منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=65)
-   -   المستقبل.. الذي مضى ـــ قصة - د.يوسف جاد الحق (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=15713)

د.يوسف جاد الحق 07 / 06 / 2010 00 : 09 PM

المستقبل.. الذي مضى ـــ قصة - د.يوسف جاد الحق
 
المستقبل.. الذي مضى ـــ د.يوسف جاد الحق

ـــ 1 ـــ‏

مات صديقي حسن أبو علي...‏

وكما يحدث دائماً في مثل هذه الأحوال، تعترينا الدهشة، ويأخذنا الذهول بين مصدقين ومكذبين، لكأن الموت شأن طارئ أو كأنه حدث غير مألوف في حياة البشر. وقد نمضي بعيداً في غمار اندهاشتنا فنخال أنفسنا في جموج الراحلين ذات يوم، يطغى الحزن آنئذ ويسود الوجوم...‏

لم أشارك في جنازته، فصديقي حسن لا أهل لـه هنا في بلاد الغربة يقتضي الواجب مجاملتهم، لماذا ينبغي علي الذهاب إلى جنازته إذن؟ ألكي أنغِّص على نفسي ولديَّ من أسباب ذلك الكثير. ومن عناصر النكد ما يمكن توزيعه على عدد من أقطارنا المترامية الأطراف، إن لم يكن سائرها، بل إن في جعبتي ما هو كفيل بأن يحملني على أن أحسد حسناً أبا علي في مكانه من ذلك النعش المتهادي على أكتاف نفر من الأصدقاء والمعارف.‏

لم يخلِّف صديقي حسن وراءه سوى زوجته الصالحة أم علي، لسوف يتبادر إلى ذهنك للتو أنهما رزقا بولد بكر أسمياه عليَّاً بيد أن واقع الأمر لم يكن كذلك، فليس شرطاً لازماً أن تنطبق الأسماء على مسمياتها دائماً وفي كل الظروف.‏

ها أنئذا قد عرفت أ أبا علي وأم علي لم ينجبا عليّاً أبداً، وما كان لهما أن ينجباه لسبب سوف أجلو الغموض عنه وشيكاً، بيد أن الناس جميعاً، وبالرغم من ذلك درجوا على إطلاق هذه التسمية عليهما، وهما لا يذكران كيف حصلا عليه ومتى؟ ومن هو أول من أطلقه عليهما، وبمضي الزمن باتا يعتقدان، ويشعران أيضاً، كأن لهما ولداً اسمه علي، حتى إذا ما نودي أيُّ منهما باسمه الذي أطلقه عليه أبواه ـــ كأن يكون ذلك في دائرة حكومية، أو إحدى مقار وكالة غوث اللاجئين ـــ بدا لـه ذلك غريب الوقع على سمعه، ولربما انتابه غير قليل من الاستياء دون أن يعرف لـه سبباً.‏

لعلك الآن سائلي، بعد أن عيل صبرك لماذا لم ينجبا عليَّاً وما الذي حال دون ذلك؟‏

الرجل الذي كان صديقي (حسن أبو علي)، أسكنه الله فسيح جنّاته، كان رجلاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، طوله لا يقل كثيراً عن (ياردتين)، عضلاته مفتولة، شعره فاحم السواد كليلة فلسطينية، عيناه واسعتان، أنفه ضخم إلى حدٍّ لافت للنظر، شفتاه غليظتان كعنترة بن شداد، أضف إلى ذلك أنه كان يملك شاربين غزيرين معقوفين عند طرفيهما، قد يخفيان الناظر إليهما للوهلة الأولى.‏

أما السيدة حرمه أم علي فكانت على عكس ذلك تماماً. كانت قصيرة القامة أو متوسطتها، نحيلة القوام كمن لو كانت في حمية دائمة، بيضاء البشرة، زرقاء العينين كلون السماء الصافية، ولكي أختصر المسألة أقول: إنها لو قيّض لها أن تشارك في مسابقة للجمال كالتي تعرف، لحازت في أقل تقدير على لقب وصيفة للملكة الفائزة حيث تقيم في ذلك المخيم...‏

ـــ 2 ـــ‏

حدثني صديقي أبو علي حسن، ولم يحدِّث غيري بحكايته التي أبقاهاً سرَّاً مصوناً على مدى عمره، قال لي فيما كنا نجلس في مقهى الحجاز منفردين، أمامنا فنجاني قهوة، نتذاكر أيامنا الخالية، فأنشأ يقول على طريقته التي لازمته دواماً:‏

في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، يوم كنت فتىً غضَّ الإهاب، جاءت جحافل الإنكليز إلى بلدتنا لكي يعيثوا فيها فساداً، فطوَّقوا القرية بالدبابات والمصفحات، وانتشر جنودهم في شوارعها وأزقتها، يطلقون الرصاص حيثما وكيفما اتفق.‏

يقتلون رجالاً من المارة، ويصرعون امرأة ترضع وليدها، وغلاماً عائداً من الفرن إلى داره يحمل (فرش) الخبز على رأسه صعقته زخَّة رشاش قذفت به إلى الجدار، فتطايرت الأرغفة وعلى بعضها رذاذ من دمه. نادوا بمكبرات الصوت على أهل القرية يأمرونهم بالتجمع في ساحتها العامة المحاذية للمقبرة من جانب والمدرسة من جانب آخر، وإذ لم يكن بين أهل القرية من يلمُّ بالإنكليزية، وكنت أنا ابن ناظر محطة السكّة الحديدية الواقعة على مشارف القرية ألمُّ بشيء منها، فقد أخذني الإنكليز عنوة ـــ كما فعلوا قبل ذلك أكثر من مرة ـــ لكي أترجم للمختار فحوى رطانتهم، كان والدي يمانع في كل مرة، لكنه لا يلبث أن يرضخ لمطلبهم تحت التهديد، أما أنا فكنت أدّعي المرض، فيما كانت أمي تبكي وتتوسل، بيد أن ذلك كله ما كان ليعفيني من أداء تلك المهمة التي كانت تورثني هلعاً.‏

ـــ 3 ـــ‏

أخذ حسن أبو علي رشفة ثالثة أو رابعة من فنجان قهوته، أشعل سيجارة، ربما كانت الخامسة، قبل أن يردف قائلاً:‏

بعد أن أدى الجنود البريطانيون مهمتهم، على أحسن وجه..!، وبعد أن ابتهج الضابط ومن معه بذلك القدر من الضحايا، وقدر أكبر من الأذى حلَّ بأهل القرية في ممتلكاتهم، إذ اقتحموا بيوتها، ومتاجرها، كعادتهم، فقلبوا محتوياتها وأتلفوا المؤن والغلال، ذلك العقاب الجماعي الذي أورثوه فيما بعد لمن سلموهم البلاد وأخرجوا منها العباد، بعد أن سعدوا بكل ذلك، وتنفَّس كلٌّ منهم صعداءه في جذل وسرور، اصطحبوني معهم في إحدى عرباتهم المصفحة، اجتاحني الخوف، وعجب الناس إلى أين يذهب بي هؤلاء، أما رفاقي في المدرسة في صفّنا الخامس فقد أخذوا يؤلفون حولي قصصاً وحكايات، ومن بينهم أحمد أبو شادي الذي وصمني بخيانة الوطن..! الوصمة التي كان يسمعها من الكبار حول فرد أو آخر. لم يفعل ذلك أحمد أبو شادي دونما سبب، فلقد سبق أن مزّقت لـه دفتراً ذات مرة، وفي مرة أخرى طرحته في مجرى القناة النازلة من أعالي القرية في يوم ماطر...!‏

وبعد رشفة أخرى من فنجانه واصل صديقي سرد حكايته:‏

أقول لك، بعد أن حدث هذا أخذني الجنود إلى سهل قريب من المحطة، يسميه أهل القرية (أرض أم الذهب)، نظراً لخصوبة أرضه وغزارة محصوله من القمح والذرة، وبيارات البرتقال المترامية على جنباته.‏

طلب إليِّ الضابط (كننغهام) امتطاء إحدى خيولهم التي كانوا يسمونها (قوة الصواري)، ربَّت على كتفي قائلاً بعربية مكسَّرة:‏

ـــ يالله يا شاطر حسن، اركب هذه الفرس.‏

وحين لاحظ ترددي وتسمُّر قدميَّ بالأرض عقد ما بين حاجبيه وأطلق صيحة مرعبة أذهلتني لا لشيء سوى تحوُّل ما كان بادياً من رقة في التعامل معي حتى لحظات خلت إلى ذلك الغضب الوحشيّ العارم.‏

بدا ذلك في احمرار عينيه وارتعاش شفتيه، لكنني سرعان ما صحوت على صيحة أشدَّ نكراً:‏

ـــ هيا يا ولدي... هيا... قلت لك اعتلِ ظهر هذه الفرس أيها الشحاذ الغبي وإلا...‏

ما زلت أذكرها بالإنكليزية فهي لازمَتُهُ المفضلة:‏

Come on stupid begger...!‏

قالها وهو يهز مسدَّسه قريباً من صدغي الأيمن، أجل الأيمن يا صديقي. أذكر ذلك كما لو كان يحدث الآن. ثم أتبع صيحته بضربة من سوط في يده على قفاي. أقول لك الحق لم تكن الضربة من القوة بما يتناسب ودرجة صيحته المدوية، وإن كان أثرها المذل ما برح ماثلاً في نفسي حتى هذه الساعة.‏

غير أني لم أتوانَ عن تنفيذ الأمر حين رأيته يرفع السوط عالياً توطئة لضربة ثانية.‏

صاح (كننغهام) بالفرس فانطلقت في ذلك السهل الفسيح تسابق الريح. تشبثت بصهوتها، طفقت تزيد من سرعتها حتى رأيت الأرض تطوى من تحتها طيّاً.‏

وكلما اجتاحني الذعر أكثر تشبثت بعرفها بني اللون والتصقت بظهرها، وشددت ساقيَّ على جانبي بطنها.‏

بغتةً وفي لمح البصر وجدتني أنقذف عالياً لأنطرح في لمح البصر أرضاً، متدحرجاً كالكرة فوق الطين والصخور والعشب الأخضر.‏

ـــ 4 ـــ‏

قيل لي أنني فقدت الوعي فور سقوطي، ونقلت إلى مشفى في مستعمرة (رخبوت) القريبة من المحطة، قضيت في المشفى أياماً إلى أن جاء (كننغهام) بصحبة والدي وأفضى إليه بأنني شفيت تماماً حسب أقوال الأطباء اليهود، اعتذر كننغهام بعد ذلك بأيام حين زارنا في المحطة بكلمتين لوالدي:‏

"Sorry Mr. Abu Hassan"‏

نظر إليَّ مليَّاً... ثم مضى...‏

أما أهل القرية فقد أمسوا، منذ ذلك اليوم المشهود، يؤرخون لمناسبات أفراحهم وأتراحهم وولادات نسائهم بأحداثه المروِّعة، من بينها ما وقع للولد (ابن ناظر المحطة) مع البريطانيين...!‏

غير أنّه تبيَّن فيما بعد أن الضابط (كننغهام) كان كذَّاباً أشراً...‏

هكذا مضى يحدثني صديقي حسن أبو علي بعد أن أطفأ سيجارة تحت كعب حذائه لكي يشعل أخرى.‏

اصطحبني والدي بعد ذلك إلى يافا للتأكد من شفائي، أجرى لي الطبيب فؤاد الدجاني فحصاً دقيقاً في مشفاه بحي النزهة، انتحى الطبيب بوالدي جانباً، أسرَّ في أذنه بكلمات سرعان ما أشاعت الصفرة في وجهه والرجفة في صوته الخافت وهو يهمس للطبيب بما بدا لي استفساراً أو تساؤلات يوجهها إليه.‏

بقيت الكلمات التي تبودلت يومئذ بين الرجلين سراً خفيَّاً ردحاً من الزمن غير قصيرة. كنت أفكر من حين لحين: ترى عمَّ كانا يتحدثان مما كان من شأنه أن يشيع الاصفرار في وجه أبي فضلاً عن حرصهما على ألا يسمعاني ما يقولان...!‏

لم يطلعني أبي على ذلك السر إلا عقب زواجي من أختك أم علي، أخبرني يومئذ بأني لن أنجب أبداً بسبب ما حدث لي في ذلك اليوم الغابر، وهو لم يفعل إلا مكرهاً إذ رآنا لا نفتأ نتردد على الأطباء حين تأخر الإنجاب عاماً ثم عامين.‏

أضاف صديقي حسن وهو مطرق دون أن ينظر إلي:‏

ـــ لو كنت على علم بالأمر قبل ذلك، لما اقترنت بأم علي متسبباً في حرمانها زينة الحياة الدنيا طول عمرها، ما ذنبها هي يا عبد المجيد؟ أرأيت يا صديقي عاقبة ما خلَّفه صنيع ذلك (الكننغهام) في ذلك الزمن الغابر لكلينا من حزن وحرمان وانقطاع ذرية...؟‏

لقد صنع مستقبلنا معاً... أنا وأختك أم علي... مستقبلنا الذي ترى الآن أنه قد مضى وانقضى.‏

ـــ 5 ـــ‏

ها أنت قد عرفت الآن يا صديقي لماذا لم ننجب عليّاً.‏

وعلى الرغم من ذلك هاأنتذا حتى هذه اللحظة ما فتئت تناديني (حسن أبو علي)، لا أكتمك أني قضيت عمري كله أتحرَّق شوقاً لمجيء (علي)، وكذلك كانت أختك أم علي... ولكن... حسبنا الله ونعمَ الوكيل...‏

انسابت الدموع من مقلتيه... وتهدَّج صوته مفعماً باللوعة والأسى يقول:‏

ـــ كنا نعرف أنه لن يجيء... ولكنه كان معنا على مائدة الإفطار، وفي سهرة المساء، كنا نراه يلعب مع لداته في باحة الدار... ثم يكبر معهم يوماً بعد يوم إلى أن أصبح شابَّا... أراه كلما مرَّ بي فتى في مثل سنّه المفترض فأحسبه هو، فأكاد أناديه لأضمَّه إلى صدري...‏

سادت لحظة صمت غشيها حزن مكتوم، قبل أن يعود إلى القول فيما هو مطرق ينقر بأطراف أصابعه على المنضدة العتيقة:‏

"لن يؤرقني شيء في قبري، يا صديقي، إذا ما متُّ قبلها سوى بقائها، في شيخوختها، من بعدي وحيدة... مقطوعة من شجرة، بعد أن فقدنا الأهل والديار، وليس لديها (عليَّ) يمضي معها بقية أيامها.. يؤنس وحشتها في بلاد الغربة، أنت تعرف كم هي قاسية يا صديقي أيام الغربة...‏

زين العابدين إبراهيم 19 / 01 / 2015 48 : 06 PM

رد: المستقبل.. الذي مضى ـــ قصة - د.يوسف جاد الحق
 
"لن يؤرقني شيء في قبري، يا صديقي، إذا ما متُّ قبلها سوى بقائها، في شيخوختها، من بعدي وحيدة... مقطوعة من شجرة، بعد أن فقدنا الأهل والديار، وليس لديها (عليَّ) يمضي معها بقية أيامها.. يؤنس وحشتها في بلاد الغربة، أنت تعرف كم هي قاسية يا صديقي أيام الغربة...‏
[
color="darkgreen"]شكرا لك أيها الكاتب الأديب
ولكم التقدير والإحترام[/color]


الساعة الآن 07 : 01 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية