منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   القدس في ألمٍ وليلٍ داج (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=359)
-   -   القدس في زمن السيد المسيح عليه السلام ـــ د.يوسف جاد الحق (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=15708)

د.يوسف جاد الحق 07 / 06 / 2010 17 : 08 PM

القدس في زمن السيد المسيح عليه السلام ـــ د.يوسف جاد الحق
 
ما نحسب أن أحداً يجهل من هو (بيلاطس النبطي)، الوالي الروماني على مدينة القدس ما بين عامي 26م ــ 36م الذي نجح اليهود في دفعه إلى صلب السيد المسيح عليه السلام. والمعروف عن بيلاطس أنه هو الذي قام بسحب المياه إلى القدس في أقنية حجرية من مياه (العروب)، وكانت القدس تفتقر إلى المياه ويعاني أهلها في سبيل الحصول عليها. كما أن بيلاطس عمل على إشادة أبنية ضخمة في القدس، اقتداء بما سبق أن قام به الملك (هيرودوس) وغيره من ولاة الرومان، في حين أن اليهود الذين أقاموا فيها آنذاك (الذين لم يتجاوز عددهم الخمسين ألفاً) لم يقوموا بشيء يذكر في هذا الشأن.
غير أن أهم ما في تاريخ بيلاطس أنه هو الذي أمر بصلب السيد المسيح تحت ضغط اليهود الشديد، وتهديدهم إياه بالتمرد والثورة والطلب إلى القيصر (طيباريوس) بعزله عن ولايته، فلم يسعه، آخر الأمر، إلا أن يرضخ لمطلبهم.
ونبادر هنا إلى القول بأننا لسنا في صدد البحث في المسألة الدينية: هل صلب المسيح عليه السلام حقاً، كما يرى المسيحيون أم أن الصلب لم يقع في حق السيد المسيح وإنما (شبه لهم) كما في القرآن الكريم، في قوله تعالى
(وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم(.
كان بيلاطس يرى القدس في زمن ولايته عليها (عش الدسائس والفتن) وأنها (مدينة تعسة ليس فيها شيئ يستحق الاهتمام سوى الأبنية الضخمة التي شيدها (هيرودوس)(1). ولا شك في أن هذه الصورة كان منشؤها ما كان يشهد من سلوك أحبار اليهود وعامتهم على السواء. وكان ذلك واحداً من أسباب إقامته، فترة من الزمن، في قيسارية (قيصرية)، متخذاً منها عاصمة لحكمه بدلاً من القدس.
كان أول صدام له مع اليهود في بداية ولايته عليها عندما تصدى لهم بكوكبة من جنده بقيادة القائد (ماركوس). ولكن هؤلاء قاوموا جنده بالعصي والحجارة، وبالحقد الشرس الذي عرفت به هذه الفئة على مدى التاريخ قديمه وحديثه، مذ كانوا في مصر حتى يومنا هذا. وكانوا دائماً يتلطون بالدين، متظاهرين ــ كذباً ــ بالدفاع عنه. وقد وصفهم بيلاطس في إحدى رسائله إلى صديقه (سيكا) بالقول (إنهم يستسيغون الشجار من أجل الدين فيعتبرونه طعاماً سائغاً وشراباً)(2).
كان بيلاطس ميالاً إلى مهادنة اليهود إلى حد التواطؤ معهم ومسايرتهم في تنفيذ رغباتهم (كما ظهر فيما بعد). وسبب ذلك ما ذكره هو نفسه في رسائله المشار إليها آنفاً، إذ يقول في إحداها:
(إنني فقير، والأفضل أن أقضي السنوات الباقية لي في منصبي إلى أن ينقلني قيصر)(3).
تقتضينا مكانة القدس الفريدة بين سائر المدن على ظهر هذا الكوكب القول بأنها المدينة الوحيدة التي اختصها الله بمكانة قدسية لم تحظ بها مدينة غيرها. القدس هي الموقع الذي اتصلت فيه الأرض بالسماء للديانتين، المسيحية والإسلامية، إذ إن السيد المسيح عليه السلام، عيسى بن مريم ولد في جوارها بمدينة (بيت لحم)، ثم انتقل إلى القدس مبشراً برسالته إلى أن توفاه الله ورفعه إليه. وفي الإسلام كان مسرى النبي محمد عليه السلام إليها، ثم عروجه منها إلى الملأ الأعلى، يقول تعالى في شأن السيد المسيح:
(إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون( (آل عمران الآية 55).
ويقول تعالى في شأن الإسراء بالرسول محمد عليه السلام:
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير( (الإسراء الآية 1).
وفي شأن المعراج يقول تعالى:
(فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى. ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. إذ يغشى السدرة ما يغشى. ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى( (سورة النجم ــ الآيات 10 ــ 18).
من هنا اكتسبت القدس قداستها وطهرها وسموها. عندما ظهر المسيح في القدس أخذ يلقي بتعاليمه على الناس كان في الثلاثين من عمره. ولكيلا يكون للسلطة الرومانية مأخذ عليه، وعلى دعوته ابتعد عن السياسة، وعندما سئل من قبل خبثاء اليهود عما إذا كان عليهم أن يدفعوا الضريبة للرومان أم لا، أجابهم بقوله:
"ما دمتم تستعملون العملة التي عليها صورة قيصر فإنكم تعترفون بسلطانه عليكم. أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
ساءهم ذلك بطبيعة الحال فاشتدت مناوأتهم له وعداؤهم. كان غضبه منصّباً على حماة الهيكل، ورؤساء الكهنة أكثر من غيرهم. وقد وصفهم "بالذئاب الكاسرة"، وأنهم "جعلوا الهيكل مغارة للصوص والعصابات". ولم يكونوا يتورعون عن اتخاذه بمثابة سوق للبيع والشراء حيث يبيعون فيه الغنم والبقر.. ويقوم فيه صيارفتهم ومرابيهم. وقد بلغ به كره هؤلاء لسوء سلوكهم، وفساد طباعهم أن قال أكثر من مرة "الخلاص هو من اليهود"(4).
وكعادتهم في حرصهم على مصالحهم المادية أولاً قبل كل شيء، وكالعهد بهم أيضاً اتخاذ مواقف العداء حيال الرسل والأنبياء، منذ عهد النبي موسى عليه السلام وبعده، دأبوا على تأليب السلطة الرومانية، فضلاً عن عامة الناس على السيد المسيح، فكذبوه، كما نسبوا له ولأمه السيدة مريم العذراء البتول من الصفات ما يندى له الجبين. ومن ثم استمروا في تحريض بيلاطس النبطي عليه، ولكن هذا لم يكن مقتنعاً بدعاواهم وأكاذيبهم وتخرصاتهم، فهو يعرفهم جيداً، وهو نفسه عانى فظاظاتهم وأحابيلهم الكثير، ولكنه كان يجنح إلى مسايرتهم لأسباب أسلفنا ذكرها.
وحتى بعد أن جاءهم بالمعجزات المبهرة التي تؤيد نبوته لبثوا على ما هم عليه. بل كان من شأن ذلك أن يزيدهم تعنتاً، بدافع الكره والحسد والخوف على المصالح الدنيئة الربوية.
وحين جاؤوه ذات مرة بامرأة زانية، ليسألوه عن حكمه فيها إن كان رسولاً حقاً من عند الله، فقال لهم "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها.."(5) اتهموه عند ذاك بتشجيع الخطيئة.
وهكذا لبثوا على مكرهم وخبثهم فمضوا ينصبون له الشراك واحداً تلو الآخر، وفي مناسبة بعد أخرى، إلى أن قال لهم "إنه والأب واحد"(6) ، فما كان منهم إلا أن هبوا لمهاجمته، بغية الفتك به، إذ رأوا فيه ذلك الخصم الذي سوف ينازعهم مكانتهم، متفوقاً عليهم بمثل هذا الادعاء، ومن ثم تقليص نفوذهم وتحطيم أمانيهم وطموحاتهم، مادة ومكانة. فرَّ من أمامهم وغادر المدينة المقدسة، وفيما هو يسير على جبل الزيتون التفت إلى المدينة يخاطبها قائلاً:
"يا أورشليم.. يا أورشليم.. يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين. كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها ولم تريدوا. هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً".. و"لا كرامة لنبي في وطنه"(7).
ثم مضى يبشر برسالته في ريف مدينة القدس خشية غدرهم، فراح يتجول في التلال والسهول الواقعة بين القدس ونهر الأردن.
اجتمع مجلس (السهندريم) على أثر قصة (العازر) وقيامه من القبر، إذ كانت هذه معجزة قاصمة لظهورهم فقالوا: (إذا ظل سائراً على خطته هذه، يفلت زمام الشعب من بين أيدينا وتلجأ الجماهير إلى التمرد والعصيان فنتوجه ملكاً، وعندئذ يقوم الرومان فيدمرون أمتنا)، إلى أن قال رئيس الكهنة (قيافا): (خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب حتى لا تهلك الأمة كلها. هذا الإنسان يجب أن يموت).
كان ذلك هو قرارهم النهائي بشأن السيد المسيح عليه السلام.
لن نمضي في الحديث في تفاصيل ما حدث في شأن المؤامرة اليهودية الكبرى، في سعيهم إلى صلب السيد المسيح، فما سطرته الأسفار والوثائق التاريخية مذ ذاك أكثر مما يحصى. وحسبنا أننا نعلم جميعاً مسيحيين ومسلمين، كيف أسفرت مؤامرتهم الكبرى عن أبشع وأفظع جريمة عرفها التاريخ في حق السيد المسيح الذي كان ميلاده معجزة، ورفعه إلى السماء معجزة، وحياته القصيرة على هذه الأرض كلها معجزات لم تقنع عتاة المكابرين الفجرة من اليهود، ولم تزدهم إلا عناداً وتنكراً لدين الله، كما سبق لهم التنكر لسائر الأنبياء والمرسلين، وما انفكوا يفعلون حتى يوم الناس هذا.
هذه كانت حال القدس يومذاك. وقد جاء القرآن الكريم ليقص علينا هذه الوقائع توثيقاً لها وتأكيداً عليها. ولو لم تأتنا أنباؤها في كتاب الله المبين فلربما بقيت مجرد قصص تروى، هي أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة، لاسيما وأن اليهود كان في وسعهم إنكارها، بل طمسها على الزمن، وإدراجها بالفعل في سياق الأساطير والخرافات، كالأساطير الإغريقية والبابلية وغيرها، وقدراتهم على الافتراء والتضليل لا مراء فيها، ولا يضارعهم فيها أحد، فالذي جاء مؤكداً رسالة السيد المسيح، وما وقع له على أيدي يهود ذلك الزمن، كان كتاباً منزلاً من السماء، نزل به الروح الأمين على رسول الله محمد بن عبد الله عليه السلام.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فحال القدس في أيامنا هذه على قدر من السوء والشقاء على أيدي قتلة الأنبياء لا تماثله حال في أي مكان على ظهر البسيطة. طباعهم وسلوكياتهم ومؤامراتهم هي هي اليوم كانت عليه منذ ألفي سنة، وما قبلها بألف سنة أو تزيد.
القدس تصلب اليوم على أيديهم من جديد.
أما مسألة الوجود اليهودي على أرضنا فلسطين، سواء في أيامنا هذه أو في زمن السيد المسيح فلم يكن إلا وجوداً طارئاً حيناً، وعابراً حيناً، وعلى فترات من الزمن متقطعة، وبأعداد ضئيلة لم تحقق لهم استقراراً دائماً أبداً، ولم تمكنهم من تشكيل مجتمع سليم متكامل. حتى نبيهم و(نبينا) موسى عليه السلام، لم يعرف القدس، ولم يدخل أرض فلسطين. يوشع بن نون هو الذي دخلها بعد وفاته، غازياً معتدياً على أهلها الكنعانيين الذين عمروها منذ فجر التاريخ، بل قبل أن يخط التاريخ أسفاره، وما زالوا فيها حتى يوم الناس هذا.
وفوق هذا: كم من مرة جرى سبيهم وخروجهم منها مذمومين مدحورين، وتشتيتهم في أرجاء المعمورة على أيدي الفرس حيناً، والرومان حيناً، بحيث لم يقرّ لهم فيها قرار على مر الزمان. وهم لولا (قورش عام 589ق.م) الذي أعاد بعضهم إليها من السبي لما كان لأحد منهم وجود فيها قط. وكما أخرجوا منها في غابر الأيام لن يطول بهم الزمن حتى يخرجوا منها في وقت يرونه بعيداً ونراه قريباً، وكل ما يجري في أيامنا هذه على صعيدي المنطقة والعالم، يبشر بذلك.
ولكن هذا حديث آخر
وله مناسبة أخرى.
الهوامش
(1) من رسائله إلى صديقه (سيكا) في روما ص (51) التي جمعها د.ب كروز أستاذ كلية ترينيتي بجامعة أكسفورد ونشرت في جريدة فلسطين سنة 1945.
(2) المصدر السابق (ص 28).
(3) المصدر السابق (ص 122).
(4) انجيل يوحنا ـ الإصحاح 4 ـ عدد (22).
(5) انجيل يوحنا ـ الإصحاح 8 ـ (عدد 1 ـ 11).
(6) حياة يسوع (ص 301).
(7) انجيل يوحنا ـ الإصحاح 4 ـ (عدد 44).


الساعة الآن 08 : 03 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية