![]() |
ملف / في الذكرى الأولى لرحيل محمود درويش
[align=justify]
رجاء أن يقدم كل من يريد قراءة أو رأيا أو زاوية أو سوى ذلك – مختارات مثلا – عن الشاعر الكبير محمود درويش بمناسبة مرور عام على رحيله .. نقدم هنا الصفحة الثقافية لصحيفة البعث اليومية السورية والمقالات التي نشرت فيها اليوم .. 6/8/2009 .. -------- إطلالة : أثر الفراشة لايــــــزول بقلم : آصف ابراهيم الاحتفاء بذكرى الرحيل الأول لا يعني استحضاراً للغائب، بل لأن «في البال أغنية تتأرجح بين الحضور وبين الغياب...»، أغنية سنشدو بها في السنة الأولى بعد الثامنة والستين، العمر الذي قضيناه في حضرة العاشق لفلسطين المسافرة، الفارس للحصان الذي بقي وحيداً بعد أن غزا خياله العالم، فكان من آخر فرسان زمن القوافي الجميل، وما نحن اليوم إلّا في حالة حصار وجوع ووهن، رغم أن «أثر الفراشة لا يُرى.. أثر الفراشة لا يزول»، والآن «وأنت مسجى فوق الكلمات وحيداً، ملفوفاً بالزنبق والأخضر والأزرق، أدرك ما لم أدرك: أن المستقبل منذئذ، هو ماضيك القادم». ------- درويش وانتباه المرآة... الصوت والصمت في الكتابة الشعرية بقلم : محمود السرساوي إذ لا تجد الذات حضورها إلا من خارجها، لا من داخلها، متوضعة في شوائب الواقع وحسيّته، لا في مضمره أو تشكّله المتخيّل الجديد، ولذلك تعيد ما قيل عنه، لا ما يعتمل فيه.. فيبقى الكلام في حدود المتصور المنجز عنه أكثر من الممكن فيه، ويغدو الناقد وسيطاً بين الشاعر والقارىء، مفسراً النصوص بقوالب إنشائية جاهزة ومعطاة مسبقاً، تصلح لكل النصوص، ولا تصلح لشيء بآن. وتأتي أغلب القراءات النقدية، التي تناولت تجربة الشاعر محمود درويش في هذا السياق، لتؤكد دوماً على انتماء الشاعر للأرض والإنسان وقضاياه، وبلغة مكثفة، مدهشة، وصور حاذقة، وموسيقا عذبة، وغنائية جارحة، ومعجم غني، ومخيلة جامحة.. أو العكس تماماً، كما يذهب البعض إلى مطاردة مواقف الشاعر السياسية والتباساتها، ليسقطها على النصوص، مشككاً ليس في جمالية النصوص الشعرية وحسب، بل وفي وطنيته أيضاً، وفي الحالتين تمارس هذه الكتابة البائسة جهلاً نقدياً مطبقاً، يجد مرجعيته في عقل الغائي يتماهى مع تصورات ذاته، ولا يبصرها إلا من خلال ذوبانه في الآخر، أو رجمه بكل عداوة ممكنة، ناسياً أو متناسياً مساحة الاتفاق والاختلاف في القراءة، ونسبيتها الموضوعية، فإعادة تشكيل النص نقدياً يستدعي القدرة على التقاط الغث من السمين فيه، كحد أدنى، وإظهار تقنياته، وتبيان مستوياتها، وإدراك بنائيته الجمالية، دون ادعاء بالقول الفصل، إذ غالباً ما نطيع الشعر أكثر مما نستطيعه مادام الشعر هو «الكشف عن عالم لا يكفّ عن الكشف» -بتعبير رينيه شار- نظراً لدينامية لغته، وسعة آفاقها وتغير تناولاتها، بتغير المعطيات حولها، فيقول الشعر تجلياته المتواصلة في صيرورتها الممكنة دون حدود قصوى ونهائية، وبالتالي لا يمكن القطع في الرأي النقدي ومعياريته، فلا تأخذنا غواية الامتلاك، التي تدفعنا إلىالأصول في المحاكمة النقدية، وممارسة استبداد أحادي الرؤية، والمعالجة، فأدوات الشاعر، وطريقة تطويعه للمعطيات، ورؤيته للحفر في الكلام، هي «مربط الفرس»، ولها الأولوية في النقد الشعري، كما أعتقد ولا نجد غضاضة في الاعتراف بأن بعض التجارب الشعرية تغريك بقراءة مغايرة بما يحيطها من تجارب، بل وتملي على النقد غوايتها أحياناً، وتدفعه إلى المساءلة من داخلها، وهذا النقد لا يستحضر من الغائب أو المسبق المعلّب ضمن منهج قائم ومطمئن، بل تفرضه بصيرة الشعر والناقد معاً في التناغم والتواتر والاختلاف الجمالي داخل فضاء النص الشعري- النقدي، فالنقد يتوغل في نسيج مستويات البناء الشعري ليقول كيفيته كوجود ووجوب، والاختيار النقدي لتجربة دون أخرى، لا يعني بالطبع- اختصار الحدائق بوردة واحدة مهما حملت من رائحة مشتهاة، إنما هو السعي لوصول مجرى نهر كبير لا التحديق في ضفة من ضفافه. وتكتسب شعرية محمود درويش خصوصيتها على هذا الصعيد، بعيداً عن نجومية الشاعر، وسطوته في المشهد الشعري العربي بعامة، والفلسطيني منه بخاصة، فقد كثرت الدراسات التي واكبت مسيرته بين توثيق وتصنيف ومتابعة، لمراحل شعريته بدءاً من «سجل أنا عربي»، وليس انتهاءً «بجدارية» وما تلاها من أعمال، إذ لم يتسنَ للنقاد بعد تناول آخر نتاجاته، رغم ما كتب من مقالات صحفية عنها هنا وهناك، لكنها لم تصل حدود الدراسة بالمعنى النقدي، ويلاحظ في معظم ما قيل هو التركيز على تفسير النصوص وإحالاتها إلى مصادرها الثقافية، وسياقات مرجعيتها المعرفية، وتوظيفها، وإشكالية الآخر فيها، وتطور رؤيتها للقضية الوطنية و..الخ. ولا أعتقد أن شعرية «محمود» تتأتى من خلال موضوعاتها على أهميتها، أو من خلال ترسيم العلاقة مع الآخر، وانعكاساتها في شعره، بل أجد من الأهمية بمكان النظر العميق إلى التجربة من حيث تطور تشكيلها الشعري وعدم الوقوف عند التوصيف والتصنيف لنواظمها العامة الخارجية، بل الدخول في مستويات الكيفية، التي يشكّل فيها الشاعر قصيدته، وهي التي تحدد خصوصية الشاعر وتميزه، وهي وظيفة النقد الحقيقي، التي لا تضيء التجربة فقط، بل وتساهم مساهمة كبرى في تطورها - إن استطاعت ذلك- وهذا ما يفتقده شعر محمود درويش والشعر العربي عموماً. فنحن أمام كتابة شعرية لعبت دوراً تأسيسياً ومفارقاً في جماليتها للسائد في الشعر الفلسطيني، ومباشريته و«تعبويته»، و«إعلاميته»- إن صح التعبير- واحتشاده العارم بمفردات الموضوعة السياسية لا الرؤية السياسية، ذلك النمط التبشيري، محدود التناولات، والمختزل عالمه ضمن منظور إيديولوجي معطى مسبقاً، يعيد اجترار ما يقوله البيان السياسي «هذا صديقي وذاك عدوي» وفق ثنائية «الفلسطيني البطل والفلسطيني الضحية» غافلاً أو متغافلاً عن قارته الداخلية، ومكنوناتها الإنسانية العميقة قافزاً عن كل المتغيرات التي حدثت، وطالت أبجديات تحديداته الأولى ومفردات واقعها، بدءاً من العلاقة مع الوطن، وليس انتهاء بالنظر إلى الفلسطيني ككائن بشري غير مجرد، يضعف، ويحب، ويضجر، ويقرف و.. الخ». وإذا كانت مثل هذه الكتابة لها مبرراتها في بدايات انطلاق العمل الفلسطيني المقاوم من أجل تعبئة الجماهير العربية، وإيصال صوت فلسطين إلى العالم إلا أن استمرارها وإلى وقت غير قصير في المشهد الشعري الفلسطيني، قد قلل كثيراً من جمالية هذا الشعر وأهميته في خارطة الشعر العربي، وكانت لشعرية محمود درويش المغايرة -ضمن أصوات أخرى لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة- دورها في إعادة الشعر الفلسطيني إلى السياق الإبداعي الحقيقي وبجمالية عالية، تقول الواقع ذاته، لكن بعد تحويله الكياني الداخلي إلى مستوى الرمز، مخلصة إياه من ثقله الواقعي، ووطأة السياسي اليومي في تغيراته المتسارعة، وقد أدرك الدرويش هذه الحال مبكراً، إذ طالب النقاد العرب في مقالة تحت عنوان «أنقذونا من هذا الحب القاسي» مطلع السبعينيات أن «يأخذوا بالمعايير الفنية مقابل المعايير السياسية في النص، فنحن لسنا بديلاً عن الثقافة العربية»، وأرى لاحقاً بأن قضية فلسطين هي قضة جمالية، وليست سياسية فقط»، فانحاز بالتالي لبلاغة الشعري في التناول المختلف للمستوى السياسي، وقد تفاوتت مستويات تشكيله الشعري بين قصيدة وأخرى وأحياناً داخل القصيدة الواحدة، محافظاً في معظم ما ينشره على سوية معينة لشعريته، تاركاً أبوابها مفتوحة باستمرار للتطوير، والاختبار، والتجريب، دون قطع كامل مع الموروث الشعري، أو التماهي مع السائد في راهنه الشعري. فلغته الشعرية دينامية متحركة، وقادرة، في تشكيلها على التحول والتحويل «خارجي- داخلي، وداخلي خارجي، وداخلي- داخلي و... الخ»، حتى غدت أقلام كثيرة فلسطينية وعربية، تقلّد أسلوبيته الغنائية مستخدمة تضاعيف رؤيتها ودلالاتها، وعلاقاتها الداخلية اللغوية، وتشكيل صورها، وكل ما تحمله أحياناً كتابة «الدرويش» من سمات. فالشاعر لا يركن إلى منجزه الشعري، بل يعمل باستمرار على تجاوزه في أعمال جديدة، وإن أعاد العزف على الموضوعة ذاتها في أعمال أخرى برثاء البطولة والخسارة والمآل، حتى يكاد أن يكون راثياً من طراز رفيع للواقع العربي عموماً، والفلسطيني منه خصوصاً، ولم يلتفت إلى مفردات ذاته الخاصة إلا مع مجموعاته الأخيرة بعد أن كان يوظفها سابقاً في كتابة السيرة الجماعية، متنقلاً في تشكيله الشعري من الغنائية البسيطة إلى القصيدة شبه الملحمية، ثم الدرامية المركبة ومتعددة الأصوات ، والضمائر، وبالتشكيل الأفقي والعمودي للحالة الشعرية المعطاة. إذاً محمود درويش شاعر ليس من السهل نمذجة أعماله في إطار نقدي ثابت ومحدد، تحديداً نهائياً... فإن أخذنا قصيدة «أحمد الزعتر» مثالاً -1977- والتي كما أرى كانت بمثابة البين الجمالي الثاني للحداثة الشعرية الفلسطينية، بعد مرحلة ما سمّي «بالشعر المقاوم»، فقد استطاع الشاعر في هذه القصيدة أن يرتفع بحدث «صمود مخيم تل الزعتر» إلى مستوى الرمز الأسطوري، مخلصاً الواقع من سطوة واقعيته في النص، ومحولاً بشكل كياني وجوهري اللغة الشعرية من مستواها الخارجي الوصفي الانفعالي إلى مستوى الرؤيا، فبدا الفلسطيني في القصيدة رمز عذابات إنسانية كونية ووجودية، بسيطاً صعباً، يمتلك من القوة قدر ما يمتلك من الهشاشة، أي تمت عملية استرجاع للصورة الإنسانية، التي سلبته إياها الكتابات الاحتفائية الإنشائية، وثقافتها السياسية المختزلة، التي حولته إلى كائن مجرد وخرافي، لا يجيد سوى الضغط على الزناد، والإقبال على الموت، وليس ذلك «المنسي بين فراشتين، والذي يأبى التشابه مع الرمال، وينتمي للأزرق الطليق». فكانت لغة شعرية عالية البناء و«المستويات التخييلية»، لغة متخلصة من مباشرية اليومي السياسي دون أن تخلو من مستوى سياسي معين، بعد «فلترته» من وطأة الصخب والشعار والتفاصيل المادية في الواقع، وبحساسية إبداعية مغايرة للسائد آنذاك، ولا يمكننا بنظرة سريعة كهذه إلى قراءة هذه العلاقة المميزة في تجربة الشاعر، إنما نسوقها كمثال لتقدمها على أعمال أخرى أتت بعدها بأعوالم كـ «مديح الظل العالي» -1983- مثلاً التي ابتدأت من ذروة لحظة خارجية وصفية فسادت فيها الخطابية بثقل حاد لبلاغة البيان السياسي، وبمنبرية عالية لاكتها الألسن، وعافتها العقول، فأضحت في الكثير من مقاطعها، مجرد ردود أفعال غاضبة، أكثر منها رؤية ورؤيا، ويبدو أن الحال الفلسطيني بتغيراته الدراماتيكية أحياناً لا يفسح المجال للشاعر في التقاط أنفاسه، خاصة وأن النص الشعري يتطلب مسافة زمنية مع الحدث كي يستطيع التخفف من وطأته وإعادة تشكيله إبداعياً، وأخيراً نقول محمود درويش لأن النقد الشعر العربي - وباستثناءات محدودة- لم يتناول هذه التجربة الشعرية بشكل حقيقي، ويظل السؤال الذي سيجيب عنه المستقبل هو: ما الذي يبقى من شعر محمود في ذهن محبيه بعد الانتقال من فلسطين الحلم إلى فلسطين الوطن، كما كان يتمنى ونتمنى أيضاً. -------- في الزمن الثقافي المختلف.. محمود درويش... وجماليات الذات الشاعرة بقلم : احمد علي هلال يقول محمود درويش في الهدهد: «لم نقترب من أرض نجمتنا البعيدة بعد، تأخذنا القصيدة من خرم إبرتنا لنغزل الفضاء، عباءة الأفق الجديدة. قال: اتركوا أجسادكم كي تتبعوني واتركوا الأرض-السراب كي تتبعوني، واتركوا أسماءكم... لا تسألوني عن جواب..إن الجواب هو الطريق ولا طريق سوى التلاشي في الضباب، لا وشم للطوفان فوق تجعّد الجبل الذي اخضرّت حدوده، لكن فينا ألف شعب مرّ ما بين الأغاني والرماح، جئنا لنعلم أننا جئنا لنرجع من غياب لا نريده، ولنا حياة لم نجربها، وملح لم يخلدنا خلوده». لكن الذات الشاعرة، تعود متأملة ذاتها، في نصوصها الكاشفة بضمائرها وأفعالها، ولعل مستوى الكشف ترجيح للأنا، حينما تتعدد في ذوات أخرى، إنها دورة حياة النص في إشارتيه وأثره الجمالي حينما يخصب الحواس، بل يجعلها- النص- في حالة تقابل وانتباه، كما في «كزهر اللوز أو أبعد» إذ تبدو الضمائر في حركة متواترة ما بين «أنت، هو، أنا، هي،» هكذا لتنتهي الذات كمعادل، أو ليتبّدل شكلها ومقامها: «وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكّر بغيرك (ممن فقدوا حقهم في الكلام» وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكّر بنفسك «قل: ليتني شمعة في الظلام» هو، لا غيره، من ترجل عن نجمة لم تصبه بأي أذى. قال: أسطورتي لن تعيش طويلاً.. ولا صورتي في مخيلة الناس/ فلتمتحني الحقيقة. «وكأنني وحدي..أنا هو أو أنا الثاني..رآني واطمأن على نهاري وابتعد..في البيت أجلس، لا سعيداً لا حزيناً.. بين بين، ولا أبالي إن علمت بأنني حقاً أنا.. أو لا أحد!». وعلى الأرجح فإن جماليات التقابل، لا تفصح عن نفسها في تنضيد الذات الشاعرة لما هو حدسي واستعاري فحسب، وليس الاكتفاء بوظيفة بلاغية، قوامها الانزياح وسواه من التقانات، إنه المجال الحيوي لتطلّ الذات على أفق أوسع، لتتجلى كحقيقة تنشد أثراً جمالياً في المحسوس والمجرد، وهو الصوت، الذي يتعدد في مرايا التلقي كأنه في أنساقه مجاز جملة مفتوحة على احتمالات التأويل، دون أن تذهب لذة النصّ، أو تتشظى حينما تستجدي الذائقة الأثر المعرفي وتكتفي به، أثر لا شك بأنه يدلل على حداثة شعرية متجددة، تجد كثافتها في اللحظة «الدرويشية» وأسئلتها المتواترة في منجز درويش الشعري، وانفتاحه على فعل القراءة المحايثة، لجماليات ثاوية في نصوص، لن تنتهي قراءتها، لأن ثمة تنبهاً جمالياً تثيره في ذاكرة التلقي، قصدية الشاعر، وطرائق التشكيل وخاصيات البناء الشعري، على المستوى البصري والرؤيوى في آنٍ واحدٍ. إذ إن التنبه الجمالي سوف تقابله متعة معرفية، ترقى إلى تشكيل ثقافي مختلف، يجعل الذات الشاعرة، نسيج ذوات متعددة، تحضر في مساحة المتخيّل وبرهاته وكثافة انخطافها لتاريخ فاعل، تشي به القصيدة كنص متعالٍ، يطيل التأمل بالأشياء يأخذنا إلى بديهيته تماماً كالحياة، كما حقيقته ليعطي جماليات إضافية في مضمر القول الشعري وهواجسه النبيلة، واكتب: «ليس الجمالي إلا بلوغ الملائم» هكذا يقول درويش . ولعله يضيف: فليس الجمالي إلا حضور الحقيقي في الشكل (..) وغنّ، فإن الجمالي حرية/ أقول: الحياة التي لا تُعرّف إلا بضد الموت..ليست حياةً». هل ذلك ما أراده زيتونة المنفى، ليُطل من علٍ، وليرى ما يريد؟!.. ------------- محمود درويش وفتنة الكلام بقلم : طلعت سقيرق طبعاً لا يأتي ديوان «كزهر اللوز أو أبعد» مفرداً في الحكم، فأنا أقصدعموم شعر درويش وصفحته الإبداعية كلها، ولكن لقرب الديوان مني أعود إليه في كثير منالأحيان منقباً مفتشاً عن معاني السر والسحر معاً.. ومن قرأ هذا الديوان لا بدّ أنيلحظ أن محمود درويش قد صفى الكلام أو دوزنه على قياس خاص، يدخل في اليومي ولا يتركالوطني، ويدخل في الوطني دون أن يغادر اليومي، فكان هذا المشترك في التعبير عنوانيوميات الإنسان الفلسطيني بكل حالاته.. فهناك «أنا» الشاعر، وهناك «هو» المتصلبالشاعر، وهناك تداخل مابين الاثنين بصورة حاول الشاعر محمود درويش أن يجعلهافريدةً قدر المستطاع بعيداً عن أي ضجيج أو استغراق بالصور البلاغية، لذلك كانتإشارته في مطلع الديوان من كلام التوحيدي: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنهنثر، ونثر كأنه نظم»..معبرة خير تعبير عما أراده من عزفه المنفرد ربما في هذاالديوان، وهو عزف جمالي، فيه الكثير من ملامح محمود درويش، مع محاولة قصّ الزوائدالتي تحملها بنية الصورة البلاغية أحياناً، فتذهب بالشاعر بعيداً عما كان يريد أنيقول لتكون الصورة هي المسيطرة.. هنا لا يريد محمود درويش شيئاً من كل هذا، فهويفرد الكلام الذي يقارب أو يدخل الذات في تعدد حالاتها بانياً ما هو خاص في صورتهبعيداً عن أي شرك قد تنصبه البلاغة أو الصورة البلاغية للشاعر.. يقول في قصيدة : «كما لو فرحت» معبّراً عن حالة عادية جداً لكن بلغة الشاعر المصفاة : «كما لو فرحت: رجعتُ ضغطت على/جرس الباب أكثر من مرة وانتظرت/ لعلي تأخرت لا أحد يفتح الباب لا/ تائه في الممر/ تذكرت أن مفاتيح بيتي معي فاعتذرت/ لنفسي: نسيتك فادخل/ دخلنا أناالضيف في منزلي والمضيف/ نظرتُ إلى كل محتويات الفراغ، فلم أرَ/ لي أثراً ربما.. ربما لم أكن هاهنا..لم/ أجد شبهاً في المرايا ففكرت أي/ أنا، وصرخت لأوقظ نفسي منالهذيان/ فلم أستطع .. وانكسرت كصوت تدحرج/ فوق البلاط وقلتُ: لماذا رجعتُ إذاً؟؟. / واعتذرت لنفسي: نسيتك فاخرج/ فلم أستطع، ومشيتُ إلى غرفة النوم/ فاندفع الحلمنحوي وعانقني سائلاً:/ هل تغيّرت؟؟ قلت تغيرتُ فالموت/ في البيت أفضل من دهس سيارة/ في الطريق إلى ساحة خالية..». السطر المدور..الاقتصاد في المفردات.، الحكاية،الهاجس، اللعب على وتر الغياب والحضور، دوران الذهن في معنى الحياة ومعنى الوجود،الشعور بالوحدة الضاغطة.. والكثير غير ذلك في مفردات قليلة مليئة بنبض الشعر وعدوهووصول الشاعر إلى صفاء الرؤيا وفلسفته للحياة والوجود..كل ذلك، وما نجده في شعردرويش يبقيه شاعرَ فتنة الكلام بامتياز. -------- لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي شعر : محمود درويش تجرحُ الحائطَ: اقتربَ الموتُ منِّي قليلاً فقلتُ له: كان ليلي طويلاً فلا تحجب الشمسَ عنّي! وأهديتُهُ وردةً مثل تلك... فأدَّى تحِّيَته العسكرية للغيبِ، ثم استدارَ وقالَ: اذا ما أردتك يوماً وجدُتك فاذهبْ! ذهبتُ... انا قادمٌ من هناك سمعتُ هسيسَ القيامةَِ، لكنني لم أكن جاهزاً لطقوس التناسخ بعد، فقد يُنشد الذئب أغنيتي شامخاً وانا واقفٌ، قرب نفسي، على اربعٍ هل يصدقني أحد ان صرخت هناك: أنا لا أنا وأنا لا هُو؟ لم تلدني الذئابُ ولا الخيل... اني خُلقتُ على صورةِ الله ثمّ مُسختُ الى كائنٍ لُغويّ وسمّيت آلهتي واحدا واحداً، هل يصدِّقني احد ان صرخت هناك: انا ابن أبي، وابن أمي... ونفسي وقالت: أفي مثل هذا النهار الفتّي الوسيم تفكِّر في تًبِعات القيامةِ؟ قال: اذن، حدِّثيني عن الزمن الذهبي القديم فهل كنتُ طفلاً كما تدّعي امهاتي الكثيرات؟ هل كان وجهي دليل الملائكةِ الطيّبين الى الله، لا أتذكّر... لا أتذكّر أني فرحتُ بغير النجاة من الموت! من قال: حيث تكون الطفولةُ تغتسل الأبدية في النهر... زرقاء؟ فلتأخذيني الى النهر قالت: سيأتي الى ليلك النهر حين أضُمُّك يأتي الى ليلك النهر اين أنا الآن؟ لو لم ارَ الشمسَ شمسين بين يديك، لصدّقتُ أنك احدى صفات الخيال المروَّض لولا هبوب الفراشات من فجر غمّازتيك لصدّقتُ أنّي اناديكِ باسمك ليس المكان البعيد هو اللامكان وانتِ تقولين: “لا تسكن اسمك” “لا تهجر اسمك”! ها نحن نروي ونروي بسرديّة لا غنائيةٍ سيرةَ الحالمين، ونسخرُ مما يحلّ بنا حين نقرأ ابراجَنا، بينما يتطفّلُ عابر دربٍ ويسأل: اين انا؟ فنطيل التأمّل في شجر الجوْز من حولنا، ونقول له: ههنا. ههنا. ونعود الى فكرة الأبدية! ليس المكان هو الفخ... مقهى صغير على طرف الشارعِ الشارعِ الواسع الشارع المتسارع مثل القطارات تنقل سكانها من مكان لآخر... مقهى صغير على طرف الشارع الشارع الواسع الأسطوانة لا تتوقف- قالت له قال: بعد دقائق نخرج من ركننا الى الشارع الواسع المتسارع مثل القطارات، ثم يجيء غريبان، مثلي ومثلك، قد يكملان الحديث عن الفنّ، عن شهواتِ بيكاسو ودالي وأوجاعِ فان غوغ والآخرين... وعمّا سيبقى من الحب بعد الاجازة، قد يسألان: افي وُسْع ذاكرة ان تعيد الى جسدٍ شحنة الكهرباء؟ وهل نستطيع استعادةَ احساسنا بالرطوبة والملح في اوَّل البحر بعد الرجوع من الصيف؟ ليس المكان هو الفخ في وسعنا ان نقول: لنا شارع ههُنا وبريد وبائع خبزٍ ومغسلةٌ للثياب وحانوت تبغٍ وخمر وركنٌ صغير ورائحةٌ تتذكّر ها نحنُ نشربُ قهوتَنا بهدوءِ اميرين لا يملكان الطواويس، انت اميرة نفسك سلطانةُ البر والبحر، من أخمص القدمين الى حيرةِ الريحِ في خصلة الشعر. [/align] |
رد: ملف / في الذكرى الأولى لرحيل محمود درويش
[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]بصمة شاهدة على نبلك وشيمك الأدبية.
رحمك الله أستاذ طلعت ورحم الله محمود درويش ونتمنى لهذا الملف أن يكبر كما تمنيته.[/align][/cell][/table1][/align] |
الساعة الآن 32 : 01 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية