد واشتعل وتوقد، أخذ في تأكيد مثل هذه العلاقة. كان طبيعياً أن يشتدّ الوجد ويقوى، وكان طبيعياً أن يتسع القلب ليكون بحجم الوطن، وأن يكون الوطن بحجم القلب، هنا لا نقف على حالة من حالات التبادل والتوافق والتقارب بين الأرض والإنسان فحسب، بل نجد اتساعاً كبيراً في الصورة والتصور والرؤية حيث:
نابض قلبي بحيفا
نابض قلبي بيافا
نابض بالأرض بالزيتون بالعشب النضرْ
نابض كالنهر غنّى
كلما مرّ على خدّي حجرْ
في مثل هذا التوحد والتداخل، وفي مثل هذا العشق للأرض، كان بروز القرار واشتعاله أفقاً من المقاومة، وتوقداً من العطاء. يبدأ ذلك في النظر إلى الغد، من فاصلة أن التفاؤل الثوري ضرورة لا يمكن الابتعاد عنها، ولا يمكن التخلي عن كل فواصلها ومفاصلها وجزئياتها واتساعها، لذلك كان الإصرار:
غدي آت
أنا زينتُ جبهته
بقافلة من الشهداء والشهب ِ
فلا تخشى
سواد الأفق والزمن
أنا كالبرق يا وطني
وليد تزاحم السحب
سيأتي ألف آذار
وألف وألف مغتصب
ولكنا هنا نبقى
جليلاً
عانقت يمناه كرملنا
وهبت كفه اليسرى
تعانق صرخة النقب
الصورة تفاؤلية كما نرى ، صورة تبني الغد، صورة تبني إشراقة الشمس، وتصنع كل الألوان المشرقة المتصلة بمثل هذا الضياء. في مثل هذه الصورة لا بدّ من بروز كمٍّ هائل من الفرح العاشق النابض بالحب. مفردة "زينت" لا تأتي بشكلها المجاني، ولا تصر على الفعل الماضي بقدر إصرارها على الفعل المضارع المستمر. والزينة هنا اتساع وأفق رحب من الشهداء والشهب لا يمكن معه أن تكون الخشية من سواد الأفق. السلاح الأكثر قوة وقدرة إذن يتحدد في هذا الإيمان الكبير والطاغي بالغد وبعطاءات الشعب.
في الصورة الأمثل إذن القرار وليد كل هذا الكم من التفاؤل بالغد وبكل المعطيات وبكل تفصيلات وجزئيات العطاء. لذلك كان الاحتراق ولادة جديدة رائعة، وتوكيداً على التواصل في النضال الشعبي الذي لا يمكن أن ينضب أو يجف، نجد شيئاً كثيراً من ذلك في قصيدة سليمان دغش "احتراق" حيث تبدأ فاصلة الاحتراق الأولى من فاصلة الألم في النظر إلى صورة الاحتلال وكيف جاء:
أحداقهم كالجمر تلمع بين أجفان الليالْ
جاؤوا إليك أظافراً حمرا
وأنياباً طوالْ..
عبثوا بصدركَ.. نتَّفوا فيك الدوالْ
فالورد مقتول على خديكَ
والليمون ذالْ..
وعلى جبينك مذ أتوا
يبكي ويبكي البرتقالْ
جاؤوا إليك وكنت حالمة
كنجم عند شباك الخيالْ
تستلهمين الصبح أن يأتي
بمنديل ربيعي وشالْ
داسوا على أحلامكِ الخضراء
واغتالوا الهلالْ..
وفي المقابل كانت الصورة الأخرى فاصلة في نمو الهوى المناضل، فكان الاحتراق بزوغ فجر من العطاء:
كبر الهوى
وأنا كبرت.. كفرت بالأغلال تسحق ساعدا
يمتدّ نحو جبينه سمراء تحلم بالوصالِ
كبر الهوى
لا بأس إن نحن احترقنا
حسبنا أنّا وهبنا الفجر ومضَ الاشتعال
وبشكل طبيعي كان على مثل هذا الفعل أن يتداخل مع فعل الانتفاضة ويتوحد في كل تفاصيله، فالانتفاضة أعطت الزهور التي عبقت بكل الحب والعشق والتوحد ثورة عارمة كبيرة. وكانت قصيدة سليمان دغش "مطر على قلب الحجر" دخولاً في الفعل وتوكيداً عليه. وفي الاستعارة تأتي مفردة "المطر" لتواكب فعل الانتفاضة، لتكون في كل مفاصل القصيدة عطاء لا ينضب. المطر هنا توزع وخصب، اتساع وشمول:
مطر على قلب الحجرْ
مطرُ.. مطرْ
ويتابع:
وكنت فيك
وكنت فيّ
كان موعدنا السفر
لا شيء يفصل بيننا
فمتى سيجمعنا الرحيل
إليك.. فيك..
و:
مطر على قلب الحجر
مطر.. مطر..
وأراك فيّ..
أراك أعرف أنك الشمس التي حملت
إلى ليلي القمرْ
مطر.. مطرْ..
مطر.. مطرْ..
الانتفاضة إذن وصول إلى بداية الوصول، أو تداخل مع الطريق الواعد المشرق بكل الأمنيات الكبيرة. والانتفاضة على هذا خصب واعد محمل بكل الشموس التي أشرقت من قبل لتكون في قادم الأيام شمساً كبيرة للنصر الأكيد.
في النهاية يمكن القول إنّ سليمان دغش استطاع أن يعطي وأن يكتب القصيدة الفاعلة المتفاعلة في كل جزئياتها مع الوطن، وكان حبه وعشقه أكثر قدرة على التواصل والتداخل مع كل ذرة من ذرات التراب. وبذلك حقق ما أراد من توقد وتوهج واشتعال في إعطاء الشعر كل هذا الزخم الثوري الفاعل..
يذكر أن سليمان دغش من قرية المغار في الجليل وقد ولد في العام 1952.. درس الابتدائية في المغار والثانوية في الرامة، ثم حصل على دبلوم في إدارة الأعمال والإدارة، وشهادة خريج في موضوع الإدارة المتقدمة.. بدأ عمله بالمجلس البلدي بقريته "المغار" في وظيفة مفتش صحة، ثم أصبح، مديراً لقسم الصحة وحماية البيئة.
بدأ كتابة الشعر في المرحلة الثانوية، ونشر أولى قصائده عام 1971، وكتب معظم قصائد ديوانه الأول وهو في السجن على أوراق السجائر.. وله ثلاثة دواوين، الأول "هويتي الأرض" صدر في عكا عام 1979، والثاني "لا خروج من الدائرة" عام 1982، والثالث "جواز الحجر" 1991.


نصيرة تختوخ 11 / 05 / 2013 52 : 11 PM

رد: سليمان دغش والتوحد مع الرض
 
ونجد أن الإنسان العربي الفلسطيني يستطيع إن ضاقت الدنيا، وإن أغلقت كل الأبواب أن يلجأ إلى طبيعة فلسطين لتكون له ما يريد،ولتؤمِّن له ما يشاء:
إن جعت آكل التراب
وأمضغ الحجرْ
وإن عطشت أوقف السحاب
وأنزل المطر"..
**************
شعر ووطنية ينسابان بجمال في هذا المقال الذي قربنا أكثر من الشاعر سليمان دغش.
تقديري لما تركت هنا ورحمة الله عليك أستاذ طلعت.


الساعة الآن 55 : 12 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية