منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=65)
-   -   القضية (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=15129)

مسعدالنحلة 29 / 04 / 2010 26 : 05 PM

القضية
 
القضـــــية



باغتني صوت السكرتير في التليتوك صادحا ..

ــ مدام سمية ..

انفرج باب مكتبي ودخلت سيدة في العقد الثالث من عمرها وعلى وجهها مسحة غير خافية من الجمال ، وعلامات تشي بعز غابر .. كما تعلن ذلك أيضا أناقتها البادية في ردائها .. الذي يبدو أنه متواضع .. رسم عليه الزمن بصماته .. ورغم الشقاء والحزن الباديين عليها .. لم يستطيعا أن يواريا هذه الابتسامة العريضة التي انفرج عنها ثغرها الجميل .. الوقت قد تجاوز التاسعة مساءا ويبدو أنها كانت آخر الزائرين .. فقد كان من عادة السكرتير أن يطل برأسه من فرجة الباب قبل أن يغلقه عندما تنتهي قائمة الزائرين والعملاء .. لم نكن متفقين .. أنا وهو على إشارة .. أو ( سيم ) معينة .. ولكن كانت هي عادته اليومية .. يطل برأسه ثم يعود لمكتبه .. كان يقوم بتجميع الأوراق والدوسيهات وحفظها استعدادا للمغادرة بعد انتهائي من آخر مقابلة .. اقتربت السيدة وحيتني بإسمي مجردا من لقب أستاذ كما تعود الآخرون .. أن يقرنوه بإسمي .. أو الاكتفاء بلقب ( متر ) دون الإسم .. ولكنها لم تنهج أي من الأسلوبين .. مما أثار الشك في نفسي .. فدققت نظرتي في وجهها ، وقدحت ذهني علها من إحدى القريبات أو المعارف .. ولكن لم تسعفني خزينة الذاكرة بشيء .. سألتها ..
ــ أية خدمة يا سيدتي ؟ ..
ارتفع حاجباها في دهشة .. حتى كادا يلتصقان بطرف طرحتها المحبوكة على رأسها ، واتسعت حدقتاها في تعجب .. ورددت في استنكار ..
ــ ألا تعرفني يا سالم ؟ ..
أمعنت النظر من خلال فتحتي عيني اللتين ضاقتا لعلي أتذكرها أو تجود علىّ الذاكرة بالفرج .. أنقذتني من حيرتي وأردفت ..
ــ كلية الحقوق ! ..
وكأنها أزالت ستارا قاتما يخفي وراءه كل الأشياء .. أضيئت الذاكرة .. عدت إلى الوراء عشرين عاما ومعها وخزة ألم في صدري .. كنت أظن أن هذا الألم قد زال عني مع مرور السنين بعد أن نجحت .. في تحقيق أهدافي .. والوصول إلى الغاية التي كرست لها كل جهودي وطاقاتي .. عادت اللحظة بتفاصيلها الأليمة .. وكأنها حدثت للتو .. لمع المشهد صارخا في خيالي وأبوها الباشا رجل الأعمال المليونير .. يلهب ظهري بصوته الجهوري الغاضب وأنا أفر من أمامه .. أتخبط في أثاث البهو رغم رحابته .. بحثا عن الباب .. فقد أظلمت الدنيا أمام عيني ومادت بي الأرض .. كانت كلماته متلاحقة مثل طلقات المدفع الرشاش وهو يصرخ ..
ــ وصلت بك الجرأة أن تطلب ابنتي أنا يا كلب ! ..
لم أعد يومها إلى غرفتي المتواضعة فوق السطح .. رحت أجوب الشوارع والحارات سيرا على الأقدام .. حتى تورمت قدماي وحل بي التعب والإرهاق .. ولم أعد قادرا على السير .. جلست أستريح فوق مقعد على كورنيش النيل .. أبصرت كوبري أبوالعلا .. لمعت في رأسي فكرة كأنها الحل لحالة اليأس التي اعترتني .. أسرعت على الكوبري .. وصلت على منتصفه تماما وتلفت يمينا ويسارا .. أطمئن لعدم وجود ناس .. هممت لإلقاء نفسي من فوق الكوبري .. صدحت المساجد بآذان العشاء تلاحق بعضها بعضا كأنها تحذرني .. ثبت إلى رشدي .. استغفرت ربي وكانت لحظة فاصلة .. ارتدت بي مرة أخرى لعالم العقلاء .. تحاملت على نفسي .. تردد في أذني قول لا أدري أين سمعته ، ومن الذي قاله .. أن ما في الدنيا خطب يستحق أن يموت من أجله الإنسان إلا في سبيل الله .. تذكرت شيخ الجامع وهو يحذر من مغبة الانتحار .. وما يقترفه المقدم عليه من وزر يصل إلى حد الكفر والعياذ بالله .. تغيبت عدة أيام عن محاضرات الكلية .. وحينما عدت استقبلتني شلة من الطلبة أولاد الذوات .. وهي تتوسطهم .. ينظرون ناحيتي ويهللون ويصرخون في صخب ماجن .. وضحكاتهم الساخرة تتشابك وتتداخل .. كنت في طريقي إليها لأسألها عن سبب ثورة أبيها .. خاصة وأنها هي التي حثتني وشجعتني على التقدم لأبيها وطلب يدها .. بل ضغطت علىّ بشدة بعد أن بثتني أشواقها وهيامها .. وأسمعتني معسول الكلام .. نقلتني من عالمي المتواضع البسيط .. إلى الجنة .. إلى النعيم .. صارحتها منذ البداية أنني إنسان بسيط توفى أبوه مبكرا .. منذ نعومة أظفاره .. وتولت الأم رعايته بشق الأنفس .. قلت لها أننا بالكاد ندبر مورد قوتنا اليسير مع الاستعانة بإعانة الشئون الاجتماعية .. ولكنها هونت من كل ذلك وأصرت أن أقابل أباها .. وأنها مهدت لكل شيء .. أراها الآن بين شلة في حلقة كبيرة من الطلبة والطالبات يشرن إليّ ، ويغرقون في ضحك صاخب .. توقفت عن السير ، ولكن كنت قد اقتربت منهم .. سمعت صوتا ينطلق من بينهم قائلا ..
ــ شربتها يا مغفل ؟ ..
وآخر يصيح ..
ــ مبروك عليك الرهان يا سمسمة ..
كانت ضحكتها أعلى من أصواتهم جميعا .. تجلجل كأنها تزغرد .. أدركت في هذه اللحظة أنني كنت لعبة يلهون بها ، رهانا يتراهنون عليه .. لم يفكروا في كإنسان من لحم ودم ينبض بالمشاعر والأحاسيس مثلهم تماما .. بل أكثر منهم .. فهم قد ماتت مشاعرهم .. ونضبت أحاسيسهم .. وتبلدت حواسهم ومداركهم .. لمعت الصورة بألوانها الحقيقية أمام عيني ، دون زيف أو خداع .. أدركت أني كنت مقلبا أعدوه .. وربحت هي الرهان بجدارة .. دون النظر للسعات صوت أبيها وهي تلسع ظهري وتلهبه .. قادوني بفعلتهم إلى مشارف الموت .. إلى مشارف الانتحار لولا برهان الله الرحيم بعباده .. تركوني أتألم ألما شديدا .. ولم تأخذهم بي رحمة أو شفقة .. بل راحوا يسخرون مني ويتسامرون بي .. يطلقون التعليقات المؤلمة القاسية دون رحمة .
عدت أدراجي .. أغلقت عالمي على نفسي .. قررت أن أنتقم .. أن أصل إلى القمة .. أن أتفوق عليهم جميعا مهما كان الجهد والعرق .. مهما كان الكد ومهما كان حجم التضحيات .. أن أعلوهم جميعا .. وأثبت لهم أنه لا فرق بيني وبينهم فأنا إنسان مثلهم ، وربما أحسن منهم .. ربما كانوا أبناء مليونيرات ، أو أثرياء .. وأنا يتيم الأب .. تبذل أمي قصارى جهدها وتكافح .. تبيع الخضروات على قفص مقلوب في مكان اختارته على إحدى النواصي .. أعمل أنا بعد الظهر في جراج للسيارات أقوم بتنظيفها وغسلها نظير أجر معلوم من صاحب الجراج ، بالإضافة للبقشيش .. حتى أساهم مع أمي في تدبير قوتنا اليومي وبعض احتياجات الدراسة .. ولكن في النهاية ( أنا وهم ) بشر نملك نفس الجسد دون زيادة أو نقصان .. ونفس الحواس والمدارك فقد خلقنا الله سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والتقرب إلى الله .
لازمني هذا الألم طويلا .. حتى حصلت على الليسانس بتفوق مع مرتبة الشرف .. كانت فرحتي عارمة .. ليس للتفوق مع مرتبة الشرف بقدر تفوقي عليهم جميعا .. كان هذا الألم حافزا قويا دفعني خطوات واسعة نحو النجاح والمضي قدما نحو تحقيق هدفي بعزيمة لا تقارن ، وإصرار لا يقاوم .
عملت محاميا ، وأشاد بقدراتي وتفوقي الجميع من أهل المهنة والعملاء .. وعلا نجمي في وقت قياسي واستطعت بفضل الله أن أصنع اسما ومجدا في عالم القضاء .. كانت الثروات تنهال علىّ من حيث لا أدري .
نسيت هذا الحادث .. وانزاحت عن صدري وخزة الألم الرهيب ، أو هكذا ظننت .. ولكن يبدو أنني لم أنس .. وأن هذا الحادث بآلامه ووخزه لا ذال كامنا في أعماقي .. لم يتزعزع من أغواري .. بدليل أنه طفح على السطح بمجرد اللقاء بسامية ، والتعرف عليها .. بمجرد أن تذكرتها عاودتني وخزة الألم كأنها خنجر مسموم ينخر في قلبي .. بذلت كل طاقتي وجهدي لأخفي عنها هذا الإحساس .. ويبدو أنني نجحت في ذلك .. أو أن عجزي في التعرف عليها للوهلة الأولى قد أوحى لها بذلك .
عرفت منها سبب زيارتها .. أتت ترفع دعوى نفقة على طليقها .. حكت لي ما حدث لها وسط دموعها التي كانت تنهمر في غزارة .. لقد توفي أبوها بعد أن زوجها لإبن أحد أصدقائه المليونيرات .. وترك لها إرثا كبيرا .. نجح زوجها في خداعها واستطاع الاستيلاء على ثروتها .. طلقها .. والآن يرفض الإنفاق عليها والوفاء بنفقتها الشرعية .. أرشدتها إحدى صديقاتها القدامى .. كانت زميلة في الكلية .. إلى مكتبي .. أتت وهي تأمل أن أسترد لها حقوقها من طليقها .. تعجبت من تدابير القدر .. الذي اختارني أنا بالذات .. لأكون لها عونا ومنقذا ، وهي التي قتلتني ذات يوم .. وأوغرت في قلبي سيفا مسموما ظللت أعاني منه كثيرا .. واكتشفت بزيارتها هذه أنني لازلت أعاني منه .. رغم نجاحي .. وزواجي من سيدة فاضلة .. ذات جمال وخلق ودين .. أدركت اليوم أن الصورة التي طبعتها سامية في أغوار نفسي لم تنمح .. أن التمثال المرعب الذي نحتته في كياني لازال ثابتا كالطود .. لم تسقطه الأيام .
رفعت لها الدعوى القضائية .. وبذلت فيها جهدا خارقا .. ترافعت كما لم أترافع هكذا من قبل .. وكسبنا القضية .. رفضت تقاضي أي أجر منها .. كانت سعيدة .. فرحة .. أشعر كأن عينيها تكاد تحتضنني برموشها السارحة .
أتت إلى مكتبي على غير موعد .. في المساء .. تعجبت لزيارتها فقد انتهت القضية .. ولا أظن أن وراءها أي توابع أخرى .. فقد حصلنا على أحكام نهائية .. كانت على غير الصورة التي كانت عليها في المقابلات السابقة .. كانت جميلة .. أنيقة .. كما كانت في أيام الدراسة بالكلية .. موردة الوجه .. كاملة الزينة .. تشع من وجهها ابتسامة سعيدة .. وفرحة كبيرة .. يشع من عينيها الأمل .. عادت للوراء سنينا من عمرها .. دعتني للعشاء في أحد المطاعم الشهيرة احتفالا بنجاح القضية .. تملكتني الحيرة والدهشة معا .. لا أدري بماذا أجيبها .. لم أجد ردا على لساني لأنطق به .. تضاربت المشاعر والتساؤلات في نفسي .. تعجبت كيف أنها لم تدرك حتى اليوم حجم الجرح العظيم الذي لم يندمل ولن يندمل .. لم تدرك انها قتلتني مرة ولم أعد نفس الإنسان .. فالموتى لا يعودون ثانية للحياة إلا يوم الحشر العظيم .. قتلت حبي الكبير لها .. أماتت كوامن الشوق التي كانت تمور في قلبي وكل كياني .. بذلت قصارى جهدي في القضية .. بل أبدعت فيها كأنها قضية حياة أو موت .. فقط لأثبت لها أنني لست الإنسان الذي كانت تظنه .. لست الدمية التي كانت تلهو بها مع أصحابها الأثرياء .. لأثبت لها أنني أكرم منها ومنهم .
أفقت من شريط الذكريات الذي مر أمام عيني كالبرق .. أفقت علي صوت باب المكتب وقد انفتح وأطل منه وجه زوجتي تسبقها تحيتها الرقيقة ، وابتسامتها الجميلة الصادقة الطيبة .. ودلفت بخفة وهي تغرد في فرح وسعادة ..
ــ انت يا أستاذ لازلت في المكتب حتى الآن ! .. انت نسيت إني عازماك على العشاء الليلة !.. نسيت عيد جوازنا ؟ ..
انتشلتني من أفكاري .. أنقذتني من صراعاتي .. استقبلتها بود وحميمية ، بقدر ما أشاعت في نفسي السرور والسعادة .. عرفتها على سامية التي اكفهر وجهها .. وعادت إليه حالة الحزن التي كان عليها أول زيارة ..
طلبت الإذن .. وغادرت .. لم أرها بعدها أبدا ً ..






ـــــــــــــــــــــــ

رشيد الميموني 29 / 04 / 2010 30 : 07 PM

رد: القضية
 
أخي الغالي .. القاص المبدع مسعد ..
عشت القصة بكل نبضها وعايشت ذكرياتها الأليمة متأملا .. فوجدت نهايتها أسعد ما تكون .. على الأقل بالنسبة لي كقارئ .. لأن الجرح لا يمكن أن يندمل خصوصا إذا كان جرح النفس و الكرامة ..
أشد على يدك أخي مهنئا على هذا النفس السردي الرائع و اتمنى قراءة المزيد من نصوصك .
محبتي .

مسعدالنحلة 05 / 05 / 2010 47 : 02 PM

رد: القضية
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رشيد الميموني (المشاركة 70364)
أخي الغالي .. القاص المبدع مسعد ..
عشت القصة بكل نبضها وعايشت ذكرياتها الأليمة متأملا .. فوجدت نهايتها أسعد ما تكون .. على الأقل بالنسبة لي كقارئ .. لأن الجرح لا يمكن أن يندمل خصوصا إذا كان جرح النفس و الكرامة ..
أشد على يدك أخي مهنئا على هذا النفس السردي الرائع و اتمنى قراءة المزيد من نصوصك .
محبتي .

اخي العزيز الاديب والقاص والمشرف العام الأستاذ رشيد الميموني
شرف كبير لي أن تهتم بقراءة القصة وتزينها بإعجابك وتعقيبك البليغ الذي زادها قيمة وأضفى عليها معنى
شكرا جزيلا لتشجيعك الكريم
دمت لنا ودامت مودتك ومحبتك
مع خالص التحية والتقدير



الساعة الآن 44 : 02 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية