![]() |
دلالات تطور السرد القصصي / نموذج "شال ليلى"
[align=justify]قصة قصيرة بعنوان "شال ليلى"، كتبها القاص الفلسطيني رسلان عودة، أودع فيها قطعة من روحه، أبان فيها فصاحة صمت الأشياء، والنفوذ إلى اعتراك الأضداد في اللون الواحد، دفعنا في لحظة واحدة، ومن خلال التمثال العاشق القابع وسط المدينة، أن نخشى الطبيعة الصامتة، ونحذر فيء الأشجار قدر حذرنا انقباض الروح.
"شال ليلى" قصة تسلط الضوء على فضاء الحياة الزوجية لليلى الممتد بين فراش الزوج ونافذة البيت، حيث تضرب أسوار التحريم على ليلى، وتقطع صيرورتها الإنسانية، وتقننها في تمثال بشري متحرك مقابل التمثال البشري الثابت وسط المدينة مقابل نافذة بيت ليلى، ومن خلال فضاء حياة ليلى يتم العبور من الخصوص إلى العموم من الفرد إلى المجتمع، لنعرف أن فضاء حياة ليلى ما هو إلا أيقونة لفضاء المجتمع بأكمله، فضاء أنثربولوجي ضيق، تسوده معتقدات أفراده، وعاداتهم وتقاليدهم وانغلاقهم على ذهنية التحريم، إلى درجة لا يبقى فيها للفرد خصوصية تذكر، فكل شيء مشدود إلى عقال الشيخ والسلف الصالح، لهذا كان زوج ليلى حريصاً على ألا تخلع ليلى أياً من أثوابها عند النوم! تتأتى جمالية قصة "شال ليلى" من قصدية المؤلف كإستراتيجية نصية، وهي المراهنة على قدرة السرد الإيحائية، على الرغم من أنها قصة قصيرة، على إطلاق الصيرورة الدلالية من المؤول الأول المباشر إلى الثاني الدينامي وانتهاء بالمؤول الأخير العالق في الذهن؛ فثمة قراءات متعددة للقصة، وقد تكون متناقضة، تستدعيها ساردية القارئ، وهو يدفع بأهليته الفكرية لفك الرموز، وللالتقاء بأهلية القصة، وكشف استراتجياتها. تُروى القصة، على قصرها، بلسان راويين، وتتضمن، علاوة على ذلك، قصة الغراب القصيرة، فهي تتحدى وحدة الموقف في القصة القصيرة ووحدة الراوي أيضاً، وكل ذلك مدفوع بطاقة ذاتية تؤدي إلى الالتفات من صيغة الزمن الماضي إلى صيغة الزمن الحاضر الذي ظل في قبضة العادة والتكرار على الرغم من أن صيغة الزمن الحاضر تدل في الغالب على الخلق الجديد: "صحوت من النوم متأخراً...طعم التبغ الرديء مرمر ريقي وربط لساني، أنهض إلى الحمام في أول عمل نافع أقوم به قبل الذهاب إلى الكشك...". ارتبط هذا الالتفات بالثيمة الأساسية الميكانيزم الكلي المتحكم ببناء القصة وهي ثيمة "الجمود"، وقد أوحت بها شفرة الأفعال التي يمكن قياسها من حيث المركزية والفترة الزمنية: يمكن القول من الناحية المركزية إن الخلق السردي بدأ، عن عمد ، بفعل ضعيف المركزية على نحو كاف لتفعيل المحور التبادلي بين هذا الفعل والأفعال التالية له، إذ يمكن إعادة قراءة القصة مع تقديم جملة على أخرى دون إحداث خلل في بنية القصة على النحو التالي: "مرمر طعم التبغ الرديء ريقي، وربط لساني لحظة صحوت من النوم متأخراً". أما من الناحية الزمنية، فقد قاربت الأفعال مفهوم الحركة البسيطة لتنم عن محاولات لاهثة لتفعيل الحركة وتحويلها إلى حدث بسيط ، يظل على الرغم من ذلك مهمشاً، فشخصيات القصة مثل الراوي وليلى محكومة بالجمود ، وما هي إلا صدى بشري لذاك التمثال الحجري القابع وسط المدينة، إنه محور الحياة الثابت وإيقاعها النائم. والأفعال التي تقوم بها الشخصيات لا تشير إلى حركة بقدر إشارتها إلى انزياح في المكان، أو حركة مع البقاء ضمن المكان نفسه: "لم تغادره، قالت، لا تغادر، بقيت خلف باب واحد، لم تدع ، اقتربت، أزاحت الستار بحذر ...". تتعارض الأفعال التي تقوم بها شخصيات القصة مع الأفعال التي تقوم بها الطبيعة: "خالف مطر الليلة السماء الغاضبة، غسل الأوراق، طير العصافير، تتنادى العصافير ، خضبت النسمات الباردة وجهها الدافئ...". لقد أوحى التعارض الحدثي بين الإنسان والطبيعة بشيئين الأول: ويُعد من أهم العناصر المكونة للهوية الحضارية لمجتمع ليلى وهو الروابط التقليدية الموروثة، فالالتزام الذي يوجه الشخصية هو التقليد الاجتماعي، والشيء الثاني هو المصادر المقاومة لنمو هذا المجتمع، وهي أولاً إرادة الوحدة: إن ما يثير القلق لدى القارئ هو أن الكاتب يصور وضعاً اجتماعياً لامرأة في القرن الحادي والعشرين، ولو قارنا بين وضع هذه المرأة والمسلسلات التي تصور المجتمع العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لجزمنا أن الكاتب يتحدث، دون أن تخالجنا الريبة، عن امرأة كانت تعيش في مطلع القرن العشرين أو ما سبق، وهذا يشير بدوره إلى أن ثمة ما يعيق حركة تطور المجتمع الذي تنتمي إليه أسرة ليلى، وهو إرادة الوحدة وطرد الآخر والانغلاق على الذات، وهذا مرتبط بالإرادة الثانية التي تعيق حركة تطور المجتمع، وهي الفهم المغلوط للدين الذي يجذر صادات للنمو لا قِبَل للمفكرين باقتلاعها. لم تكتف القصة ببناء التعارض الحدثي بين الإنسان والطبيعة، بل نحت إلى بناء التعارض الحركي بين الحدث في الداخل والحدث في الخارج: ترقب ليلى من شرفة منزلها حركة الناس في الشارع، والمفارقة المتولدة من بناء هذا التعارض هو القلب ، قلب معنى الحركة في الخارج لتوازي حركة ليلى حبيسة بيتها: "ألفت وجوه بعض الزائرين الدائمين...حفظت أماكن جلوسهم وألوان ثيابهم". وإضافة إلى هذا القلب ثمة قلب آخر، أدى إلى تحريك الثابت، فقد بدأت ليلى تتمرد على عاداتها وطريقة حياتها، فبدأت بالتحرك إلى الفضاء الخارجي: " صباح أمس غيرت عادتها، وألقت نظرة عن غير قصد إلى طرف الحديقة، فالتقى سرحان بصرها بعينه، تعبر ليلى الشارع بين قطعان السيارات، لا تأبه بنزق السائقين". يحرر إيقاع السرد مقولة القصة ويبلور ثيمتها، فالسرد بين ارتداد وتوقف يحدثه وصف الحركة البسيطة؛ إذ تسترجع القصة أحداثاً تحولت إلى حال دائمة تقيد ليلى، والأحداث لا تولد أحداثاً ، والشخصية لا تحدد بأفعالها إنما بحال ثابتة تنمطها، والسرد لا يبنى وفق آلية التحفيز الحدثي التأليفي ليكون كل عنصر سبباً لما بعده، بل يبنى وفق آلية التحفيز الوصفي ، فاقتربت القصة من أسلوب الفيلم التسجيلي الذي يهتم بالأحوال أكثر من اهتمامه بالأحداث. يمتلئ الفضاء النصي بنمطين خطيين قد يوهمان القارئ بتعدد الرواة في القصة القصيرة، وحقيقة الأمر إن الراوي الأول المشار إليه بالخط الأسود العريض ليس إلا ذاك الراوي الذي يتابع ليلى، وإعادة القصة على نحو تجريبي مع تحرير النص من المفارقة اللونية بين خطي المقاطع والفواصل تؤكد الإيهام بالفصل بينها، وأنها مجرد مقطع واحد، يقوم بسرده راو واحد، وهو أحد شخصيات القصة ، والانزياح الفني الذي يشكله هذا الراوي هو أنه يلتقط السرد تارة من وجهة نظر داخلية وفق "الرؤية مع" مستخدماً ضمير المتكلم ، وهو ما يميز السرد الذاتي، وتارة أخرى يتابع السرد وفق "الرؤية من الخلف" حيث يرصد الشخصيات ، ويستظهر معرفته بماضيها وحاضرها. وإذا ما دفعنا تحليل الإيقاع باتجاه أعمق، فإننا لن نكتفي بالقول إن إيقاع السرد يماثل إيقاع الأحداث البطيء ، ومن ثمَّ يوازي الإيقاع الداخلي للشخصيات، بل سنبحث عن الدوافع التي شكلت مثل هذه الاستراتيجية النصية التي أوهمت القارئ بتعدد الرواة، وفي إطار هذا الخصوص، نحن معنيون بالإشارة إلى المؤلف الاستهلالي الذي تحدث عنه أمبرتو إيكو في كتابه " التأويل بين السيميائيات والتفكيكية"، ويعني الاستراتيجية النصية المسندة إلى الحيز اللاشعوري للمؤلف الحقيقي، وما يعنيه هو أن المؤلف الحقيقي ليس على علم ودراية بأنه يحاول الانفلات المهيض من دائرة الجمود عبر خلق تواز سردي بين راويين. يمكن القول إن هذه القصة بنيت على جدل بين ثيمة الجمود وضدها ، وهي محاولة الانفلات والخروج، وقد تحققت هذه الثيمة في الأحداث بخروج ليلى من إسار التحريم، ومغادرتها المنزل على الرغم من تهديدات زوجها، واستجابتها لنداء يعصف بقلبها في الفضاء الخارجي، غير أن جدل هاتين الثيمتين لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما خمد بضربات الفؤوس والمعاول. وما يثير الدهشة ويمسك بأعماقنا ويهزها كما حدث لزوج ليلى المتزمت، هو أن هذا الخروج كان روحياً ، إذ بقيت الستارة حاجبة جدار النافذة، والباب موصداً ، والمفتاح خبيء في جيب الزوج؛ لقد كان خروج ليلى إلى التمثال وسط الساحة رحلة إلى الذات في مواجهة معاول الزوج الذي لم يكن أكثر من آخر بغيض. إن هذه القناة الروحية التي عبرتها ليلى أضفت على خروجها خصوصية المعراج من أجل رؤية المقدس ومعرفته، فكل ما هو مقدس يُدرك بعين الروح أولاً، ومعالم الذات الإنسانية مقدسة، والرحلة إليها معراج لتحريرها. تضمنت قصة "شال ليلى" قصتين، بُنيت القصة الأولى على شبه العلاقة بين الراوي، وهو أحد شخصيات القصة، وحبيبته ميرنا، وبنيت قصته الثانية على استرجاع حلم، حدَّثت فيه ليلى الغراب، فهي أيضاً مبنية على شبه علاقة بين ليلى والغراب؛ لقد دلت أشباه العلاقات بين شخصيات القصتين المتضمنتين على مجتمع مأزوم مكبل، تتطور علاقاته في الحلم لا في الواقع كما حدث مع ليلى، وهذا ما دفع بنموذج مثل ميرنا، وهي شخصية مستغرقة في الفردية قياساً بما تعرضه القصة، إلى الانقطاع تماماً عن مواصلة حبيبها الراوي، فليس ثمة ما يربط بينها وبين عالمه، فلن تجدي رسائله الألف باسترجاع اهتمامها، وفي المقابل، ظل الراوي يحدث نفسه بعودتها، فهي النموذج المفقود في مجتمعه المأزوم. بنيت قصة الغراب على نحو يحقق لها استقلاليتها، فهي تشكل بذاتها قصة قصيرة. يأتي الغراب ليلى ويلومها على خوفها منه، ويفند كذبة التاريخ عنه، فهو لا يقل شأناً عن الحمامة، والتهمة التي ألصقت به كانت بسبب إرسال الحمامة الغبية بعده، بمعنى أن الأغبياء يحصدون دائماً معرفة الحكماء، ويتبجحون بها. ومنذ أن رأت الحمامة هذا الحلم صارت تراه هدهداً ينبئها بمجيء زوجها البغيض حسن. يمكن أن نصف طريقة بناء هذه القصة بوصفها تجريباً لفكرة راسخة في التاريخ، وألصقت الشؤم بالغراب، فالبنية الكبرى لقصة الغراب نفي لفكرة التاريخ، وإظهار الحقيقة، وهذه سخرية سردية، وانتهاك سيميائي للسياق الظاهري، واعتراض على التاريخ، فالقصة تنطوي على نشاط إبداعي وإعادة تشفير فيما وراء النفي الدلالي، لنصل إلى المؤول البعيد للقصة، وهي أن الغراب قد أضحى في عصرنا شحروراً، وأن الأغبياء مثل حمامة نوح، يتوسمون نياشين الحكماء. [/align] [/align] |
رد: دلالات تطور السرد القصصي / نموذج "شال ليلى"
[align=justify]اهلا وسهلا بك د. مانيا
نرجو أن تجدي في منتديات نور الأدب كل جديد دراسة رائعة تحمل بصماتك المميزة وتحليلك الغني نقدا ودخولا في صلب العمل لا شكّ أن الصديق القاص رسلان عودة متميز في قصصه وهذه واحدة من القصص التي تضاف إلى عمله ذي البصمة المميزة .. أهلا وسهلا بك ناقدة ومبدعة وقاصة .. لك الود طلعت [/align] |
رد: دلالات تطور السرد القصصي / نموذج "شال ليلى"
القديرة الدكتورة مانيا
قراء جميلة وقفت على حدود الرسم الجمالى لخطاب هذه القصة وتعمقت فى الوعى الفنى ببناء النص السردى فى عمق واضح أنه يرمى الى منهج تحليلى "سيميوطيقى " يربط بين النص وثقافة المجتمع ويقف بالقلم الناقد عند حدود منهج التحليل الحداثى فى التناول ليمتعنا بنص نقدى جميل حقق لنا متعة التلقى الا أنها -اى متعة التلقى -كانت ناقصة وجود القصة من الدراسة حتى تعم الفائدة ونحقق متعة تلقى النص النقدى هنا الذى يحقق مقولة أن النقد نص على نص اهلا بك هنا استاذة كريمة وناقدة فارعة لك كل محبتى وتقديرى |
الساعة الآن 47 : 08 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية