منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=65)
-   -   اسطورة الملك شارون والحجارة (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=11097)

جمال جنيد 25 / 06 / 2009 27 : 11 PM

اسطورة الملك شارون والحجارة
 
[align=justify]
في زمن الغفلة الدنيوية، استولى الملك شارون على السلطة، ونصّب نفسه ملكاً..‏
كان الملك شارون ظالماً، ضحاياه، لا تعد ولا تحصى، وكان يدعي أنه يملك نظرية الأرض، التي تقول كلما هرب الناس أو ماتوا أصبحت الأرض بلا أصحاب..‏
ولم يجد أصحاب الأرض بداً من المقاومة..‏
كان عندهم أسلحة بسيطة، طاردوا بها جنود الملك شارون الظالم، مما دعاه إلى إصدار أمر بمصادرتها.. وهذا ما حدا الناس إلى البحث عن سلاح عتيق، حتى لو كان انكشارياً، وكانوا يدفعون ثمناً للقطعة الواحدة، مبلغاً محترماً، إلى أن بلغ ثمن إحدى القطع ثمن مهر عروس من حمولة كبيرة.‏
بيد أن رجال الملك شارون كانوا بالمرصاد لذلك الذي يملك قطعة سلاح واحدة، عملت فيها يد التصليح مائة ألف مرة.‏
علقوا المشانق في الساحات، وقطعوا أطراف الجثث، وسحبوا الناس في الشوارع خلف العربات، وصنعوا من عيون الجثث كرات صغيرة، نظموها في أسلاك، وعلقوها أمام أبواب البيوت..‏
وتجوّل جنود الملك شارون في شوارع القرى والمدن، بأسلحتهم الثقيلة والخفيفة، عندئذ، تجوّل الحزن في كلمات الناس، وتعابير وجوههم، وبات في عيونهم هم دائم..‏
ومع الأيام، أخذ الناس يفكرون في شكل آخر من مقاومة جنود الملك شارون، فكروا في استخدام سكاكين المطابخ، لكن السكاكين قليلة، لأنها صودرت، بينما أسلحة جنود الملك النارية أسرع في الإصابة والمدى.‏
وفجأة، جاءت الفكرة مثل إشراقة شمس؛ حين لاحق صبي جريء بحجارته كلباً مسعوراً، فأصابه في رأسه، فهرب الكلب إلى الحقول البعيدة، ولم يعد..‏
انتشر خبر السلاح الجديد في هواء القرى والمدن، تناقلته الألسن والعيون مثل تباشير فرح، طار الحمام الأبيض نحو السماء الزرقاء، وضحكت الشفاه عن قلوب عازمة على مقاومة ظلم الملك شارون..‏
حين سطعت الشمس. من بين غيمة تشبه وجه طفل، طاردت الحجارة، جنود الملك شارون، ولم تستطع أسلحة جنود الملك شارون المتطورة إيقاف ثورة الحجارة.. فُرض حظر التجول..‏
سقطت الحجارة، من أسطح المنازل. ومن مآذن المساجد، ومن قباب الكنائس..‏
عندئذ، عقد الملك شارون اجتماعاً عاجلاً مع مستشاريه، وصرخ فيهم قائلاً:‏
-الحجارة تهزم رصاصنا!.‏
قال مستشاره الأول الذي شاب ما بقي من شعر في رأسه الأصلع:‏
-أقترح أن نترك سلاحنا جانباً، سيدي الملك، ونحاربهم بأسلحتهم.. الحجارة!.‏
تصايح المستشارون الآخرون، مستنكرين ما يقوله المقرب من الملك شارون..‏
صمت الملك ولم ينطق حرفاً، أشار بإصبعه انتهاء الاجتماع الطارئ، فخرج المستشارون، بعضهم يهز برأسه، وآخرون ينفضون أيديهم..‏
سهر الملك شارون الليل كله، ومضت نجوم واختفت، بزغ القمر في منتصف السماء، وانتهى في آخرها..‏
وفي الصباح الباكر.. أصدر الملك قراراً بنقل الحجارة من المقالع الحجرية إلى معسكرات جنوده، وتجريدهم من أسلحتهم، وتسليحهم بالحجارة بدل أسلحتهم النارية.‏
تلقى الجنود والضباط، في ثكناتهم الأمر بدهشة بالغة، لكن ثمة مشكلة ظهرت. وهي كيفية نقل الحجارة من مكان إلى آخر. وقد حلّ المشكلة جنرال متقاعد، متّقد العينين، وذلك بأن تستبدل السيارات العسكرية، بسيارات نقل الحجارة.‏
حين تسللت الشمس من بين الغيوم بخجل، أخذ الناس يرجمون جنود الملك شارون بالحجارة، وحين بادلهم الجنود حجراً بحجر، اندهش الناس، وانقلبت دهشتهم إلى سخرية، فلم يُحسن الجنود قذف الحجارة، فاستولى الناس على سيارات الحجارة، وعندئذ، هرب الجنود إلى معسكراتهم الحصينة، بينما حجارتهم تطاردهم.‏
كانوا يرتجفون، ويشتمون الناس وقرار ملكهم بتجريدهم من سلاحهم.‏
حين سمع الملك بذلك. عضّ على شفته فأدماها، واستدعى مستشاره الأول، وصرخ في وجهه:‏
-أرأيت نتيجة مشورتك؟!..‏
فكّر المستشار الأصلع ثم قال:‏
-لابد من تدريب الجنود على كيفية قذف الحجارة!.‏
دهش الملك وصاح بسخرية:‏
-تدريب على قذف الحجارة!.‏
ثم تساءل:‏
-مَنْ درّبَ الناس على قذف الحجارة؟!..‏
ردّ المستشار على الفور:‏
-الناس يملكون الحجارة منذ قرون.. إنها من أرضهم.. أما جنودك، يا سيدي الملك، فلا يعرفون سوى استخدام السلاح الناري!.‏
لأول مرة، تخلو الشوارع والساحات من جنود الملك شارون، فيعانق الناس الفرح، ويقطفون الورود، ويتصافحون، يخرجون إلى الشمس، ويبنون من الأحجار التي استولوا عليها بيوتاً جميلة، بيضاء مثل حمامة ناصعة..‏
ودارت الحوارات التالية في شوارع البلاد ومدنها وقراها..‏
-ضفادع الملك شارون اختفت!..‏
-الجنود يقذفون بعضهم بحجارة مزيفة!..‏
-الملك شارون يرتجف تحت لحافه!..‏
-يحتاج إلى حجر ساخن في قفاه!..‏
-حلمت أن الملك شارون يحمل حجراً ضخماً ويصعد به إلى جبل من دخان!.‏
-الملك شارون ليس له عضلات!.‏
-عضلاته من لبن الخفاش!.‏
-جنوده يركضون خلفه مثل صراصير!..‏
-لماذا؟!.‏
-كي لا يبقيهم خارج جحره!.‏
ووقف الشباب في ساحات القرى والمدن، وصرخوا، وهم يحملون الحجارة بأيديهم:‏
-حجارتنا أيها الملك شارون أقوى من سلاحك الذري في ديمونا!.‏
-حجارة أرضنا تتحداك أيها الملك شارون!..‏
وفي المعسكرات، كان الخبراء يدربون الجنود على قذف الحجارة، وقد استخدموا لذلك نظريات علمية، عن شكل الحجر، وطريقة امساكه، وهيئة الجسم حين قذفه، ووضعية الأرجل، آنذاك، إلى آخر ما هناك من أمور فنية.‏
وحين تأكد الخبراء من تدريب الجنود تدريباً كاملاً، قدموا تقريرهم إلى حكومة الملك شارون، بينوا فيه أنهم قد أدوا مهمتهم، فنالوا مكافأة مالية مجزية، وطاروا إلى بلادهم.‏
لبس الجنود دروعاً فضية، لمعت في عيون الناس، وحين تبادل الطرفان الحجارة، طبّق الجنود تعليمات الخبراء، لكن حجارة الناس أقوى، فالحجر يطير في السماء، مع الطيور والنسور والسحاب، ويسقط على الجنود مثل كتلة ثلجية أو بَرَد صاعق..‏
صمد الجنود، يوماً، يومين، ثلاثة، خمسة، لكن قادتهم، قرروا أخيراً سحب جنودهم والعودة بهم إلى معسكراتهم، بسبب معدل إصابتهم، وتبين بعد التحليلات، أن حجارة الناس أقوى، أوجع، أطول مدى...‏
بحثوا عن السبب، كان مثل قشة في بيدر، وبالمصادفة، وجد أحد الجنود على مقربة من معسكره، قطعة صوف بحجم الكف، في طرفيها حبلان، يصل طول الواحد منهما متراً.‏
بحث الخبراء العسكريون في السلاح الجديد، لكنهم لم يتوصلوا إلى سره أو طريقة استعماله، وحين جاؤوا بسجين كان يستعمل مثل هذا السلاح، وطلبوا منه إخبارهم عن اسمه، رفض طلبهم، وحين أجلسوه فوق قطعة صفيح ساخن، صرخ قائلاً من الألم:‏
-إنه المقلاع!..‏
صرخ المحقق المحتقن الوجه في وجه السجين سائلاً إياه عن طريقة استعماله، لكن الإجابة لم تأته، لأن السجين كان قد فارق الحياة.‏
جمع الملك شارون مستشاريه. وهؤلاء بدورهم جمعوا خبراء الأسلحة اليدوية البدائية، وبصعوبة، وبعد مشاورات ومداولات، شرحوا للملك أن الحجر يوضع في قطعة الصوف، ويلوّح به القاذف، ممسكاً طرف الحبلين؛ وبعد عدة تلويحات، يترك أحد الحبلين فينطلق الحجر مثل الصاروخ، في الفضاء إلى أبعد مدى، ثم يرتطم بالوجه أو الجسم مثل لعنة.‏
صرخ الملك على الفور:‏
-زودوا جنودي بالمقاليع!.‏
قال المستشار الأصلع بصوت هادئ:‏
-أيها الملك المبجل.. يكفي ما حدث لجنودنا.. لنترك الحجارة ونرجع إلى سلاحنا الناري!.‏
-هل بدأت تخرف أيها المستشار العاقل؟!.. ألم تكن مشورتك منذ البداية؟!.‏
-نعم.. ولكن!.‏
-ولكن.. سنستمر إلى النهاية.. حتى نهزمهم بسلاحهم!.‏
أراد المستشار أن يقول.. أشك في ذلك،..".‏
إلا أنه صمت، فقد كان في عيني الملك فوران بركان مجنون...‏
أصدر الملك قراراً بإنشاء مصانع لصنع المقاليع، من صوف أكباشه الخاصة.‏
إلا أن خبراء الاقتصاد أشاروا عليه، وهم يزحفون كالسحالي أمامه، إن استيراد المقاليع من أمريكا أقل كلفة من صناعتها محلياً..‏
وعندئذ، وبعد أن قضوا ساعات طويلة على البلاط البارد، على بطونهم، نطق الملك كلمتين:‏
-استوردوا المقاليع!..‏
حملت البواخر المقاليع، في كرتون أنيق، وورق صقيل، إلى موانئ بلاد السمن والعسل..‏
وجاء رجل من الميناء راكضاً، لاهثاً إلى ملكه. وأخبره أن المقاليع الأمريكية وصلت الميناء، فصرخ بمن حوله كالمجنون:‏
-وزعوها على المعسكرات.. وليستخدمها جيشي!.‏
حينئذ، دخل مستشاره الأول من الباب، ذي الاطار‏
المذهّب، وقال بأدب:‏
-إذا كان قذف الحجارة يحتاج إلى تدريب.. فاستخدام المقاليع أولى بالتدريب!.‏
تأفف الملك من مستشاره قائلاً:‏
-أنت تعقّد الأمور يا مستشاري العزيز!.‏
-أنا أبيّن لك طريق الصواب يا سيدي!.‏
استقدم الملك شارون خبراء جدداً لتدريب جيشه على المقاليع، وحين انتهت مهمتهم، ملؤوا جيوبهم ذهباً، ثم طاروا إلى بلادهم..‏
حين ارتجفت العصافير، وطارت من مكان إلى آخر، أخذ الناس وجنود الملك يتبادلون الحجارة بالمقاليع.‏
بيد أن ثمة فرقاً واضحاً ظهر بين مقاليع الناس والمقاليع المستوردة؛ فمقاليع الناس متينة، يستجيب لها الحجر، وتلوّح من قبل أصحابها، على شكل معين، أما مقاليع الجنود فتتقطع، وبالتالي لا تدفع بالحجر إلى مدىً بعيد..‏
ركض المستشار الأصلع، وأيقظ ملكه من نومه، وقال له لاهثاً:‏
-جنودنا يهربون!.‏
-والمقاليع المستوردة!.‏
-لم تعد تنفع!.‏
صرخ الملك شارون بجنون:‏
-لماذا؟!‏
-لا أدري يا سيدي.. هناك شيء لا نفهمه.. الناس يقولون إن المقاليع المستوردة لا تنفع معهم. مقاليعهم من صوف أكباشهم، يا سيدي، لقد أصبحنا سخرية على ألسنتهم، وأخذ الجنود يتمردون.. و..‏
قاطع الملك مستشاره صارخاً بغضب:‏
-اغرب عن وجهي أيها المنحوس الأبله.. وإلا سأرجمك حتى الموت!.‏
ركض المستشار خارجاً من القصر، ناظراً خلفه، كان يتعثر فيرتمي على البلاط، فيزحف نحو الخارج مثل دودة تحتضر..‏
ركضت الشوارع فرحاً.. وابتسمت الشمس للأطفال..‏
وعرض الناس على الأرصفة مقاليعهم وحجارتهم، التي أعادت لهم ثقتهم بأنفسهم، بفخر واعتزاز، وصنعوا منها قلائد، كي يهديها مَنْ يريد الزواج إلى عروسه..‏
ثم جمعوا الحجارة المبعثرة أمام بيوتهم، وكوموها في باحاتها، ونظروا إليها باعتزاز، ورشوها بالماء صباح مساء، حتى تبقى نظيفة لامعة تحت أشعة الشمس..‏
لم ينم الملك شارون أياماً طويلة، طالت لحيته، ولم يعد مستشاره يجرؤ على المثول أمامه لإحساسه أنه سيقطع رأسه بسيفه المرصع بالجواهر والمعلّق على جدار غرفة نومه، أو يدقه بحجر مدبب الرأس من عينات الحجارة التي جلبوها إلى دهاليز قصره، ووضعوها على طاولات زجاجية أنيقة، ولامعة...‏
وحين يختطف الملك نوماً قليلاً، لم يعد يرى في نومه سوى حجارة، على شكل وجوه تلطم وجهه، تلاحقه من الأرض والسماء، وأخيراً، وجد حجراً، يستريح في زاوية ما من الشارع، وعندئذ، اقترب منه الملك بوجهه الشاحب ولحيته الشعثاء، وقال له:‏
-أيها الحجر‍!.‏
انتفض الحجر، أراد أن ينهض ويلطم وجه محدثه، إلا أنه وجده بائساً، فهدأ وأصغى إليه:‏
-ألا تتعب؟!...‏
-المتعب يستريح!.‏
-ألا تخشى التفتت؟!..‏
-مياه الأرض تعيدني إلى صلابتي!..‏
-من أين تستمد صلابتك؟!..‏
-من أرضي!.‏
-هل صحيح أن الحجر لا قلب له؟!.‏
-لولا الحجر لما كانت الدنيا!.‏
-لماذا تحب الناس في القرى والمدن؟!..‏
-لأنهم مني وأنا منهم!..‏
-والجنود!..‏
-الأرض لا تحب الظلم!..‏
-والملك شارون!..‏
ضحك الحجر، ثم ظهر الغضب عليه، قفز، طار في السماء، صار أحمر بلون الأرض، ثم أخرج لسانه أمام الملك:‏
-الملك.. ذلك الشيطان!..‏
-لو رأيته ماذا ستفعل؟!..‏
استمر الحجر يقفز، ثم قال:‏
-ارجع إلى آخر الدنيا وألطمه في رأسه!..‏
-سيلوثك دمه!..‏
-سيغسلني المطر!..‏
-مَنْ قال إن المطر سيسقط؟!..‏
-ومَنْ قال لك إنه لن يسقط؟!..‏
نهض الملك شارون، من نومه مبللاً بالعرق، حلقه قطعة حجر جافة، وفي نفسه ضيق لا تقوى الجبال على حمله..‏
بلغ صراخه أروقة القصر الممتدة:‏
-أحضروا لي مستشاري الأصلع!..‏
وبلحظات، مثل أمامه مستشاره الأصلع، نظر إليه الملك بعينين قاسيتين، نظرة عتاب وغضب، وتشنج:‏
-سلامتك.. يا ملكي العزيز!..‏
-أين أنت؟!..‏
-أنت الذي طردتني يا ملك الزمان!..‏
-كنت غاضباً!..‏
-وما زلت!..‏
-أتشمت بي؟!..‏
-ليكسر رأسي بحجر لو شمت بك!..‏
هدأ الملك قليلاً، نهض من فراشه. تمشّى في الغرفة، بملابسه الحريرية، ثم قال فجأة لمستشاره:‏
-أريد حلاًّ لورطة الحجارة!.‏
-الحجارة ليست ورطة يا سيدي!..‏
- لكل مسألة حل!..‏
-لجأنا إلى أكثر من حل.. وما زالوا يهزموننا بحجارتهم!..‏
-لنجرّب أكثر!..‏
-إلى متى؟!..‏
قال الملك ذلك. ورفع إصبعه في وجه مستشاره الأثير إلى قلبه..‏
-سيدي.. أليست المشكلة هي الحجارة؟!..‏
-أنت تعرف ذلك!..‏
-لنصادر الحجارة!..‏
رفع الملك يديه، وضمَّ قبضتيه، وكأنه أمسك الحقيقة، لمعت عيناه، اقترب وجهه من مستشاره. وفي عينيه ابتسامة انتصار:‏
-لنصادر الحجارة.. نعم.. لنصادر الحجارة!..‏
-متى؟‏
-الآن.. قبل الغد..!. نفذوا أوامري!..‏
وارتجف كل مَنْ كان في أروقة القصر والملك يردد:‏
-نفذوا أوامري.. بمصادرة الحجارة!...‏
أغلقت المقالع بالشمع الأحمر، وصودرت السيارات التي تنقل الحجارة، ودوهمت البيوت وصودرت أكوام الحجارة النظيفة من باحات البيوت، وقبض على كل مَنْ كان يحمل حجراً في يده..‏
أما البناؤون فقد صودرت حجارة البناء من أيديهم، فعادوا إلى بيوتهم وقد فقدوا أعمالهم..‏
ضحك الملك شارون ضحكة انتصار، ولمعت عيناه وهو يرى الشوارع، وأيدي الناس فارغة من الحجارة، حين لفَّ بعربته المقاوم زجاجها للحجارة ساحة مدينة كبيرة.‏
وحين عاد إلى قصره، استقبله مستشاره الأصلع، بوجه ضاحك قائلاً له:‏
-هل أنت مسرور الآن يا سيدي؟!.. لقد انتهت ورطة الحجارة!..‏
-نعم.. ولو أن مشورتك جاءت متأخرة قليلاً!...‏
-الإنسان يتعلم من التجربة يا ملكي العزيز!..‏
-سأنام الآن مرتاحاً!..‏
-نوم الهناء يا سيدي!..‏
دخل الملك غرفته الواسعة، وغط في نوم عميق، وابتسامة طفل ترتسم على شفتيه.‏
وفي الأيام التالية، لم يكن ثمة ما يدعو للاهتمام بالحجارة مرة أخرى، فعاد الجنود إلى حمل السلاح، وساروا دوريات في عرباتهم، في شوارع المدن والقرى الهادئة..‏
وبهذه المناسبة، دعا الملك إلى احتفال كبير، فجمع قادته العسكريين ومستشاريه، وأخبرهم أنه سيطعمهم لحماً مشوياً على الحجارة الساخنة، في حديقة قصره، حين يصبح القمر بدراً..‏
وكان الملك قد أمر خبراء الأفران باختراع فرن خاص لتسجين الحجارة، بالأشعة تحت الحمراء، بهذه المناسبة العظيمة.. على أن ينقلوا من الحجارة المصادرة أقساها وأملسها..‏
عند صعود القمر كبد السماء، بدأت الحفلة، وأخذت الحجارة تُسخّن عند تلألؤ أول نجمة في السماء..‏
لبس الملك أبهى حلة لديه، وتبعه مستشاره الأصلع مثل ظله، ونزلا الدرج الرخامي.‏
نظر الملك إلى أكوام الحجارة المنتقاة، فارتعش جسده، بينما كانت أكوام اللحم من الأغنام الطرية الصغيرة الرضيعة تتكدس إلى جانبها مثل جبل من لحم..‏
وقف الملك شارون قائلاً، بينما مستشاره الأصلع يبتسم من خلفه:‏
-سيداتي.. سادتي.. كلوا واشربوا حتى الصباح.. اسهروا.. وكلوا اللحم المشوي على الحجارة.. فالحجارة لن تصبح بعد اليوم إلا للشواء..‏
ورفع الملك كأس النبيذ الأحمر، ثم عبه دفعة واحدة، فعبت الأفواه خلفه ما في الكؤوس النمساوية من السائل الأحمر..‏
وحين قدَّم له طبق اللحم المشوي الأول، قرب القطعة الأولى من فمه، وعندئذ، تناثر اللحم المشوي والنَّيِّئ، وتناثرت أزهار القرنفل والنرجس وأوراق أشجار الصنوبر، وارتجفت الحديقة والقصر، وكأن بركاناً ثار غاضباً...‏
لقد انفجرت الحجارة.. في اللحظة التي ضحك فيها القمر..‏
بعد تلك الحادثة، أمر الملك شارون أن تبعد الحجارة من قصره، أن تنفى، أن تودع السجون المظلمة..‏
في غضون أيام، وضعت الحجارة في غرف السجون الفارغة، وحين لم تكفِ بنيت سجون جديدة من حديد، وزجت الحجارة الباقية فيها..‏
زاد ظلم الملك شارون، فقام بمذابح واغتيالات جماعية، لكل مَنْ كان له صلة بالأرض والحجارة..‏
وكلما زاد ظلمه زادت كوابيسه، فكان يرى الحجارة في منامه بأشكال مختلفة، فمرة يراها على شكل غول، وأخرى يراها على شكل تنين له عدة رؤوس، وثالثة يراها على شكل طوفان يغرق مملكته..‏
وذات مرة أمسك الجنود شاباً يحمل حجراً، أخرجه من بيته حين حفر بئراً، فزج بالسجن دون محاكمة، وقد رأى الملك ذلك الحجر على طبق من فضة، وهو يرتجف، وحينئذٍ صرخ:‏
-اهدموا بيته.. وشردوا أهله!..‏
توجهت الجرافات إلى بيت الشاب، وجرفته من أساسه، ثم حملت حجارته إلى السجون، أما جثث ساكنيه فقد لفت بأوراق الزيتون ودفنت..‏
في نهاية القرية، سمع أحدهم بما حدث، وليلاً، فرَّغ إحدى غرف بيته من محتوياتها، وهدمها، حجراً حجراً، والناس نيام، وحين أفاق الصباح، وجدها الناس كومة حجارة، فرشقوا الجنود، مما اضطر هؤلاء إلى الاحتماء بمعسكراتهم..‏
انتشر خبر ما حدث بسرعة كبيرة..‏
في البداية هدم الناس الغرف التي ليسوا بحاجة إليها، ورجموا بحجارتها الجنود، ومن ثم استغنوا عن جميع غرف منازلهم، إلا من غرفة واحدة، لإيواء أطفالهم والعجزة منهم.‏
بدأ الملك شارون يركض في غرف قصره وأروقته، ويصيح كالمجنون:‏
-الحجارة.. الحجارة.. تخلصوا من الحجارة!..‏
اجتمع أطباؤه، وقرروا زرقه بحقن مهدئة كل عدة ساعات، من أجل الاستماع إلى أوامره بأعصاب هادئة..‏
وبعد أيام، استدعى على الفور، مستشاره الأصلع، وصرخ فيه قائلاً:‏
-لماذا لم تفكر بالبيوت؟!..‏
-سيدي الملك.. لأول مرة في التاريخ.. يستغني شعب عن بيته من أجل أرضه!..‏
نتف الملك شارون لحيته، وصرخ:‏
-على المستشار الأول أن يتوقع الأسوأ!.. خلصني.. ماذا تفعل الآن؟!.. الناس يهدمون بيوتهم ويرجموننا بحجارتها!.‏
تحدث المستشار بهدوء:‏
-شرّد الناس.. وأقفل البيوت بالشمع الأحمر!..‏
قال الملك شارون لمَنْ فقد صبره:‏
-الناس كثيرون.. والبيوت أكثر!..‏
-ليس هناك حل آخر!..‏
انفتحت أفواه السجون للناس والحجارة معاً، وشمّعت البيوت بالشمع الأحمر.. وشرد الناس الذين هدموا بيوتهم ليقاتلوا الجنود بحجارتها، إلى وادي الزهور، أما الآخرون فقد لجأوا إلى حقول الزيتون والحمضيات، ولجأت فئة ثالثة إلى حفر سقفوها بسعف النخيل.‏
فاضت السجون، وتعب الجنود، وحينئذ، جاء قواد الملك إليه، وهم يلعنون مشورة مستشاره صائحين:‏
-هدمنا الكثير من البيوت، وسجنا سكانها وحجارتها.. لكن هناك أناساً كثيرين.. وحجارة كثيرة.. إن بين الناس والحجارة صداقة حميمة... يا مليكنا.. لهثنا أمام الحجارة كالكلاب...‏
أمر الملك أن يؤتى بمستشاره الأصلع مقيداً، وحين مثل أمامه، هدده الملك بوجه غاضب:‏
-هيا.. أعطني مشورتك الأخيرة!.. وإلا سأقطع رأسك وأقطّع لحمك.. وأرميه لكلابي المسعورة!..‏
-ارحمني يا سيدي!..‏
-المشورة الأخيرة.. وإلا!..‏
قال المستشار الأصلع وهو يرتجف على الرخام البارد:‏
-امنح البيوت لجنودك.. وأفرج عن الحجارة المسجونة، حتى لا تصلها الأيدي.. وضعها في الساحة الكبيرة للمدينة، وابنِ قصرك فوقها.. عندئذ، تضمن، يا سيدي موت الحجارة إلى الأبد!..‏
صرخ الملك بصوت جنوني:‏
-افعلوا ما قال!..‏
ثم سحب المستشار على بطنه إلى سجن انفرادي..‏
استنفر الجنود العربات والقطارات والبهائم لنقل الحجارة، إلى ساحة المدينة.‏
انطمرت الساحة في المدينة بالحجارة، ووصلت الحجارة إلى علو عدة طوابق، أما الجنود فقد سكنوا البيوت الخالية.‏
وحين بلغت الحجارة عنان السماء، سيجت بأسلاك كهربائية، وعيون أشعة تحت الحمراء، وحينئذٍ، ضحك الملك صارخاً:‏
-ابنوا قصري فوق حجارة الناس!..‏
حضر البناؤون، وحين اكتمل القصر، صعد الملك شارون إليه بطائرة مروحية خاصة، وحين نظر إلى أسفل، لم يرَ جنوده، ولا أولاده، ولا نساءه..‏
في القصر الجديد، أحسَّ الملك شارون بالوحدة، صرخ، فسمع صدى صوته مشروخاً آلاف الأصوات، وأمر باللاسلكي أن يؤتى إليه بأولاده وزوجاته، ومستشاريه وعلى رأسهم مستشاره الأصلع، وسئل إن كان يريد جنوده أيضاً، لكنه صرخ قائلاً:‏
-لا.. ليحرسوا السياج المكهرب!..‏
من الشمال الشرقي، لمح الملك شارون غيمة سوداء على شكل حجر، ارتجف قلبه، كبرت الغيمة، كبر الحجم، سقط المطر، سقط الحجر، اهتزت الحجارة تحت قصر الملك شارون، ارتجف القصر وكأنه يحتضر قبل أن يسقط، سقط الملك شارون، وجرفته الحجارة التي اندفعت نحو الجنود كالسيل..‏
عاد الناس، عادت البيوت، بنيت بالحجارة بيوت جديدة، نحت الناس حجراً من حجر، ووضعوه نصباً لجندي من حجر، في الساحة التي بنى فيها الملك شارون قصره فوق الحجارة التي لن تموت..‏

[/align]

نصيرة تختوخ 14 / 11 / 2010 08 : 01 AM

رد: اسطورة الملك شارون والحجارة
 
خيال باذخ أستاذ جمال ، قصتك فيها عبر.
الإرادة كالحجر يصعب التخلص منها ، طويلة العمر و تهدد الظالمين لكنها و لاشك تحتاج الكثير من التضحيات و الإصرار .
لك تقديري


الساعة الآن 14 : 06 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية