![]() |
أزمنة الغربة ـــ يوسف جاد الحق
ستون مرت..
عشتَ غريباً ستين سنة.. كنتَ صبياً، فغدوت كهلاً.. كنت تمور بالأحلام، فأمسيت موئلاً لكوابيس مفزعة لا تنتهي أبداً. اختلط ليلك بنهارك.. امحَّت الحدود في داخلك وفي خارجك. من حولك وفي أعماقك. حتى الوجوه تشابهت فأضحت نسخاً متماثلة. ذهب الرفاق وضاقت الدائرة، وتغيرت صورة العالم الذي عرفت وأوشكت أن تضيع المعالم. تراكمت الأحزان. وعمَّ البؤس. وتدفق الشقاء مطراً في قلبك. وقلبك ما انفك يخفق دونما توقف. ذهب جلُّ من عرفت، وضاعت في غياهب المجهول مصائرهم. أحقاً ستون مرت..؟ قصيرة كانت حيناً، قريبة كالأمس، أو كطرفة عين. طويلة كانت حيناً، كألف سنة مما يعدون. هي تارة كالمسافة بين دارك والمقهى الذي تؤمه عند كل أصيل. وتارة هي ذلك الفضاء اللامتناهي ما بين الأرض وأبعد نجم في المجرة.. ذلك الغلام اللاهي فوق شاطئ الرمال بيافا.. يبني بيوتاً في تلك الرمال.. يراشق الأتراب بالماء.. يملؤون الدنيا صخباً.. بهجة وحبوراً.. يركب الأمواج ويمتطي الريح.. ينوي أن يخصب الأرض قمحاً وبرتقالاً.. المروج والبيارات.. فرحته تغمر الكون.. تجوب الأرض والسماء. سوف يذهب إلى القدس، والخليل، ورام الله، وبيت لحم، عبر اللد والرملة.. يعب كلام المعلم عن الأجداد، الرحلة يا أولاد.. من سيشارك في الرحلة؟ نصف جنيه عن كل منكم.. تأكلون جبناً وخياراً وتشربون عصير البرتقال والخروب.. ثم تقفل راجعاً إلى أمك المنتظرة تواقف باب الدار. تهرع إليها.. تلثم يدها.. تباهي جاراتها بأنك كنت هناك.. حيث رأيت صلاح الدين منتصراً في باحة الأقصى المبارك.. الظاهر بيبرس.. وجامع عمر.. لم تدر يومذاك أن أندلسنا كان أيضاً ينتظر الضياع. أترانا عشنا زمناً واحداً أم تراها كانت أزمنة بغير عدد..؟ وما الفرق بين قريب في الزمان وبين بعيد ما داما قد مضيا، وإذ قلنا وداعاً لكل ذلك..؟ علمت أن رفيق اليفاع (نعيم) مات في حقل للنفط على ضفاف الخليج، كي يسهم في رفاه الإخوة هناك. واغترب (نافذ) إلى حيث لا يدري أحد. تضاربت الآراء واختلفت التكهنات حول مصيره المجهول.. قيل إنه استشهد في صبرا.. وقيل في بيروت، وربما في تونس.. في غزة.. في الضفة.. ولكن ما الفرق..؟ وأنتم معشر الأحياء ما برحت مصائركم مجهولة.. لا تدرون ماذا يمكن أن يحل بكم في أية لحظة.. ما الذي ينتظركم، وعلى أي جنب في سبيل فلسطين سيكون مضجعكم. اختلطت الأوراق كلها، وانقلبت الموازين كافة. صديق الأمس بات عدواً. وعدو العمر كله والزمن كله يغدو صديقاً. وتحاكم الضحايا إذ تعكر صفو السادة.. وقريظة تغزو شاتيلا.. وأريحا تستوطنها خيبر.. ستون.. رحماك رب الأرض والسماوات.. لقد توالى الليل إثر الليل، فالنهارات تلاشت أو تكاد. الحزن بحار بغير شواطئ. الألم جبال ذراها تطاول السماء. تناثر الموت رذاذاً في البدايات، ثم انهمر سخياً كالسيل العرم. سالت جراءه الأنهار والوديان حمراء قانية. وما فتئ المسرح يعرض ذاته في سائر الأمسيات. والنظارة من شتى الأصقاع تواصل فرجتها من غير ملل. لم تسأم تكرار المشهد. حتى أولئك ممن يغادرون المكان لا يضعون شيئاً أبداً، فما من أحد يجرؤ أن يوقف اللعبة. السادية المثلى تطغى عند البعض فيسعده ما يجري. والبعض الآخر لا يأبه، لا يعنيه الأمر، و..(فخار يكسّر بعضه)..! أشرار يقتتلون.. وشايلوك العصر يقتطع لحومهم النفطية بمدى عربية، في حقد شايلوكي شرس.. يثأر من قوم ملؤوا الكون عدالة في يوم غابر. نفر منهمك في التصفيق استحساناً، وآخر يشدو طرباً..! الصخب اللاهي يصمُّ الآذان خطب هنا.. وأناشيد هناك.. وقراء للقرآن.. إذاعات وفضائيات، ومطابع في كل الأوطان.. والدم المتدفق لا يتوقف.. يرسم كلمات في مانشتات فاقعة الألوان. لكن ـ والحق يقال ـ ما من أحدٍ لم يعلن سخطه، أو لنقل شجبه. بل قد بلغ الأمر ببعض حدّ الاستنكار..! والدم الصارخ ما برح كما كان يتدفق كالنهر الجاري نحو مصبه، حتى إن بيننا من رأى أنه قد بات لزاماً علينا تغيير الأسماء، إذ أمسى البحر الأبيض (أحمر) عند شواطئ بيروت، والبحر الأحمر (أسود) من بركات النفط. أما (الميت) فما زال ميتاً لم تبعث فيه حياة. وكما تغيرت الوجوه والأشياء والأمكنة فقد مسّنيَ التغيير كذلك، فاستنكرت وجهي ذاته إذ ضاعت معالمه التي أعهد. لا أذكر حقاً أني أملك هذا الوجه، بل هذا الرأس وهذا القلب ما كانا لي يوماً. كان الرأس غنيّاً، برؤى ورؤى ورؤى. كان القلب مليئاً بالأحلام.. الألق الباهر في العينين.. بات شحوباً.. والضحكة جذلى كانت كبراءة طفل.. خنقتها سحب الحزن القاتم. الموت الغاشم لم يشبع أبداً، عبر دهور وسنين كالمطر المنهمر بغير تريث، كان حليماً.. لا ننكر..! أمهلهم حيناً عشراً، حيناً عشرين.. الأطفال.. الأشبال.. والشباب غضٌّ يافع، ثم يحين الوقت... لا بد يحين. تهتف ثكلى في خيمة: يا أزمنة الحزن بغير نهاية..! هلا ضجر الموت..؟! هلا نضبت جُعَب السحرة...؟ وتدور الأرض تدور... تسبح في لجج الكون... لا تتلكأ أبداً. والمواليدٌ إثر المواليد.. تمضي في موكبها... نحو قيامتها.. والسكين المتربص ينتظر الموكب..! يجري هذا وأنت في مكانك، أو في غير مكانك. تفعل شيئاً أو لا تفعل.. لكنك قطعاً لا تفهم. تتساءل دوماً... دوماً تتساءل: لماذا أنت..؟! ثق أني مثلك لا أعرف.. تصرخ في سمع الكون.. وتظل بغير جواب.. لا تقسم، أعلم أنك إنسان لا يبغي للغير سوى الخير. بيد أن هذا هو جرمك... هو ذنبك.. وعليه تجازى..! وإلا فلماذا أنت المستهدف..؟ لم تقتل.. لم تسرق.. لم تقطع طرقاً.. لم تغتصب أرضاً لأحد.. لم تك شايلوك ولا هتلر.. حتى أيخمان لم تكنه أنت.. فلماذا بربك أنت المستهدف..؟ ليس مهمّاً يا هذا أن تحزن.. إخوانك ما توا في قبية..؟ وفي غزة..؟ في العرقوب..؟ سيقولون: لا بأس فهم شهداء..! أبناؤك في أنصار..؟ ماتوا جوعاً... تعذيباً... كمداً...؟ ما همُّ فهم ثوار..! ورفاقك في التيه يهيمون؟ فليكن الأمر كذلك. هب أنهم غرقوا في اليمّ إبان الأعصار..! لكن ما بال امرأة.. هي أمك.. ماتت في منأى عنك.. في صمت ماتت, فمرارتها انفطرت.. قتلتها أحزان الغربة... أضناها الشوق إليك... ما انفكت تختزل الأفق بعينيها.. علّك آتٍ من حجب الغيب... من خلف الغيم.. يالعقوق الأبناء..! لو كنت مكانك لمضيت إليها زحفاً.. عبر الأسلاك.. وفوق الأشواك.. لم تحلم يوماً أن ستموت وحيدة.. ولها كل أولاء الأبناء... كانت تحلم بخلاص طالما حدثوها عنه، لتراك قادماً إليها.. اجعله اللهم خيراً.. ترددها في كل صباح، فيما تبسم للطيف القادم من أحشاء الغيب. أكثير عليها أن تحلم بلقائك قبل أن تمضي إلى حيث لا عودة... للقاء وجه ربها شاكية ظلم الظالمين..؟ لن تراك بعد ذلك ولن تراها.. فهم في ذلك العالم الآخر أيضاً لا يسمحون بذلك...! مشاعر إنسانية تقول..؟ ألست على قدر غير يسير من السذاجة..؟! بعض يرى أنه ترف ليس من حقك أن تطمح إليه، من ثم فما من أحد يأخذها على محمل الجد. وحتى أبناء جلدتك أنفسهم كانوا مقتنعين، على الدوام بذلك حين حجروا عليك، فحالوا بينك وبين الحركة.. إلا حيث وكيفما شاؤوا...؟ فلماذا، بعد هذا، أنت يا هذا ساخط..؟ ألا يكفي أنك ما زلت حيّاً..؟ ثم هاهم يسمحون لك أن تتنفس الهواء بحرية دونما حسيب أو رقيب..! صحيح أنك لا تدري متى يقطع عنك هذا الهواء لكنه لم يقطع حتى الآن...! ألا يسعدك أنك ما زلت حياً ترزق وأن ابنك هو الذي مزقته الشظايا إرباً وليس أنت..! أو ليس من الخير لك أن تحزن أنت من أجل أخيك الذي قضى عطشاً يوم غادرتم الرملة، بدلاً من أن يحزن هو من أجلك لو بقي هو على قيد الحياة وقضيت أنت نحبك..؟ ستون سنة أيها المخاتل... إن أحداً لا يدري كيف نجوت حتى الآن، ألم يكن هذا أعجوبة حقاً..؟ حتى ذلك الحزن السرمدي الذي عمَّ المكان لم يقض عليك، على الرغم من أن ألوفاً من بني قومك قتلها الحزن. أم تراك قد نسيت أنك كنت تُنبَّأ في كل يوم عن صديق وافته المنية بالسكتة القلبية، أو بالصدمة العصبية، أو بالدهشة، أو بالفجيعة، حتى إن بعضهم قضى وهو يستمع إلى الراديو أو يشاهد التلفزيون، أو يقرأ في صحيفة. أما أنت فإن شيئاً من ذلك لم يقض عليك. ها أنتذا ما برحت تعي. أليس هذا في حد ذاته مأخذاً عليك؟ بل إدانة لك.. إنها تهمة دامغة لا تستطيع إنكارها، ولا مناص من إلحاقها بك..! أربعة عقود.. وخمسة حروب.. نكبة، ثم نكسة، وغير هذه وتلك ضاعت أسماؤها.. وألف مذبحة.. ولا نعرف كم ألف اعتداء.. وعشرون إذاعة، بعضها يصدع رأسك عشر مرات في اليوم الواحد، ولا تتفق أيٌّ منها مع الأخرى حول أمر. وجبال من ورق.. وأنهار من حبر.. مقالات، وقصص، وروايات، وقصائد، ودراسات، وتمثيليات ذات فصول محبوكة، وأخرى غير محبوكة. أليس ذلك ـ كل ذلك ـ من أجلك أنت؟ ألا ترى أنك مالئ الدنيا وشاغل الناس؟ الكل منشغل بك. الشرق والغرب... الشمال والجنوب.. الأحياء والموتى..! كم أنت مهم إذاً..؟ أوَليست ـ من ناحية ثانية ـ عبقرية خارقة تلك التي يملكها هؤلاء، وإلا فكيف استطاعوا أن يواظبوا على التحدث في الموضوع ذاته طوال ستين سنة بغير توقف، ويجدون في كل يوم "كلاماً" يقال في القصة ذاتها..؟ كيف استطاعوا ذلك دون أن يتهموا بالتكرار..؟ الكل مهتم بك، وإن كانوا جميعاً لا يصغون إليك. بلى إنهم يصنعون لك كل شيء، فما حدث كان بفضل جهودهم التي لم يبذلوها. كل أسهم بموقفه فيما أنت عليه وما أنت فيه الآن..! وتقول بعد ذلك كله إنك غير راضٍ. قل لي بربك ما الذي يرضيك إذاً..؟ وكما هي تقاليد المناسبة لابد أن أقول لك، ربما من أجل أن أواسيك وربما لأن ذلك حقيقة. أقول لك، وأنا أشد على يدك، حزيناً أو تتصنع الحزن: "أصدقك أيها الصديق، لأن المسألة أضحت هكذا، ولأن الصورة هي هذه التي ترى، فلسوف تظل حيّاً فيها، وتبقى هي حية فيك.. يسعدك هذا أو يشقيك، فليست هذه هي المسألة، سيظل هذا الدوار يلف الكون بمن فيه مادامت الأرض تدور، حتى لو أنك عشت إلى ذلك اليوم الذي تحتفل فيه بالذكرى المئة، فالطوفان قادم.. قادم.. وصلاح الدين لن يكون الأوحد في كل الزمان. وتقف يومئذ فوق أرض لا تميد تحت قدميك. لكنك لن تنسى أزمنة الغربة. فلقد كانت قاسية.. قسوتها لا تنسى.. لا تُنسى.... |
رد: أزمنة الغربة ـــ يوسف جاد الحق
سيل من البوح و تأملات وأحاسيس تدفقت بروعة الكلمة و الأسلوب و بصدق وواقعية تجعلنا نحس بعمق جرح و معاناة الفلسطيني الذي لفحته الغربة و سنين الظلم.
تقديري لك أستاذ يوسف |
رد: أزمنة الغربة ـــ يوسف جاد الحق
الأخ الأستاذ يوسف جاد الحق هي أزمنة غربة طويلة ومؤلمة استطعت أن تصورها لنا في هذا البوح الصادق , وأزمنة لن تُنسى بآلامها وأحزانها. ومع ذلك بعثت فينا الأمل بصلاح الدين الآخر , ليحول لنا هذه الغربة إلى أرض صلبة نقف عليها . أشكرك أستاذ يوسف , وتقبل فائق تقديري واحترامي . |
الساعة الآن 45 : 01 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية