منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=65)
-   -   وجعي هو المكان (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=13866)

عدنان كنفاني 16 / 01 / 2010 28 : 03 PM

وجعي هو المكان
 
وجعي هو المكان

أتسألني.؟
حسبتك تفعل عندما سبحتَ في لحظة سحرية كائناً من لحم ودم بين جفنّي والحدق..
رأيتُك.؟ أقسمُ أنني رأيتك.! تحمِلُني في بياض عينيك المتعبتين وتحملُ (كما كنت في كل الأوقات) إرثاً يخصُّنا..
تقتلعُني من وحدتي وغُربتي وشيبي ونزيفي، وتردُني في اللحظة نفسِها إلى زمنٍ سحيق أنهكنا.
تحملُني يا وجعي فوقَ صدرَك، ثم تبكي بين يديّ، تركعُ في محرابنا، تستغفرُني، فأغفر..
أتذكر.؟ ما زال هو المحرابْ الذي عرِفت، ينّز رطوبةً تقتل حتى الصراصير، ويصفرُ كلما عبثت بصفائِحهِ الريح.
ما زال معلقاً صامداً بين ضفتين ليس لهما ملامح..
أتذكر.؟ يوم ساقني قدري إليك، وكنتَ طفلاً لم تزل، تجاوزتُ بك لحظاتِ خلقِك الأولى، ويا لها من لحظاتٍ زحفت بطيئةً مستحيلة..
من يصدق.؟ طفلةُ ما تخطت ثماني سنواتٍ من عمرها ترعى طفلاً وضعتهُ أمهُ للتوّ، وغابت وراء غِلالةٍ بيضاء قبل أن تتخّلص من حبلٍ سُريٍ يربُطُكَ إليها.؟
قالوا ماتت.!
فجأةً وُلد الفزع.!
هل تمضي الحياةُ بنا، أم تتوقف.؟
هنا في صمتِ المحرابِ المعلّقِ بين فضائين صحوتُ عليك وعليها، وجدتُ في شراييني دفعةً واحدةً مِدادَ الأب والأم، وكان يجب أن نخترقَ الحاجزَ المستحيل.!
ثم حملتُكَ بعد حين والخوفُ يصرعُني كما صرَعك نزيزُهُ المتواصل، المشحونُ بحبيباتِ غبارٍ رطبة أتلفت رئتيكَ فيما أتلفت..
حملتُك يا عمري ومضيتُ بك إلى مكان ما، إلى ركن ما، تحتَ سماءٍ ما..
صعقَتني أحذيةٌ في الطريق لم أرَ غيرها في الزحام، وأنهكَتني رحلةٌ طويلةٌ طويلة.
غرزتُك خلالَها على كتفي، وغرزتُ سنواتُ عمريَ العشر فوق كتفي الثاني..
أتذكُر.؟
كم كنت أخافُ أن يغلبَني النعاسُ فأنام، وتغفلُ عيناي ويداي عن أكوامِ أدويةٍ يجب أن تتجرعّها، قالوا:
- في معجزةِ خليطِها يكمنُ سرُ حياتِك..
فأربطُ ضفيرتي الصغيرة بخيطٍ إلى مسمارٍ في أعلى الجدار، وعندما يغلبُني نعاسُ طفولتي، ويكادُ يميلُ رأسي، يشّدُني الخيط، فأصحو..
أنظر إليك، أراقبُ خلجاتِ جسدك الصغير بوجل، أتابعُ ترددَ أنفاسَك، أعدّها، أقيسُ ما بين الواحدة والأخرى، أحسبُها تارةً تنقص فيعتصرُني قلبي، وتارةً تزيد فأعتصرُه.. أقوم فوقَ صدركَ يعلو ويهبط، أخيطهُ في نسيجي، فيغدو قطعةً مني، أُحصي ما يعتملُ داخلَهُ خفقةً خفقة..
كم طالَ بنا المقام وتكرر قبل أن نعودَ دائماً إلى محرابِنا..
يومها رأيتُك كبُرت أكثر، تشبّثتَ بكفيّك وركبتيك بي، قالت لي عيناك لأول مرة أنك الآن تعرفُني، فحَمَلتني رفوفُ نوارس إلى دنيا تزيّنت في أحلامي، فرأيتُها حقيقة تنبضُ بالروح.
قلتَ لي، وضفيرتي تداعبُ صفاءَ جبينك، أنك الآن تعرفُ والحزنُ يبدأ مع رجفاتِكَ الأولى أن ليس لك سواي، ولم يبقَ لي سواك..
اليومَ فقط بعد غيابَك الذي أضنى جسدي، وأعملَ فيما تبقى من عظامي تفتيتاً وتمزيقاً، فقوّسَ بعضها، وأرجفَ بعضها الآخر، فجأةً تقتحمُ أشعة الشمس محرابَنا عن قصد، ربما أشرقت من مكانٍ آخر، من مكان أنت فيه الآن تذكُرني أو لا تذكُرني، أشعّةُ شمسٍ رائقة حملتها رّفوفُ النوارس ذاتَها، وحّطت بها تماماً فوق موقعِ النزيف..
كان الضوءُ أقوى من جلدي، فأطبقتُ جفنيّ..
في اللحظة نفسها، رأيتُك.؟ أقسمُ أنني رأيتُك.!
كنتَ تسبحُ وتتخبط، رأيتك تكادُ تغرق، تمّدُ لي يدُك النحيلة، وسعالُك المتواصل، ورشقاتٌ من دمك القاني، مددتُ لك يدي وعمري، وانتشلتُك.
أتدري يا عمري.؟ انتشلتك من الوادي السحيق ذاتِه الذي قذفتُك إليه بيدّيَ هاتين ذاتَ يوم.. فأضاءت وجهَك ابتسامةٌ.. كما كنتَ تفعل كلما أتيتَ ذنباً وأردتُ لك العقاب..
أتذكر.؟
أقودُك إلى المدرسة قسراً، تسألُني، لماذا.؟
ولأنني لا أعرف، أقودُك بإصرار أكثر، وأنتظرُ أمام البوّابة ساعاتٍ طوال حتى موعدَ الانصراف لأعود بكَ إلى المحراب، أطعِمُك بيدي وأسقيكَ بكفي، وأراقبُ لحظة بلحظة بريقَ عينيك يكادُ يغفو فوق الحروف السوداء فأوسدُكَ صدري وأغطيكَ بعمري..
يا وجعي وأنت تكبر، وتكبر، وبين الحين والحين تصرعُك نوباتُ سعالٍ خلفّها مرضُ ذلك اليوم، فأحملُك إلى فوق، إلى سطح المحراب، هناك حيثُ السماء أقرب، أجمعُ بين أصابعي كوماتُ هواء أحشوها في رئتيك، أعطيكَ أنفاسي، أحسبُ أنني أنتشلك في لحظةٍ سحريّة من براثن الموت..
حتى عندما كبُرت صرتَ تعرفُ الطريق، تزحفُ إلى فوق وحدَك، تعبُّ قدرَ ما تستطيع من الهواء، بعدها تضيءُ وجهَكَ ابتسامةٌ رائعةُ الصفاء..
ولا أملكُ إلا الصبرَ والأمل والعملَ المنهك، مرّات في مستودعات تغليف الصناديق المحشوة بأصناف من الحلوى في أقبية المرتزقين، ومرّاتٍ عاملةً على آلة كي الألبسة الجاهزة في مشغلٍ حقير.
وبين هؤلاء يجتّرُني عمري، وينسابُ شبابي، أقاومُ ضعفي بضراوةٍ ولا استسلم..
بنيت بيني وبيني صفائحَ لا تخترقُها رغبةً ولا هوى، وكنتَ وحدكَ الحاضرُ في كل حين، والعمرُ يمضي، وأنت تكبُر..
أتذكر.؟
يوم سألتَني أين أبي وأمي..؟ سألتَني، من أنا ومن أنتِ..؟
لم أكن أجدُ لأسئلتك أجوبةً..
يا وجعي.. لم أكن أملك الجواب..
من أنا ومن أنت..؟
كل ما أعرفُه أننا رفيقا رحمٍ واحدة.. وقد عرفتُها، عشتُ معها، أحببتُها، كانت مثلَنا لقيطةَ هذا العمر، معصورةً هي الأخرى بين الرحى والطِباق، مصهورة كلَّ ليلة كل ليلة في أتونٍ محرق حدثتني عنه طويلاً، كنتُ صغيرةً ولم أدرك..
عندما كبرت قليلاً أدركتُ أننا أنا وأنت نبتنا في لحظةٍ قاتمة من حجرٍ صلد أصم، جئنا من مكان على خارطَةِ التاريخ، لم أعد أذكر منذ متى ولا من أين.!
قالت ألف مرة أننا فتاتُ أبٍ تبخر مثل قطراتِ الندى، ولم يفارق لا هو ولا المكان حلمَها إلا ليلةَ لفظتكَ.. وماتت..
مسكينةٌ كانت، وحزينةٌ عاشت، ضيعتّها ذكرى ضبابية مجهولة، وجرفتَها طواحين الحياة، ولم تُبق لها أكثر من المحراب والمكانِ والحلمِ بنا..
من أجلنا، من أجلنا فقط..
سألتَني يومها، فسلكتُ السبيل الهين.
قلت ماتا.. كانا عظيمين وماتا.! وأغلقتُ باب السؤال..
تشبثتُ بك، ورفضتُ كل الرجال، سمعت نصيحةً لأمي ما زالت تضجُ في رأسي..
- أخوكِ أخوك ولا كلُّ الرجال.. كلهم في المصيبة سواء، يصهَرون ويمضون، يزفّونَ شعاراتٍ فارغةً جوفاء، ويخلّفونَ وراءهم الفتاتَ وبذورَ الفجيعة..
علمَتني أن أخافَ ظلمةَ الطريق، قالت أن لا شيء يستحق..
كنتُ صغيرة أول الأمر فلم أدرك، عندما كبُرت رفضتُ كلَّ الرجالِ إلاّك..
حسبتكَ أنت دون العالمين تبقى عمري ورفيقي وشبابي..
لم أدرك أن يوماً سيأتي تُفزعُني فيه أسئلتُك ولا أجد لها جواباً، كبُرت يا عمري، وكبرُ السؤال..
من أنا.؟ ومن أنتَ.؟ من نحن في هذا العالم الزاخرِ بألوان الطيف فوق سطحِ المحراب ووراءَ بابه، هذا الإرث الذي لم تُملكّنا الدنيا سواه هذا المعَلّق في فضاء ما، على رقعة من الزمن، وسط عالم غريب ربما (ليس لنا).. وكنتُ أتعذب.!
كيف لا أقدر أن أكون نبع المعرفة الغزير أمام رؤيا تفتحِ طفولتَكَ، صدّقني، حتى عندما أصنعُ جواباً ما أسخرُ به من نفسي وأقولُه، أدركُ أن العمرَ لم يترك لي مساحةً للمعرفة، وأن العالمَ هذا الكبير الذي شّد اهتمامَك يريدُني ويجعلُني أكثر جهلاً من ماعزِ الجبال.!
فجأةً توّقف على لسانِك السؤال، أدركتَ أنه يعذبني فكتمتَه في صدرك.
تساءلتُ ألف مرة هل يتّسعُ صدرُك لأشياءَ أخرى.؟
أتذكر.؟
هذا الذي أسميتَهُ أنت محراباً، كنت أسميهِ جحراً، كما أسمتهُ أمُنا..
عندما كبرت يا عمري أسميتَهُ محراباً.. قلتَ إن الجُحرَ لا يتسّعُ لأكتاف الموتى.. وأدركتَ فيما بعد أن المحرابَ وحدهُ رغم قدسيتِه قد يتسعُ لمن يموت راكعاً أو جالساً، لكنه أبداً لن يتسعَ لمن يملكُ إرادة الموتِ واقفاً..
لفظتَ حاضركَ الذي بنيتُه لك إصبعاً بعد إصبع، وحَملتَ همّك دون همّي، ورضيتُ لك الرحيل..
قلتَ:
- بضعُ سنواتٍ ثم أعود.. أنت أمي وأختي ورفيقتي، أحملكِ عرفاناً على حصانٍ أبيض يخّب بين القارات، نخوضُ عليه مجاهل العالم، نتركُ فوق كل معلمٍ فيه أثراً، وأجدُ معكِ المكان المغّيب، نزيّنهُ بالنقاء، ونجعلُه محراباً حقيقياً يتّسعُ لكلينا واقفين أو ساجدين، ويقدرُ أن يشحنَ في صدورنا قدرَ ما نحتاجُ من هواء نقي، يطهّرُنا، يطهّرنا..
زيّنت لي، وأغريتَني، ومضيت..
كتبتَ لي ألفَ رسالة في ألفِ يوم، أحفظُها تحت جلدي، أفردُها ما زلتُ كلَّ ساعةٍ، أخطُّها كُحلاً حول جهدِ عيوني، وأصبغُ من مدادِها الأسود حلّةَ شيبي..
فجأةً توقف كلُّ شيء، لم أعد أذكر منذ متى، ومنذ متى ضاقت الدنيا وأطبقت الصفائحُ من حولي.. صمتَ كل شيء، ونزفَت الحياة في جوفي صريراً صَدِئاً..
توقفت نبضاتُ سعالٍ عشتُ على صداها، وجفّت مناديلُ البقعِ الداميةِ.. لم أعد أذكر منذ متى.؟
أتذكر.؟
عندما اقتلعوكَ من المشفى لأننا لا نملكُ ثمن العلاج.! وعندما اقتلعوكَ من المدرسة لأنك سألت عن شيء محرّمٌ عليك فيه السؤال.! وعندما اقتلعوكَ من صُلب المكان.. حتى ذلك الجديد، وزرعوكَ قسراً وأنت تحملُ الإرث "يقولون صباحَ مساء أنك تحملُ الإرث" تحت يافطة كبيرةٍ مكتوبٌ عليها بخط رديء "شعبةُ الأجانب"..
أتذكر يا عمري تلك الزوايا التي حمَلت بكاءَنا ونحن نصارع باللحم خفافيشُ الخطيئة، ندافعُ عن حق لنا في الحياة ليس أكثر.. ليس أكثر..!
الآن يحاولونَ اقتلاعي من المحراب.
المحراب يا عمري، حتى هذا الضئيل الضئيل..
أتذكر.؟
فيه فتاتُ أبٍ لنا تبّخر في ليلة ظالمة.. فيه ريحُ أمنا، مازالت تئنُ وراء حبلٍ سُري يربُطها إلي وإليك..
على أرضيتِه الخشنة سفحتُ شبابي وعمري.. وعلى جدرانِه المذبوحةِ بشظايا سعالِكَ ما زالت تنزفُ أسئلتُك وحيرتُك وآهاتُك..
يا وجعي المخبأ في مكان ما.. في زمن ما.. تحت سماء ما.. صمدتُ حتى اللحظة رغم شيخوختي تشدُني إلى القاعِ بعنف..
تشبّثتُ بأظافري وأسناني..
تُرى، لو أنهم يقتلعونَ المحرابَ من بين أصابعنا.. أين نَمضي..؟
هو المكان.. محرابٌ أو جحرٌ أو سمِّه ما شِئت.. وحدَهُ الآن ما تبّقى لكَ.. وما تبّقى لي..
هو الإرثُ الوحيد الذي أملكُ عليه السلطان، وهو الوحيد الذي أستطيع أن أطمئنَ فيه عليك..
هكذا علَّمتني أمي.. وهكذا أعلمُكَ..

%%%

خيري حمدان 18 / 03 / 2010 52 : 04 PM

رد: وجعي هو المكان
 
الأديب الفذّ عدنان كنفاني
سحرني هذا السرد المسترسل العابر للمشاعر
لغة سليمة ومتينة، ومشاعر فياضة تعبر عن انحباس الألم تارة وانطلاقه نحو النص كصاروخ عابر لأفئدتنا.
وانا سأخبره ما أخبرتني به أمي يومًا ما
يا وجع المكان
يا وجع الزمان أيضًا
منتهى المحبة


الساعة الآن 03 : 11 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية