![]() |
اعترافات عائشة
[align=justify]
انتظرتُ بزوغ الشمس بفارغ الصبر ، ولم أعطِ فرحتي للقمر . سرقتُ همسات الفجر من أوّل ضوء . تباطأتْ خطواتُه نحوي ، لكنّه فَقَد الأمل ، وهجم عليًّ . كنتُ في العلّية المزنَّرة بأربع نوافذ ، المطلّة على أربع جهات ، أصرّ ثوب العرس في منديل أحمر ، لكنَّ الخوف ملأ فضاء روحي ، وتصاعد كأنَّه يهرس بحجر فرحتي ! . أسبحُ في بركة الخوف ، بينما كان صرير باب الغرفة ، يتناثر جمراً . أغلقتُ النوافذ تكوّرتُ فوق سريري . الآن ...! وبعد أن مزقتُ حُلماً في ذاكرتي ، كاد أن يتحّول إلى مُصيبة ، ونتفتُ ريش أغنية خرجتْ عصفورة من عشّ ، احتلت فراغاً ضيّقاً فوق جسر حديدي في منتصف السقف ، طويتُ لُهاثي . احتضنتُ آخر وصيّة أضاءتها أُمّي قبل أن أودّعها: ( انتبهي يا عائشة . كوني حذرة من رجل كأبي صبيح ، فكان أبو زيدون الذي عاشره طويلاً ، يصفه بصاحب الكيف ، فهو رجل يحبُ النساء ، والليالي المقمرة ) . هذه هي المرّة الأولى التي أفتح فيها باب ذاكرتي ، فتخرج الوصيّة تلهث ، وتفتـّش عنّي في ساحات المدينة القديمة ، ورُعب الليلة ما قبل الماضية ، كشف ضوء القمر وجهه، فتسمّر أمامي . غطته خيوط بصري ، ورسمتْ على جسده لوحة ... حرَّكتْ في داخلي أشجاناً . تركتْ بلا خجل مساحات صغيرة ، لقُبلة يتيمة . أطفأتُ نور الغرفة . نمتُ يغطّيني اضطرابي . أحسستُ أنَّ ذاكرتي تحمل أحزان المدينة . وأنَّ الماء يتفجَّر من بركة ملأى بالهواجس . أغلقتُ الباب ، وأنا أرتجف . خطفتْ فراشة ابتسامة منّي ، وطارت تحمل دموعي . بقيتُ أنتظر اللقاء معها في الليلة القادمة ، لأنّي سأبوح لها باعترافات خطيرة عن أبي صبيح !. الاعتراف الأخير .... أنا عائشة من آل الفضل ، ومن قرية " العدَّالة " تعلمتُ القراءة والكتابة عند شيخ القرية في قُرْنة المسجد الشرقية مع ثلاث بنات وخمسة صبيان . قرأتُ بياناً صادراً عن جماعة أبي صبيح ، تُهاجم فيه الإقطاعي الذي كان يملك نصف أراضي القرية ، فهربتُ وأودعتُ دفتري عند صديقتي . قرأتُ البيان أمام الفلاحين ، فنهضتْ في داخلي أسوار اللَّهفة ، وأنا أتباطأ في تعداد فقراته ! . ودّعتُ أُمّي وأختي . وقفتُ قبل انطلاق الحافلة ، بجانب قبر أبي . قرأتُ الفاتحة على روحه الطَّاهرة . عاهدتُ نفسي بالثأر له من أبي زعل ، لأنَّه أفسد حياتنا ، عندما أسرَّ للجنرال الفرنسي عن بلشفيته . ظلَّ الدرك يطاردونه إلى أن استشهد بين قوائم أحصنتهم . الاعتراف ما قبل الأخير .. هربتُ من بيت أبي صبيح ، بعد أن تطوَّعت في العمل خادمة بمنزله عاماً كاملاً . وعندما سألني جنرال من جنرالاته ، وأنا في نهاية الزّقاق ، المطلّ على الشارع الرئيسي : لماذا تهربين في هذا الصباح الشتائي البارد ، وأعلم أنَّ لا مأوى لك في هذه المدينة الكبيرة ؟ . قلتُ : حاول أن يُسْكرني معه ، ويجبرني أن أشرب الخمر ، ويبصقني ، ويتركني ملوَّثة بالعار ، وهو ثمل ، كما فعل مع صديقتي سلمى ! . الاعتراف الأول ... كانت السعادة تطفو فوق روحي ، وتسبح نبضات قلبي في دمائي . تفور هواجسي في قِدْرٍ من الحُبَّ والبراءة ، في مدينة تزدحم بالطنابر والعجلات والعتَّالة والبيوت والتجَّار ، والأبنية الشاهقة والخانات والأسوار العالية . وكان الفارس المحمول على أجنحة النَّاس ، يتسلَّق ظلّه رفوف منازلنا ، وصورته تخاطفها الفلاحون ، وعلَّقوها في صدور بيوتهم ، لكنّي أنقذتُ نفسي في لحظة ضعف أصابته ، وخوفاً سمعتُ دبيبه ، وهو يتزاحم في صدره ! . الشهادة الأولى ... تنقدني زوجه بعد بزوغ شمس صباح كلّ يوم مبلغاً لأشتري الخضار واللحم والبيض، وحاجيات البيت اليومية . كنت أُقدَّم لها فاتورة ممهورة بخاتم البائع ، وعندما تستلمها ، تبصق في وجهي ، وتتَّهمني بالتزوير والسرقة . الشهادة الثانية ... تجتمع العائلة حول مائدة الغداء ظهراً ، وفي تمام الساعة الثانية من كلّ يوم ... تمنيتُ أن تدغدغني كلمة لطيفة ، وأن يدعوني أحد أفراد العائلة ، لتناول الطعام معهم ! . لم أنس الدرس الذي لقَّنني إيّاه أبو زيدون . وكان أهمُّ الزوَّادات في حياتي ، من خلال تجربته المريرة معه ، حينما كان يحمله على ظهره ، ويقطّعه النهر ، فيبول على كتفيه ، وينكر فعلته ، ويشرب أفخر وأغلى أنواع المشروبات الروحيّة ، ولا يقول له : تفضَّل يا صديقي ، وخُذْ جرعة لذيذة ! المهمّ في الأمر أنّني أصبحتُ كالكلبة ، يسيل لُعابي حينما أشمّ رائحة الطَّعام . أنتظر، وعيناي تُبصران ، وأذُناي تسمعان هسيس الكلام والنكات ، وطقطقة الشّوك والملاعق والصّحون . كنت أقول في نفسي : ( اصبري يا عائشة ... اصبري ! ) ، فأفرح وأنا أهمس في سرّي ذليلة ، لكنَّ نفسي كبيرة ، فلا أحد يقدر أن يتجاوز حدوده ، إنْ كان أبو صبيح ، وقبله الإقطاعي والمختار الدّسّاس ، ومرابعوه ! .. لكنَّ الجوع يا سلمى !.. الجوع يظلُّ هو هو ، لم يتغيَّر ، وأنتِ تدرين أسراره ، عندما يثور ويغضب ، وتتلوّى معدتي ، وتعصر من شدّة الألم ... حينئذٍ تدبّ الرحمة في قلب " ستّي " أمّ صبيح الوقورة ، فتجمع الفضلات في صحن واحد ، وتقد ّمه لي ، فأتحوَّل إلى قطَّة جائعة !! . الاعتراف الثاني ... استغلَّ أبو صبيح غياب زوجه . همس في أذني : ( ناوليني يا عائشة المنشفة ، والثياب الداخلية بعد قليل ) . تناسيتُ الأمر ، بينما كان يرشق الطَّاسة الأخيرة من المياه الساخنة على جسمه ، لكنّي استدركتُ متأخرة ، وأنا شاردة ، ووضعتُ ثيابه على كرسي أمام باب الحمَّام ، وصعدت إلى غرفة السطح . سمعتُ دقّات حذاء زوجه . كانت تهبط الدرجات السّت ، وتصيح لي ... تردّد اسمي مرّات ومرّات ، لأحضر لها الشحَّاطة . شقّ أبو صبيح الباب دون آن يظهر رأسه. مدَّ يده . شدَّ زوجه بقوّة كالثور. أغلق الباب خلفه . وبينما كانت ضحكتها تتعالى ، ويتزايد صراخها ، كان أبو صبيح يرتجف . تصطك أسنانه ، وتزقزق روحه ، على الرغم من دفء الحمَّام ، وسخونة الماء التي اندلقت عليه . سمعتُ صفعات أقلّ خطورة ، ممّا يحكى عنها ... ثمَّ خرجا ، وهما في حالة عراك .. يتدافعان كديكين فاشلين ! حملتُ صرّة ثيابي إلى شارع أجهل اسمه ونهايته ! . أبحثُ عن صديقتي سلمى ! كانت قرية " العدَّالة " تتراءى لي بجمالها من بعيد ، ووالدي يفتح قبره ، ويخرج كالمارد ، ينتظرني أمام بوَّابة المقبرة ، فاتحاً ذراعيه . الشهادة الثالثة ... المقبرة في قرية " العدَّالة " تختلف عن مقابر القرى المجاورة ، فلها سور يحميها من الحيوانات الشاردة ، وباب حديدي ، لكنَّ مُرابعي أبي زعل ، كانوا يتسلّلون من كُوَّة نقبوها في الجدار ، يمضون ليلتهم ، يشربون الخمر ، ويلعبون الورق على قبر أبي ... وما زالت الزجاجات الفارغة ، وقشور الفستق والمكسّرات تتناثر فوقه . وعندما هربتُ من بيت أبي صبيح ، وتركت المدينة ، وعُدت إلى العدَّالة ، استقبلني أبي بفرح عظيم . دعاني إلى مائدة شهيّة ، كان قد أعدَّها احتفاء بعودتي ، وقناعتي بأنَّ أبا صبيح لا يصلح قائداً للفلاحين ، لأنَّه يحكي ويكتب عنهم ، ولا يجالسهم ، أو يُشاركهم طعامهم وشرابهم . هززتُ رأسي ، وأنا أَنْتش لحم أصابعي من الندم ! .. كنت جائعة ، فمنذ يوم وليلة لم أذق الطّعام . جلسنا على العشب بين قبرين . فتح والدي صرّة الطعام ، وكان زيتوناً ولبناً رائباً وبصلاً ، ورغيفين من خبز التنور ... إنّه طعام لذيذ طيّب وطازج ! . قال والدي : تزورني أُمّك مرّة في الأسبوع ، قبل طلوع الشمس . تنوح بجانب القبر ... توقد أعواد البَخُور . تترك صرّة الطعام وتخرج ، بينما أربعة من رجال أبي زعل ، يأكلون هذا الطعام ، ويسكرون ويبولون على قبري . شدّني من يدي . دخلتُ معه إلى القبر .. هبطنا ثلاث درجات ، وعند الغروب وقبل أن يضحك القمر في قُبّة السماء ، سمعنا كلاماً وهَرْجاً ووشوشات ، وأصوات زجاجات وأقداح . وفاحت في المكان رائحة المُنْكر ! . أصاخ والدي السمع ، وقال : اسمعي يا عائشة فحيحهم . فهذا رشيد يبول على حافة القبر ، ومرعي يشتهي امرأة سيّده ، وجاسر يُقسم بأنّه سيتزوَّج أُمّك الأرملة ، وخميس يشتم المختار . نمت تلك الليلة على ذراع أبي ، وبعد انبثاق الضوء ، سمعت صُراخهم ، وخبط أقدامهم ، وهمساتهم كالضباع . تنحنح والدي ، فعمَّ الهدوء ، وفرَّ المرابعون فزعين ! . عندها رفعتُ رأسي عن مقعد الحافلة !! . كانت أُمّي تدفع طاسة الماء ، وتقرّبها من فمي ، تحثّني على النهوض ، فقد سبقني الحصَّادون إلى الحقل . حملتُ قِرْبة الماء ، وقُفَّة كبيرة من التمر ، وسطل الّلبن والخبز . وكان الصباح النّديُّ يدغدغ أهداب السنابل ، والهواء النّظيف يعبر مسامات جسمي ، وثقوب ذاكرتي . أحسستُ أنّني أمتلك مساحة واسعة من الدنيا وشمساً وقمراً !! .. [/align] |
رد: اعترافات عائشة
سرد مميز و أسلوب شيق للغاية , إعترافات عائشة متنوعة و جريئة واضحة الملامح و تستحق التأمل .
تحياتي |
الساعة الآن 26 : 05 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية