![]() |
الموت والجنس
أسرعت في طريق العودة، وكنت أدرك جداً بأنّني قد ارتكبت خطاً فادحاً عندما غادرت المنزل. هكذا أخسر لحظاتٍ لا تعوَّ ض يا نجوى. ابتدأ شهر العسل قبل أيامٍ فقط، فلماذا تركت عشّ الزوجية وغربت عن المنزل. هل كان من الضروري الابتعاد عن المنزل؟. كان وجه أبو علي متألقاً وسالت دمعتان توقّفتا عند حدود ابتسامته. وكان الجندي يضرب على شبّاك سيّارتي صارخاً ( فلسطيني بليد، هل تريد أن تنام عند الحاجز؟ ألا ترى بأنّ الجميع قد رحلوا .. أغربوا عن وجهي .. يا لكم من شعبٍ غريب!).أسئلة أطرحها الآن في وقتٍ غير مناسب والحشود أصبحت امامي بأعدادٍ كبيرة .. تمضي الأحداث بشكلٍ لا يمكننا السيطرة عليها، وتبدو وكأنّها تسيطر علينا بطريقتها الخاصّة. أتوق لمعانقتك يا نجوى، ليلة البارحة قضيتها بين أحضانك، كنت أمتصّ رحيقك مع كلّ لحظة من الليل. وبكينا من فرحة اللقاء وكنّا نتساءل: هل يعقل أن تتحقّق بعض أمنياتنا في هذا الزمن الصعب؟ زمن الرصاص المسافر من قلبٍ الى صدغٍ ودماغ، زمن البحث عن هويّة في عقر الدار، زمن الاعتذار للجلاّد ومسح دموعه السخيّة!؟. أشتاق يا نجوى ثانية لتقبيل شفتيك والبقاء معك في سرير الزوجية حتى آخر النهار، دفعت ثمن هذه الأمنية نصف حياتي من الركض والتعب والتودّد لوالدك العنيد، قبّلت يديه آلاف المرّات وكان يشمخ بأنفه الى الحاجز البعيد حيث أمكث الآن. كنت أحتار حقّاً من نظرته تلك، ولعلّي أدرك الآن بعض ما كان يدور في باله وهو ينظر عبر عينيّ الى شتات الوطن. وكأنّه يريد أن يستشف مستقبل الرجل الكامن بين جوانحي! أنا لست مشروع شهيد كما كان يطيب للكثير التشدّق بهذه العبارات! أدرك بأنّ الحياة مقدّسة كما الموت. لم يحن الوقت الذي أفكّر به بمغادرة هذه الدنيا، وكنت أدرك بأنّ الأعمار بيدِ الله ولا حاجة لاستباق الأحداث. كان الموت بعيداً عن مشاريعي، وكنت أعيش حالة من العشق لا تنتهي. الدنيا نجوى والحاجز ما يزال قائماً كالأفعى تبثّ سمومها في كلّ اتجاهٍ يا سيدّة الدنيا. محرّك السيّارة أضحى بارداً. وكان قد مضى على الفخّ اللعين الذي وقعنا به ما يزيد عن الستّ ساعات. أخرجت مفكّرتي وأخذت أكتب بعض الكلمات المتطايرة، أفكارٌ رماديّة تلغي قدرة النهار على محاكاة القصائد ويطول الحديث الى ما بعد الصفحة الأخيرة من ألف ليلة وليلة. أغلقت المفكّرة ورأيته على وشك أن يفقد رشده. كان وجهه أصفر وعيناه شاخصة. خرجت من عربتي وسألت قائد السيّارة عن حالته، حرّك يديه مستغرباً. عندها صرخت بأعلى صوتي بأنّه يموت. فتحت باب السيّارة الخلفي وحرّكت الرجل بكلتا يدي، نظر إليّ وشبح ابتسامة ارتسمت على شفتيه - على مهلك يا ابني، عظامي لا تحتمل جموحك! - كيف لي أن أساعدك يا عمّ؟ أجبت والألم يعتصر خلايا جسدي المتفجّرة. - سكّري وضغط وغضب وقهر. عندها أخرجته برفقٍ من تلك السيّارة ووضعته على مهلٍ في المقعد الأمامي لسيارتي. - هذا أفضل. قال مازحاً. - ماذا تقصد يا عمّ .. المقعد الأمامي أمّ.. قاطعني الرجل ووضع يده على كتفي وهمس. - أنا أبو علي يا صغيري، دعك من يا عمّ هذي؟ - هل تريد بعض الحلوى .. قد يساعد في حالة هبوط السكّر في الدمّ؟ تناول الحلوى من يدي وقال: - أنت من سكان هذه القرية. - وكيف أدركت هذا يا أبو علي؟ - لأنّ الشوق ينهش قلبك .. المنزل على بضع خطوات ولا يمكنك الوصول الى غايتك بسهولة. ما اسمك أو ما اسمها؟ - هاذان سؤالين يا أبو علي. وضحكت. - أنت تضحك يا صغيري؟ - في مجتمعنا يلحقون اسم المرأة بالرجل يا أبو علي .. لكنّني اليوم أشعر بأنّني زوج نجوى. - أنت شاعري يا فتى .. لا بدّ أنّها جميلة؟. - ليس الجمال هو وحده وازعي يا أبو علي! لقد شاهدت فتيات يذبلن في ربيع العمر دون أن يحققن أمراً في غاية البساطة. إنّه الاحتلال الداخلي والخارجي. قد يكون الجهل أكثر مرارة من الموت وحيداً على حاجز عسكريّ. أنا محظوظ للغاية .. كلّ نساء الدنيا نجوى. عندها فتح أبو علي عينيه وكأنّه أصبح رجلاً آخر غير الذي كان يحتضر قبل ساعات وقال وقد بان الارتياح على قسمات وجهه. - كنت قد فقدت خاتم زواجي في إحدى الترع ليس بعيداً عن القرية يا ابني. قالت فاطمة: لماذا يا أبو علي؟ ألا يكفيك حضوري ومحبّتي يا زوجي العزيز؟ أجبتها بأننّي أضعت الخاتم، هذا كلّ ما في الأمر. ومضى الزمن وتسارعت السنوات تعاتب إحداها الأخرى، وشحبت الابتسامة على وجهها. لقد تسلّل الشك الى روحها. لم أكن أرغب بالزواج من امرأة أخرى يا ابني. ولكن الخاتم إيّاه كان يغني لها الكثير. لقد اخترناه على عجل بعد أن أعلن الاحتلال حضر التجوّل. هربنا من جميع مظاهر الحياة في ذلك النهار الدامي. لكنّ خواتم الزواج كانت بالقرب الى أفئدتنا، ووصلنا الى خطّ الأمان وعُدْنا الى نهارنا وتزوّجت فاطمة رغماً عن إرادة الخليقة. سافرت الى الخليج للعمل سنواتٍ طويلة وكنت كلّ عامٍ أعود وأجدها آخذة بالغروب. أصيبت بالسكرّي وتقرّحت أطرافها، لا أدري لماذا غادرتها الرغبة بممارسة الحياة بكلّ ما فيها من جنون وحبور ومغامرات. لم يتمكّن الأحفاد من إضفاء الكثير من الفرح على أيامها. كانت غريبة الأطوار وكنت أحبّها، وذات يوم حدثت المعجزة يا عزيزي، عُرِضَتْ الأرَْض حيث الترعة للييع، وكنت أملك المال الضروري لذلك. - اشتريت الأرض يا أبا علي؟!. - اشتريتها وبدأت أبحث بكلّ ما أوتيت من قوّة ورغبة في إزالة غمامة ظهرت ذات يومٍ في خريف العمر. كنت املك رغبة جامحة للقضاء على الشكّ الذي وُلِدَ دون دعوة في حياة فاطمة. - وماذا حدث يا أبا عليّ .. لقد شوّقتني .. تحدّث يارجل. - كنت أعمل في ذلك الحقل طِوالَ النهار، وأخيراً وجدت الخاتم يا ابني .. وجدته وكاد يُغْمى عليّ من شدّة الفرحة وانطلقت أركض الى فاطمة. خيّم صمتٌ ثقيل، كنت أسمع دقّات قلبي وقلب العجوز المخلص النبيل وكان قد انقضى وقتٌ طويل ونحن نتحدّث، اختفت الأصوات والضجيج الخارجي وعمّ صوت الحياة الخافت المجرّد داخل العربة. - كانت على فِراش الموت يا ابني. نظرت إليّ مطوّلاً وعندها، أخرجت الخاتم وكنت قد لمّعته وهمست في أذنها قائلاً: لقد وجدته يا فاطمة، بحثت عنه في كلّ مكان .. وجدته هناك حيث سقط منّي قبل عشرون عاماً وازداد الخاتم يا فاطمة لمعاناً وجمالاً .. لأنّه رمز الحبّ الذي هزّ كياننا ذات يومٍ وما يزال. عندها يا ابني شعرت بأنّ الشباب عاد الى كلّ خليّة في جسدها وللحظة، كانت ترقص فاطمة بين الغيوم ترتدي ثوباً أبيض أبيض، وترقص وتدور حول نفسها. لم يعد للشك مكانٌ في روحها، وانتظر الموت حتّى أنْهَتْ فاطمة رقصتها الأخيرة بين الغيوم ثمّ أسلمت الروح. |
رد: الموت والجنس
قصة أبو علي غارقة في الرومنسية : الحب و الإخلاص ممزوجان بالمرض و متاعب الحياة مع تلميحات للحالة الفلسطينية تحت حراب أشرس استعمار عرفه التاريخ . أخي المبدع خيري حمدان أشد على يدك مهنئا على حلاوة هذا النص دمت رائعا نزار |
رد: الموت والجنس
[marq]
استاذي الغالي خيري حمدان أسعد الله اوقاتك استاذي خيري في الأوقات الصعبة يتذكر الأنسان احب الناس إلى قلبه ويتذكر لحظاتهم الجميلة يراها بعيدة جدا ً ويتمنى لو يمد يديه ويطوقها بذراعيه لكن سرعان ما تأخذه دائرة الحياة في دوامتها فينسى معها ذكرياته وربما ينسى اسمه . رائعة جديدة تضاف إلى روائعك استاذي خيري اتمنى لك مزيدا ً من التقدم والنجاح ودمت بخير . [/marq] |
رد: الموت والجنس
أخي العزيز نزار ب.الزين أشكرك على حضورك العَطرْ على صفحتي ولتشجيعك الدائم لشخصي والذي أعتبره أحدّ الأسباب التي دفعتني للاستمرار بالكتابة لنا لقاء أكيد في قصصٍ أخرى وتحيّات خاصّة من محمود عمر في سفارتنا في صوفيا. |
رد: الموت والجنس
الغالية ميساء آسف على التأخير عزيزتي ميساء. أنت كما تعلمين حاضرة في مشواري الكتابي، كتاباتك أعتبرها مميّزة وجريئة وتحمل الكثير من الألم والتحدّي والإبداع. أشكرك على نزف قلمك المليء بالعاطفة الجيّاشة والأفكار الجديدة في مجال القصّ والشعر والخاطرة. دمت بكلّ المحبّة. |
رد: الموت والجنس
قصة واقعية فيها خلطة انسانية رائعة وحالة ثرية من العشق الاصيل ظهرت في شخصية ابو علي وزوجته فاطمة التى لم تستطع الغربة ان تؤثر عليها. الحب الحقيقي يجب ان يكون بحجم حبنا للوطن الذي لم تغفله في هذه القصة ولو بجزء يسير ، استمتعت هنا اخي العزيز خيري ، سأحجز مقعدي من الان في ابداعاتك القادمة كل الود، سلوى حماد |
رد: الموت والجنس
[frame="1 70"]
أستاذ خيري حمدان تحياتي نص إنساني رائع بأسلوب مشوّق تمتاز به شكراً لك وتقبل عميق تقديري [/frame] |
رد: الموت والجنس
[frame="1 98"]
الفاضلة هدى الخطيب. أشكرك على هذا المرور العَطِرْ .. وعلى كلماتك النابعة من القلب. دمت بكلّ الخير والمحبّة. [/frame] |
رد: الموت والجنس
قصة تتمثل فيها العاطفة الصادقة والإنسانية كدوافع حياة تتحدى الجندي والحاجز.
استمتعت بقراءتها. تقديري لقلمك أستاذ خيري |
رد: الموت والجنس
اقتباس:
الأديبة العزيزة نصيرة شكرا لحضورك ولقراءتك لهذه القصة، التي أثارت الكثير من الجدل في العديد من المواقع، لأن البعض يرون بأن النضال لا يتوافق مع الحبّ. لكن يبقى هذا الطرح وجهة نظر وأنا أحترمها مودتي خالصة |
الساعة الآن 00 : 12 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية