![]() |
سميح القاسم - الصورة الأخيرة في الألبوم ((رواية )) اختيار وتقديم: د.حسن حميد
[align=justify]
1ـ فتح أمير عينيه على وسعهما دفعة واحدة. للحظات كان مندهشاً من حدة انتقاله المفاجئ من النوم إلى اليقظة. ولكن لم الدهشة؟ فقد تعودت يا أمير على الاستيقاظ المفاجئ والاستعداد السريع للحاق بباص الجامعة. كثيراً ما كنت توصد سحاب بنطلونك خارج غرفتك المستأجرة في الدير المقدسي العتيق، مهرولاً حتى لا يفوتك الباص. تحسس أمير دكانه (فتحة بيجامته) وابتسم حين وجدها مفتوحة كالعادة! ستفتح دكاناً يا ولد، وتبيع طحيناً وشفرات حلاقة، ماجستيرك في العلوم السياسية لن يجعلك ملحقاً في أية سفارة إسرائيلية. اعترف بأنك لن تقبل أصلاً بالعمل في السفارات الإسرائيلية. إنها ليست سفاراتك. قلها بصوت عال ولا تخجل. أنت على حق. إنها ليست سفاراتك ولا سفارات المرحوم أبيك. ولكن ماذا تفعل بشهادة الماجستير التي حصلت عليها من الجامعة العبرية في "يروشلايم"؟ لا تتسرع. لن تقذف بها إلى المرحاض فهي ليست صالحة حتى كورقة تواليت! علوم سياسية يا بن الكلب؟ من أجل ماذا العلوم السياسية؟ للعمل الدبلوماسي؟ لابأ س عليك. هاأنت سفير متجول لدى البطالة. سفير متجول لدى اليأس والمرارة والقرف والحقد الجميل كتفاحة ناضجة في أرض مصادرة. حقدك تفاحة لذيذة وهو وردة متفتحة تماماً أما بولدوزرات الكيرن كييمت. اقطف حقدك برقة أكاديمية وشمه بحركة مهذبة مسرحية ثم علقه في ياقة بدلتك الوحيدة ليتفرج الناس وليمتعوا أنظارهم بوردة فلسطينية لم تبرح أرضها. لعلع صوت المؤذن داعياً الصم بالتعب المكفوفين بالعذاب إلى صلاة الفجر. أطلق أمير بصره عبر النافذة المنخفضة المطوقة بحاكورة ريفية صغيرة. من خلال أغصان الرمان الفوضوية تراءت له في غباش غامض عمارات نتانيا الإسمنتية المكعبة. نتانيا؟ لقد رأيتها آلاف المرات، غير أنها تبدو لي الآن مدينة حلمية. يتحول الحلم إلى كابوس. تندلع ألسنة اللهب من شبابيك العمارات العالية. تتحول ألسنة اللهب إلى ألسنة بشرية هائلة. وينفجر أمير مقهقهاً. ـ بسم الله الرحمن الرحيم! النبي حارسك! مالك يا بني؟ لماذا تضحك هكذا؟.. لعله يحلم! استدار أمير على جنبه الأيسر ليواجه أمه النائمة في الغرفة نفسها: ـ صباح الخير يمه. أنا لا أحلم. إنني في أعلى درجات اليقظة، لذلك فأنا أضحك. لم تفهم أمه ما يقول. ظنته يهذي. تلعثمت قليلاً وسألته في ريبة: ـ ـ هل تريد قهوتك؟ سأعدها حالاً. هل أنت مسافر اليوم أيضاً؟ لا يهمك يا روحي، سافر والله معك. إذا وجدت عملاً، كان به، وإن لم تجده، للقرد. طعام واحد يكفي اثنين، وإن لم يسعك البيت وسعتك القلوب. نحن كلنا قدامك. أخوتك يعملون والصغير ناجح في المدرسة والحمد لله ليس ضرورياً أن تشتغل. أبوك، الله يرحمه، سيفرح في ترابه حين يعلم أن بيته مفتوح وأنك تستقبل الناس في مضافته، لا تحزن يمه يا حبيبي. ثم انفجرت أمه ببكاء ساخن وراحت تولول بين دموعها: ـ الله يغضب عليهم أولاد الحرام. شهادتك وسع الملحفة وما من عمل. السياسية يا ابني. قلت لك دائماً السياسة لا تجلب لك إلا الويلات ولكنك لم تسمع مني.. لجنة الطلاب العرب.. لجنة الدفاع عن الأرض.. وجريدة الشيوعية.. كل ذلك هو السبب في أنهم لا يعطونك شغلاً. أولاد الميتة، يغضب عليهم. لاحظت أنها اندفعت في كشف مشاعرها، وخافت أن يترك هذا الاندفاع أثراً سيئاً على ابنها فحاولت إصلاح الموقف مستدركة: ـ لا تؤاخذني يمه يا حبيبي. إنني لا أعرف ما أقول. إنني عجوز خرقة. لا تغضب مني. أنت متعلم وتعرف الدنيا أحسن مني. تزعل علي فأنت تعرف معزتك عندي وإن كنت قد قسوت عليك فمن حرقتي على شبابك ومستقبلك.. ارتمت على صدره الضامر منتحبة.. أما هو فقد واصل التحديق، من فوق رأسها، في عمارات نتانيا العالية، غير أن ستاراً شفافاً من الدموع شوش عليه الرؤية.. ارتطم بخار قهوة الصباح المهيلة بالجهة اليمنى من وجهه وحين أخذ قطعة الكعك بين إبهامه وسبابته عادت إلى ذاكرته أيام الدراسة في القدس بمرها الذي يربو على حلوها. لا يعلم إن كان يتذكر من أجل الحسرة أو أنه يتذكر من أجل الرضى.. كل ما في الأمر أنه يتذكر فحسب. مرة في القدس، ركض كالعادة ليلحق بالباص. تذكر فجأة، قرب بوابة الدير، أنه نسي فطوره.. كعكة من كعكات العيد التي أجبرته أمه على حملها في كيس النايلون إلى القدس. طيلة شهر كامل وهو يفطر في الجامعة من كعكات أمه. عاد إلى غرفته ليأخذ كعكة وتذكر زميلته سوسن فأخذ كعكة من أجلها، غير أن سائق الباص لم يعلم به ولا بسوسن ولا بأمه وكعكاتها فانطلق من المحطة قبل أن يقبل أمير مهرولاً حائراً بين حقيبته ودكان بنطلونه وكيس الزوادة. كفر في المحطة فاشمأزت منه السيدة السمينة.. إنهم يفهمون الشتائم العربية ويتداولونها كما يتداولون الأملاك العربية.. وابتسم أمير. لم يبتسم لفكرته عن الشتائم، لكنه ابتسم حين تساءل في دخيلته إذا كان قد تأخر موعد الباص من أجل كعكته هو أم من أجل كعكة سوسن! داعب أمير رأس أمه التي ترتب الفراش بحماس وهتف بصوت مشحون حباً وحناناً: ـ ـ يمه، لم آكل في القدس فطوراً أطيب من كعكاتك، لولا كعكاتك لما نجحت في امتحاناتي. وكأنما أجريا بروفات سابقة، ابتسما معاً.. تحولت الابتسامة إلى ضحكة وتحولت الضحكة إلى قهقهة.. انفتح باب الغرفة المجاورة بعنف واندفع علي غاضباً. صاح أمير متلذذاً:ـ ـ صباح الخير يا أخي يا حبيبي.. أراد أن يواصل الترحيب بشقيقه الأصغر، غير أن علياً رد مقاطعاً وكشرة مدللة تجعد وجهه الفتي الصبوح: ـ صباح الزفت. لقد درست حتى الثالثة صباحاً لاستوعب الخواجا بياليك والخواجا بيرتس. نحن في عز امتحانات البجروت وها أنتما تضحكان كالمجانين. ماذا أصابكما؟ من يضحك في مثل هذا الوقت، وعلى العموم، من يضحك في مثل هذه الأيام؟! انطلقوا جميعاً في ضحكة واحدة أشبه ببكاء جماعي.. وتراجع علي عن غضبه وتمتم متمطياً في طريقه إلى الحمام: ـ ـ صباح الخير.. هل القهوة ساخنة؟ ـ 2ـ تردد أمير كثيراً قبل أن يتفق مع نفسه على قرار فيما إذا كان سيلج العتبة إلى المقهى أو أن يواصل السير إلى محطة الباص ليسافر إلى أي مكان وإلى لا مكان بحثاً عن عمل.. هذا هو المقهى الثالث الذي يفتح في قريته الكبيرة بيد أنه لم يُحسب أبداً على رواد المقاهي. كان البعض ينسبون في استنكافه عن مخالطة شعب المقاهي إلى التعالي البرجوازي. طالما تنحنح بعض الخبثاء ليلفت انتباه الآخرين ويطلقها من بعد حادة جارحة: ـ يا عمي أصبح الخواجا أمير من طلاب الجامعة، آسف، الاونيفرسيطا وما عاد يليق به وبأمثاله أن يجالسونا نحن أصحاب الأيدي الملطخة بالكلس والشحم، والقمصان المبقعة بالعرق.. هؤلاء المثقفون يفضلون عطور الطالبات اليهوديات على رائحة العمال والفلاحين العرب.. إيه دنيا يا سيدي دنيا، هكذا تريد إسرائيل! غير أن هذه اللذعة اللئيمة ما كانت لتمر بسلام، ولاسيما إذا كان عبد الرحيم متشبثاً بكوب الشاي متحفزاً لكل رأي ينداح في الفضاء الضيق الكثيف بدخان السجائر والروائح الحادة. ـ "لا يا رفيق! ما هكذا تورد الإبل! المثقفون والطلاب الجامعيون أشكال وألوان. ليسوا جميعاً من طينة واحدة. صحيح أن هناك سمات مشتركة تجمع بينهم وتجعل منهم فئة معينة من فئات الشعب، لكنهم ليسوا طرازاً واحداً، ليسوا مثل البلوكات الخارجة من قوالب المصنع.. بعضهم يا رفيق رجعي متخلف، وبعضهم برجوازي ليبرالي وهناك كثيرون مسلحون ومعبَّؤون بالفكر الثوري العلمي..". جماعة من رواد المقهى يهزون رؤوسهم باستحسان وإعجاب ملحوظين والبعض يواصلون امتصاص قهوتهم بصوت عال وأذهانهم المنشغلة بتبليغ ضريبة الدخل ترفض استقبال أية معلومات إضافية. وعلى كل حال فقد كان هناك دائماً من يفرقع بالضحك لأن عبد الرحيم يطلق لقب "رفيق" على معظم الناس بصورة تلقائية.. مرة سارت في شوارع القرية مظاهرة ضد التعذيب في سجون الاحتلال وتصدت الشرطة للمتظاهرين.. كانت كلمات الخطباء ملتهبة وكان عدد المتظاهرين كبيراً، فجأة نشبت معركة بين مكبر الصوت وبين هدير آليات الشرطة المتصاعد باقتراب الآليات من المتظاهرين.. طوّح شرطي بهراوته في الفضاء وهو يصرخ: ـ "يللا يللا ما فيش تصريح عشان مظاهرة يللا على بيت كلو كلو على بيت أو سجن!".. خف عبد الرحيم نحو الشرطي وصارحه: ـ "انصرفوا من هنا فوراً وإلا فإن وقعتكم سوداء يا رفيق! تعذبون شعبنا ولا يحق لنا أن نتألم ونحتج؟ انقلعوا ونحن نتدبر شؤوننا.. انقلعوا!". ..عبد الرحيم هو زنبرك الحزب في القرية وهو يخاطب معظم الناس بنداء "يا رفيق" لأنه يحب هذا النداء "ويعيشه" ومن هنا لم يفطن لنفسه حين أهدر النداء اللطيف الطيب على الشرطي فضحك المتظاهرون المحيطون به رغم أن هراوات الشرطة موشكة على الانقضاض.. كان الشارع خالياً من المارة باستثناء ثلة من تلاميذ المدرسة الابتدائية المهرولين إلى صفوفهم. هذا الوضع ساعد في إطالة تردد أمير. أخيراً هرش في كتفه اليسرى بأصابع يده اليمنى فتركت أظافره أثراً خفيفاً على القميص البني الملتصق بقامته المعتدلة المائلة إلى النحول.. ليست نحيلة تماماً لكنها مائلة إلى النحول.. وعلى ياقة القميص ذرات بيضاء تساقطت من شعره الأسود اللامع الطويل إلى ما دون الأذنين.. حين هرش أمير في كتفه تغيرت نظام الذرات البيضاء وحين خطا متجاوزاً العتبة إلى داخل المقهى انسحب القميص قليلاً من تحت حزامه الأسود العريض وهبطت بعض الحبيبات البيض على ظهره. تحركت نظرته العسلية الواسعة فوق موائد المقهى الخالية، بصورة قوسية، أشبهت إلى حد بعيد، حركة المساحات الكهربائية، على زجاج السيارات الأمامي.. أوشك على اختيار مائدة قريبة حين صده صوت عبد الرحيم المألوف لديه تماماً: ـ ـ "جهتي، جهتي يا رفيق أمير.. عفواً يا أستاذ أمير.. خطوة عزيزة، اليوم أستطيع الدفاع عنك بجرأة تامة، فها أنت تنزل إلى الجماهير أخيراً!". تذمر أمير برقة وقال وهو يخطو بهدوء لمجالسة صديقه المتكئ على البار بالكوع الأيمن مثبتاً قدمه بحديد الكرسي العالي المستدير: ـ ـ عن أي نزول تتكلم؟ لا تنقصني الجرأة لأعترف بأنني في الحضيض. لم يبق أمامي من نزول يا عبد الرحيم، من مكاني هذا لا أستطيع إلا أن أصعد، ما من منقذ سوى الصعود.. أظنك تفهمني.. صحيح أنك لم تدرس الفلسفة في جامعات إسرائيل، لكنك عضو في الحزب وهناك تعلمت كثيراً ووجد ذكاؤك الفطري طريقاً له، وهذا يكفي لتفهم ما أقول.." في الحقيقة لم يفهم عبد الرحيم مرامي صديقه إلى النهاية، لكنه أحس بالتجربة والممارسة والبديهية أن صديقه يعاني أزمة داخلية حادة.. وكاد يخوض في حوار معه لكنه فطن إلى أنه لم يطلب بعد فنجاناً من القهوة للزبون الجديد، فصاح باتجاه المطبخ: ـ ـ "قهوة للمعلم يا معلم! على كيفك يا رفيق!".. وبربر المعلم في المطبخ: ـ "عاد يناديني يا رفيق.. أعوذ بالله منكم يا شيوعيون! على فنجان قهوة تدمرون العالم وتعيدون بناءه!". لم يتوقع المعلم أن يسمعه عبد الرحيم لذلك فاجأه هذا حين سأله بلهجة استجوابية مداعبة: ـ "بماذا تبربر يا معلم النحس؟ تسبنا، أليس كذلك؟ لن ينفعك ذلك في شيء.. لن تحصل بسهولة على تصريح لجماعتك المنتظرين على الناحية الثانية من الجسر.. الجماعة هنا أصبحوا أشد لؤماً بعد يوم الأرض وما عادوا يثقون كثيراً حتى بعملائهم الحقيقيين.. دعك من هذه المسرحية يا معلم النحس، لن تنطلي اللعبة عليهم.. وافهم يا بغل.. افهم جيداً ما أقوله لك، إما أن يلتقي جميع المقيمين بجميع اللاجئين أو أن تذهب تصاريح الاحتلال إلى جهنم.. أنا أحكي بالعربي لا بالسنسكريتي.. افهموا يا ناس، افهموا يا طرش!". عاد "المعلم" يبربر من الداخل وهو يمد يده بفنجان القهوة: ـ "عليك اللعنة يا عبد الرحيم، أنت بشر أم رادار؟ أحسب أحياناً أنك تفهم ما يدور في بالي حتى دون أن أتكلم.. وماذا في الأمر؟ قلت أنكم تدمرون العالم وتعيدون بناءه على فنجان قهوة!" واستنكر عبد الرحيم: ـ "لا يا شيخ! نحن نفعل ذلك على فنجان قهوة؟ فمن هم إذن الذين قوضوا إمبراطورية القياصرة الروس؟ ومن هم الذين دمروا الرايخستاغ على جمجمة هتلر؟ ومن هم إذن الذين حرروا فيتنام؟ ومن هم إذن الذين يتصدون لحكام إسرائيل الصهاينة هنا في بلادنا؟ الشيوعيون أم التنابلة الانتهازيون أمثالك؟ اعقل يا بني آدم. اعقل يا رفيق!". احمر "المعلم" بتأزم موقفه، فحاول التملص من ورطته: ـ ـ "دخيلك يا عبد الرحيم دعني وشأني. أنا لا أتدخل في السياسة. أقاربي ينتظرون التصريح منذ أسبوعين على الجسر وأنا أحترق طول الوقت وأنت تطلق هنا كلاماً كبيراً.. إذن دع بريجنيف يعطيني تصريحاً لأقاربي.. ها.. ماذا تقول في ذلك؟! قال عبد الرحيم بلهجة يائسة طالما قاومها لخوفه من أن يسيئوا تفسيرها: ـ ـ "أعوذ بالله منك ومن أمثالك.. مصيبة.. لن تفهم يا تيس.. وعلى كل حال فإن بريجنيف مشغول الآن بالمحادثات مع ياسر عرفات ولا وقت لديه لإرضاء انتهازيتك".. لم يتدخل أمير في الحوار النشط. كان ذهنه مشغولاً حتى الامتلاء بمشكلته الحادة.. إنه بحاجة إلى عمل يكسب منه شيئاً. لقد صادرت الحكومة القطعة الخصبة من أرضهم وما ظل منها لا يكفي لدفع ضريبة الأملاك المفروضة عليهم. تحول والده من مزارع صغير إلى عامل بناء. كانت هذه الصنعة جديدة عليه لذلك لم يسيطر جيداً على توازنه فوق السقالة المعلقة على جدار الطابق الرابع في نتانيا.. وهبة الريح الشتائية تلك كانت كافية للتطويح به من أعلى السقالة ليهوي على أرجوحة الأطفال المنصوبة حديثاً في حديقة البناية الجديدة.. شطرته الأرجوحة المعدنية شطرين.. ابتلعت الريح الشتائية صرخة رعبه المنفجرة في الفضاء كعبوة ناسفة، وابتلع التراب الباقي من جثته الممزقة.. غير أن هذه المأساة التي حلت بالأسرة لم تثن أمير عن عزمه الوطيد على إتمام دراسته الجامعية. صحيح أن أخوته الثلاثة الأكبر منه يعملون. صحيح أنهم لم يبخلوا على أمه وولديها الباقيين في المنزل بقسط من ثمار عرقهم لكنهم كلهم متزوجون وعائلاتهم تكبر عاماً بعد عام ودخلهم المحدود يضيق يوماً بعد يوم عن كفاية حاجاتهم الأولية، لاسيما والليرة الإسرائيلية تتقلص يوماً بعد يوم والغلاء يتفاقم يوماً بعد يوم والقلق يكبر يوماً بعد يوم.. أمه تقول له: "ليس ضرورياً أن تشتغل".. وهو يعرف أنها تكابر، يدرك جيداً أي ألم سرطاني ينهش روحها وجسمها من الداخل. لقد بنت عليه أمالاً كباراً.. لم تعرف ما معنى "العلوم السياسية" لكنها كانت واثقة من أنه سيتخرج يوماً ما وسينال وظيفة جيدة يكسب منها مرتباً جيداً يكفيهم ويسد أفواه البقال واللحام وبائع الثياب والأحذية الذين لا يستطيعون التسامح بديونهم أكثر من اللازم. لاحظ عبد الرحيم أن صديقه موغل في غيبوبة من الشرود والقلق فانتهره: ـ ـ "أين وصلت يا رفيق؟ قلنا نتسلى معك قليلاً وها أنت تتركنا وترحل.. حدث يا عم.. هل تبيعني أفكارك بعشر ليرات؟! ابتسم أمير بمرارة طفيفة: ـ "عشر ليرات عداً ونقداً؟ ما هذا؟ حتى الأفكار أصابها الغلاء؟ كنت أظن أن أكبر مفكر في العالم لا يساوي في إسرائيل صحن حمّص، وها أنت تدفع عشر ليرات مقابل أفكار جامعي صغير عاطل عن العمل!! رائع، رائع يا رفيق!". ـ 3 ـ كان الباص قد انطلق من المحطة بهدير مرتفع، لذلك لم يسمع إبراهيم كلمات أمير الجالس إلى جانبه، فهتف: ـ ماذا قلت يا أمير؟ وكرر أمير بهدوء تام: ـ يجب أن نعترف لعبد الرحيم بأنه على حق.. إنه إنسان بسيط وطيب القلب ولم يتخرج من أية جامعة ولكنه على حق. هؤلاء الجماعة يثيرون دهشتي.. لاحظ كيف أن أبناء أكبر العائلات منهم يعاملون عبد الرحيم المقطوع من شجرة باعتباره قائدهم الحقيقي.. ليس من السهل أن يحدث مثل هذا الأمر في مجتمع مثل مجتمعنا. هم وحدهم حققوا ذلك. إنهم حتماً على حق. وتذمّر إبراهيم: ـ دعك من هذه الهلوسات.. شيوعية وبطيخ أصفر.. ماذا صنعوا لنا غير الكلام؟ وماذا جلبوا لنا غير غضب السلطة؟. واستنكر أمير: ـ كلام؟ تقول "كلام"؟ أنت غلطان يا إبراهيم لولاهم لتشرد من بقي من شعبنا. ولولاهم لما عرفت جماهيرنا كيف تناضل من أجل حقوقها القومية واليومية.. لولاهم لأكلنا الصهاينة لحمة خضراء.. والكلام أيضاً! فلولاهم لضاعت لغتنا العربية. تصوّر حياتنا الثقافية بدون صحافتهم! أما غضب السلطة علينا فلأننا نؤيدهم وأما غضب السلطة عليهم فلأنهم يؤيدوننا. هل تفهم ما أقول؟ السلطة غاضبة لأننا معهم وبهم رفضنا الرحيل والمذلّة وتصدينا لمؤامرات التهويد والتجهيل. والسلطة غاضبة أصلاً لأننا موجودون.. لمجرّد وجودنا، وليس لسببهم هم فقط. وتصدى إبراهيم مرة أخرى: ـ يا شيخ، دعك من المشاكل. اليوم تبدأ العمل في تل أبيب في مطعم فخم لا يجرؤ على دخوله سوى الأثرياء.. وغداً تتعرف على شقراء بحبوحة وبعد غد تنسى الدنيا وهمومها. ابتسم أمير بمرارة وربما بسخرية: ـ أفق يا إبراهيم. أفق يا أخي. لن تستطيع "شقراء بحبوحة" أن تنسيني أرضي المصادرة وأبي القتيل وأمي المرهقة وشهادتي الجامعية التي لم تخولني أكثر من العمل في مطعم. أنت الواهم ويجب أن تنجو بنفسك من وهمك المميت يا إبراهيم. وتدخل إبراهيم: ـ اسمع يا أمير. حين نصل تل أبيب يصبح اسمي "أفراهام" لا إبراهيم. نريد أن نعيش يا أخي فلا تدعني هناك إلا باسم "أفراهام".. لا تقطع رزقي. المعلم يعرف اسمي الحقيقي أما الزبائن فلا. إذن لا تنكّد عيشي. لقد دبّرت لك شغلاً فلا تخرب بيتي. ودهش أمير: ـ أفراهام؟ يا عيب. تنكر أصلك يا إبراهيم؟ أإلى هنا وصلنا؟ ـ أنا لا أنكر أصلي ولكنه الشغل.. المصلحة يا بن آدم. حاول أن تفهم. ـ ماذا أحاول أن أفهم؟ لكل شيء حدود يا إبراهيم.. وهل تريد تغيير اسمي؟ لا يا أخي، أرجوك. أنا راجع.. ـ اهدأ يا مجنون. أنت لن تغير شيئاً، اسمك يمشي عندهم. ولكن لا تثرثر في السياسة. تشتغل وتقبض أجرتك ولا شيء أكثر في تل أبيب. أما في البلد فلك عبد الرحيم كله!! شحن الفراغ القليل بينهما صمت ثقيل متوتر. وللحظة فقدَ أمير إحساسه بوجود إبراهيم إلى جانبه.. وفجأة عادت إلى مخيلته صورة والده هارباً من سقالة الطابق الرابع في نتانيا، وخيل له أنه سمع صوت ارتطامه وانقصامه على الأرجوحة المعدنية الحديثة المعدّة للأطفال القادمين الجدد! غمغم أمير في شبه غيبوبة: "أفراهام"! وردّ إبراهيم بسرعة وبلهجة منتصرة: ـ كين أمير. ما اتا روتسي؟ (نعم يا أمير. ماذا تريد؟). وابتسم أمير وحاول أن يكبت ضحكة منطلقة ثم لم يتمالك نفسه فكركر ضاحكاً.. وشاركه إبراهيم دون أن يفهم أو يتصور ما يدوّم في رأس أمير.. ولم يتوقفا عن الضحك إلا حين احتج أحد المسافرين: ـ شيكت. أنتم مفريعيم.. (سكوتاً.. إنكما تزعجان..) ـ 4 ـ طوّح أحد الزبائن بقبضة يده في الفضاء.. تجشأ بشكل يؤكد أنه أكثر من الشراب، وصرخ في وجه صاحب المطعم المتكئ براحتيه على حافة البار من الداخل.. ـ ما هذا يا بالابوس(1)؟ قل للحمار الذي يشتغل عندك أن يضع مزيداً من الزيت على الحمّص. احتجّ "البالابوس" بحدّة: ـ تكلّم بأدب وإلا ألقيت بك إلى الخارج! تبلبل الزبون السكران: ـ أنا يهودي مثلك، وتلقي بي إلى الخارج؟ واسترسل بصوت أعلى: ـ اخجل على نفسك! ألا يكفي أنك تشغل العرب؟ ألا تدافع عنهم أيضاً؟ لاشك بأنك تحبهم.. تحب العرب.. قل ذلك بصراحة.. إنهم يقتلون أبناء شعبك وأنت تحبهم.. أُحرج البالابوس بعض الشيء فتلفّت حواليه وكأنه يعتذر: ـ أنا أشغلهم لأنني أربح من عملهم. ثم إنني أراقبهم جيداً وهم لا يتدخلون في السياسة! شغيلتي أولاد طيبون.. وعلى كل حال تستطيع أن تأكل في مكان آخر إن كان مطعمي لا يعجبك! ــ مكان آخر؟ أي مكان آخر؟ إنهم موجودون في كل مكان! ونهض الزبون السكران متأرجحاً.. قذف ورقة نقدية في وجه صاحب المطعم وتطوح إلى الخارج وهو يتمتم: ـ أرض إسرائيل! قالوا لنا تعالوا إلى دولة اليهود.. وها هي دولة اليهود مليئة بالعرب.. أرض إسرائيل! متى نصلك يا أرض إسرائيل؟ أرض الحليب والعسل.. كم يساوي لتر الحليب المغشوش في هذه البلاد؟ كم يساوي.. هه؟ ومن يستطيع أن يشبع أولاده حليباً في هذه البلاد.. هه؟ من يستطيع؟.. كان قد بلغ منتصف الإسفلت حين زعقت بقربه سيارة أجرة مسرعة وانصبت على رأسه شتائم السائق.. استفزّه هذا التصرف فراح يصرخ ويلوح بقبضته وراء السيارة: ـ كدت تدهسني يا بن...! الألمان بأنفسهم لم يتمكنوا من قتلي وأنت كدت تقتلني.. ليتهم قتلوك أنت يا حمار! يا حرامي.. كلكم حرامية.. دولة حرامية وقتلة.. تفو.. "ينعل أفيخا.."(2). سمع بعض المارة شتائم السكير الغاضب فهاجوا: ـ أية وقاحة! هذا العربي يشتم اليهود في تل أبيب! لنلقنه درساً! انهال عليه بعضهم بالضرب وراح آخرون يحتجون والبعض يتفرجون.. تحت الضرب واللكم والركل، أخذ السكير التعيس يقهقه بصورة هستيرية.. ودموعه تتفجر من عينين حمراوين وفمه ينشد مقاطع مشوشة من نشيد هتكفا(3)!. * أثناء كل ذلك كان أمير وإبراهيم.. عفواً.. "أفراهام"، متجمدين يحدق أحدهما في وجه الآخر، ولم يحركهما سوى صوت المعلم: ـ ما لكما متوقفين عن العمل؟ هيا، لقد انصرف الأهبل، فعودا إلى العمل.. لا داعي للقلق.. هيا، لدينا زبائن.. وتدخل زبون يجلس وحده إلى مائدة: لابأس.. الدنيا مليئة بالمهاويس المتطرفين.. لا بأس! كان الزبائن الجدد ثلاثة أشخاص.. ضابط عسكري وزوجته وابنتهما الشابة.. تصفحوا اللائحة وطلبوا طعاماً وعصيراً.. أعد إبراهيم.. عفوا "أفراهام" الطعام وكان على أمير أن يقدمه للزبائن الجدد.. همس إبراهيم مشجعاً: ـ هيا يا أمير: أمامك الآن فرصة جديدة لتثبت أنك غرسون جيد. خطوة تلو خطوة، وصحناً تلو صحن، وليرة تنطح ليرة. اهتم بعملك كما يجب. انس أنك جامعي يعمل غرسوناً. أقنع نفسك بأنك غرسون مئة بالمئة، ولن يمر وقت طويل حتى يصبح أجرك، مع البخشيش، أكبر من أجر بروفيسور بأربعة وعشرين قيراطاً. هذه هي الدنيا يا صاحبي. ابحث عن الحظ ولا تنتظره. وإذا أمسكت به مرة فلا تفلته لأنه قد لا يعود ثانية.. هاك صحن الحساء وتوكل على المعلم وعلى الله.. لم تنفع "خطبة" إبراهيم كثيراً، فإن أمير لم يقنع نفسه بأنه "غرسون مئة بالمئة"، ولكنه حاول أن يتقن عمله.. تقدم بقليل من الثقة، وحين وصل إلى مائدة الضابط وأسرته اختطف ابتسامة مهذبة وألقى تحية المساء.. وعوضاً عن أن يركز اهتمامه كله في صحن الحساء فقد انشغل قليلاً يتفحص الوجوه الثلاثة المحيطة بالمائدة، وهكذا فقبل أن يستقر الصحن على المائدة اندلقت منه قطرات على كتف الضابط، فوق الرتبة تماماً! أحسّ الضابط بإهانة شديدة وكاد يصفع "أمير" في سورة غيظ ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عن هذا التصرف الذي قد يجعله يبدو نداً للغرسون المهمل.. العربي!.. لاشك في أن هذا الجرسون عربي.. إن معظم شغيلة المطاعم من العرب.. وهذا الشاب عربي بلا شك.. وفي لهجة أرادها جارحة غمغم الضابط المغيظ: ـ هه.. أنتم لا تصلحون حتى لمهنة غرسون!.. يا إلهي! ماذا نستطيع أن نفعل بكم؟! مرة أخرى، اتضح أن أمير لم يقنع نفسه بأنه "غرسون مئة بالمئة".. صخب الدم في صدغيه وغامت عيناه قليلاً، وقبل التحدي.. هرع إلى المطبخ.. سحب شهادة الماجستير في العلوم السياسية من جيب معطفه، وعاد مزوبعاً نحو الضابط الساخط.. قذف أمير شهادته في صحن الحساء وهو يواجه الضابط بكلمات تخرج من بين أسنانه، بعيداً عن شفتيه: ـ أجل يا حضرة الضابط، أنا لا أصلح لمهنة الغرسون، لكنني أصلح معلماً للعلوم السياسية!! أنتم فرضتم عليّ أن أصبح غرسوناً ويجب أن تتحملوا النتائج.. يجب أن تصمتوا حين يسقط الحساء على رتبكم العسكرية! كان أمير دائخاً، أهدابه السفلى مبللة بالدموع وشفتاه ترتجفان وجعاً وخوفاً وتحدياً ومذلّة وكبرياء.. كانتا تنبضان بكل هذه الأحاسيس مجتمعة في جلبة غريبة تملأ عقله وجسده وروحه وعالمه برمته. دهش الضابط قليلاً. تشبثت زوجته بحقيبة يدها. أما ابنتهما فاختطفت الشهادة من الصحن وكان جزءاً منها قد ابتل واختلط فيه الحبر بالحساء.. ظل أمير جامداً إلى أن سحبه إبراهيم نحو المطبخ.. حاول إبراهيم الاعتذار للزبائن المخضوضين ولكنه فشل فشلاً ذريعاً فقد شب الضابط من مقعده وتبعته زوجته بحركة تلقائية.. تلكأت الشابة، وبعد إجالة نظر سريعة بين الطبخ وبين إبراهيم ووالديها نهضت عن كرسيها محدثة صريراً حاداً، وانطلق الثلاثة إلى الخارج مع تمتمات الضابط الغاضب والساخر في آن: ـ تعالوا نبحث لنا عن مكان إنساني!! لعلّه من حسن حظ أمير أن البالابوس كان قد غادر المطعم قبل وقوع هذا الحادث بقليل.. أجل، من حسن حظه، وإلا فإنه كان سيلحق حتماً بالزبائن الغاضبين، وما كان سيعود إلى العمل أبداً.. وما كان سيسمح له بتناول الطعام في هذا المكان.. بربر إبراهيم محنقاً: ـ لم يتخل عنك الحظ يا عرص، وإلا لكان البالابوس قصف رقبتك! ضابط عسكري! إنه ضابط عسكري كبير، وتتحداه يا تيس؟! لم أخاطبك بمثل هذه الكلمات من قبل، ولكنك الآن تستحقها.. من تظن نفسك؟ والله لو لم تكن ابن بلد، ولو لم يكن بيننا خبز وملح لكنت أنا قذفت بك إلى جهنم.. متى تفهم يا بن آدم أنك إذا أردت أن تصبح هنا شيئاً فعليك أن تكون (مجرد لا شيء) أمام الزبائن وأمام "البالابوس"!! احتج أمير: ـ لا شيء يخرج من اللاشيء.. فطن إلى أن إبراهيم لن يفهمه، فاختصر: ـ حسناً دعنا مما حدث ولنواصل العمل، هناك زبائن جدد، اذهب إليهم أنت ودعني أنا في المطبخ.. يبدو أنني أكثر توفيقاً مع الصحون القذرة مني مع هؤلاء البشر!! ـ 5 ـ سكين أمير تقطع البصل بحذر شديد يشي بانعدام الخبرة.. ومع نزول السكين في شقوق البصل تنزل الدموع من شقوق عينيه.. الساعة الثامنة صباحاً.. لم يحضر البالابوس بعد، أما أمير وإبراهيم فكان عليهما أن يعدّا المطعم لوجبة الإفطار.. أمير يملأ وعاء كبيراً بالسلَطة العربية ويلقي من حين لحين نظرة على قدر الحمّص التي تنتظره.. أما إبراهيم فكان يمد الموائد، يضيف المناديل الورقية ويوزع المساويك ويفطن فجأة إلى أنه لم يشتر بعد لفّة من ورق التواليت.. يهمّ بالخروج إلى الدكان القريب ويتوقف مندهشاً عند الباب. ـ يا إلهي! إنها.. إنها ابنة الضابط الذي تشاجر مع أمير مساء أمس.. إنها قادمة إلينا فماذا تريد؟ هل نسيت شيئاً، أم أنها في مهمة عسكرية؟! ابتسم إبراهيم مغتبطاً بنفسه وبفكرة "المهمة العسكرية" هذه.. ولم يكد يسترد توازنه الداخلي المائل إلى البهجة حتى كانت واقفة في مواجهته تماماً: ـ صباح الخير. ردّ إبراهيم بترحيب زائد: ـ أهلاً وسهلاً.. صباح النور.. ودون أن يسألها عن سبب قدومها دعاها إلى الدخول، وهرع إلى أقرب مائدة ساحباً أحد الكراسي إلى الوراء قليلاً مفسحاً لها مجال الجلوس بصورة ظنّها تقطع عليها سبيل الرفض. ظلت واقفة بالباب وهي تسأله: ـ أين صديقك الذي تشاجر مع أبي مساء أمس؟ ارتاب إبراهيم قليلاً: ـ لماذا تسألين عنه؟ لقد انتهى الخلاف ولا داعي لملاحقة هذه المسألة. أحسّت بقلقه فهدّأته: ـ لا تقلق. انس ما حدث أمس. أريد محادثة صديقك قليلاً. لم تتبدد مخاوف إبراهيم: ـ في أي موضوع تريدين محادثته؟ ظلت على هدوئها: ـ اسمع. إنه إنسان جامعي وأنا طالبة جامعية. يجب أن نكون أسمى من الشارع قليلاً. أريد مصالحته. اغتاظ إبراهيم: ـ أسمى من الشارع؟! هو جامعي وأنت جامعية، إذن أنا هو الشارع، أليس كذلك؟ أليس هذا ما تريدين قوله؟ الحقيقة أنه كان لغيظ إبراهيم دافع آخر، في لا وعيه، وربما في وعيه.. لماذا لا تسأل هذه الشابة الجميلة عنه هو بالذات؟ صحيح أنها ليست شقراء من الطراز الذي يستهويه، لكنه ما كان ليستنكف عن شعرها الخروبي الطويل وعينيها العسليتين وجسدها الملوح الرائق. لم يشعر إبراهيم، ولو للحظة، برغبة في طردها، بل سرعان ما احتشدت حواسه لتلبية رغبتها: ـ تفضلي، اجلسي، وسأدعوه حالاً. هرع إبراهيم إلى المطبخ. كان أمير يخلط الخضراوات المفرومة بملعقة كبيرة. كانت دموعه قد توقفت عن السقوط ولكن حمرة طفيفة ما زالت تشوب حدقتيه. ربّت إبراهيم على كتف أمير بحركة مسرحية: ـ أنت مطلوب يا أستاذ. صدق أو لا تصدق، لكن ابنة صاحبك الضابط تنتظرك هناك. تفضل يا أفندي. تصبَّح على مهلك ودعني لأغوص وحدي في حلة الحمّص. والله عال. ناس تأكل الدجاج وناس تقع في السياج.. وتشكو الحظ يا قليل الخير.. الله سبحانه وتعالى ينعم عليك وأنت تكفر بنعمته. اذهب يا ابني اذهب وسنرى من الذي سيفوز بك فيما بعد.. عبد الرحيم أم هذه الصبية الجميلة.. لم يخطر ببال أمير أن يكون إبراهيم جاداً، فواصل عمله بالوتيرة نفسها. انتهره إبراهيم: ـ ما لك يا بجم! ألا تصدقني؟ هل كذبت عليك في يوم من الأيام؟ هيا ألق نظرة عبر طاقة المطبخ وتحقق مما أقول. كان أمير قد أبدى شكوكه في مزاعم إبراهيم وهيأ نفسه لمجابهة السخرية المتوقعة، لذلك وجد في نفسه طاقة كافية ليطل فعلاً عبر طاقة المطبخ. ورآها. رأى ظهرها فقط وكان قد رآه أمس أيضاً فلم يجد صعوبة في التعرّف عليه. ألقى نحو إبراهيم نظرة اعتذار سريعة. غسل يديه وجففهما بالمنشفة المبتلة بعض الشيء وغادر المطبخ دون أن ينطق بكلمة. ـ صباح الخير. استدارت بسرعة. ـ صباح النور. تذكرني طبعاً. أليس كذلك؟ ـ بلى. أذكرك وأذكر أباك أيضاً، وقد أذكر أمك.. ـ ما زلت غاضباً. ـ ليس غضباً. لعلها المرارة. أدرك أمير على الفور أن إجابته تنطوي على نوع من العتاب والاستعطاف فأردف بلا تردد وبجفاء تظاهري: ـ المهم، ماذا تريدين. دعي ما حدث أمس. هل من جديد؟ ـ اسمي روتي.. أنا طالبة جامعية مثلك. أدرس الآداب هنا في تل أبيب. لست ضالعة في شؤون السياسة لكنني تضايقت جداً مما حدث أمس، وأريد تنقية الجو. ـ ما حدث أمس يا آنسة ليس مسألة سياسية. بل مسألة اجتماعية إنسانية.. مسألة سلوك وأخلاق ليس أكثر. ـ أأنت تقول ذلك؟ بل هي مسألة سياسية قبل كل شيء. أنا التي لا أفهم في السياسة ألاحظ هذه الحقيقة وأنت لا تلاحظها؟ لعلك تتجاهلها. أنك تواصل اللعبة ولن نتوصل بذلك إلى شيء. قلت إنني أريد تنقية الجو وأنا أعي أن هذا الجو الذي يحتاج إلى تنقية قائم بين ضابط يهودي هو والدي وبين شاب عربي، هو أنت. ليست المسألة مسألة خلاف عرضي بين مواطنين. ألا توافقني في ذلك؟ ما كان أمير بحاجة إلى هذه المحاضرة من أجل أن "يوافقها في ذلك!". كان يريد أن يحسم الأمر بهدوء ليعود إلى مطبخه ومرارته. لكن هذه الصبية لا تتركه وشأنه. "لا تعف عنه" كما يقولون. إنها تلاحقه، بل تستفزه فليقبل التحدي. ـ حسناً، هاأنت تفهمين كل شيء، فما العمل؟ ـ الحقيقة أنني لم أفكر في أكثر من مقابلة إنسانية بين إنسانين متحضرين. ـ إنسانية أم سياسية؟ ـ ضحكت باقتضاب. وقبل أن ترد بشيء عاجلها بسؤال ودي: ـ هل تشربين القهوة الآن أم تفطرين قبلها؟ ـ نشرب القهوة. فوجئ أمير مرة أخرى. هاهي تقول "نشرب" لا "أشرب". إذن فلا مفر من مواصلة الحوار. ولماذا "المفر"؟ لم لا يواصل الحوار. إنه يؤمن إيماناً عميقاً بأنه منتصر لا محالة في أي حوار من هذا النوع لأنه مؤمن بعدالة قضيته وعدالة موقفه. أقبل إبراهيم بفضول: ـ هل تريدان شيئاً؟ رد أمير بحسم: ـ لا شكراً. هز إبراهيم كتفيه متظاهراً باللامبالاة وانكفأ إلى المطبخ وهو يصفر لحناً مرتجلاً.. وقبل أن يعود إلى حلة الحمص جاءه صوت أمير حازماً واثقاً ومداعباً في آن: ـ اثنان قهوة يا أفراهام! ـ 6 ـ سحبت روتي ورقة ليلكية من ماسكة المناديل الورقية. مسحت عن شفيتها آثار الكريم المتبقية من كعكتها. قربت فنجان القهوة من فمها ثم أعادته إلى مائدة المقهى البحري دون أن ترشف منه. ظلت نظرتها مركزة على سطح البحر الهادئ إلى أن قطعتها دراجة. التفتت إلى أمير فجأة: ـ يصعب علي تصديق كل ما قلته. اعذرني، لا أستطيع أن أتخلى عن كل ما قرأته وسمعته بعد هذه الجلسة القصيرة على فنجان قهوة وقطعة غاتو.. بالمناسبة، شكراً على الدعوة.. عمري ثلاث وعشرون سنة ومنذ تعلمت القراءة وأنا أقرأ في الصحف أن العرب يعيشون في إسرائيل حياة أفضل من حياة إخوانهم في البلاد العربية، هذا ما أسمعه طيلة الوقت في الإذاعة هذا ما شاهدته دائماً على شاشة التلفزيون.. ثم إنني سمعته من عرب يظهرون على شاشة التلفزيون ويتكلمون كثيراً عن التطور الهائل في الوسط العربي. وتأتي أنت الآن لتنسف كل شيء. إنك ترسم صورة قاتمة جداً لا أستطيع قبولها. مرة أخرى، اعذرني يا أمير فهذا الذي تقوله كثير وخطير في آن. ما لك تنظر إلي هكذا؟ إن ابتسامتك الآن تشبه ابتسامة الموناليزا.. موناليزا رجالية لم يرسمها أحد بعد. لا. أنت تبالغ. لا أظن. لقد قرأت كثيراً وسمعت كثيراً. كن موضوعياً. دعك من الخيال الشرقي الـ... قاطعها أمير بحدة: ـ خيال شرقي؟ أأنت صاحبة النظرة الإنسانية، كما تعرفين نفسك، تؤمنين أيضاً بنظرية "الخيال الشرقي" العنصرية؟ اسمعي يا روتي.. أعرف أنك قرأت كثيراً وسمعت كثيراً لكن ليس أكثر من ذلك. أنت ضحية يا روتي. ضحية عملية غسل دماغ رهيبة. لا أريد إهانتك لكن يجب أن أقول لك بصراحة قامة، إنك والأغلبية الساحقة من أبناء شعبك ما زلتم تعيشون في الغيتو. غيتو عصري. غيتو من نوع جديد ابتكرته قيادتكم الصهيونية وحشرتكم فيه.. إنكم تعيشون في حجر غير صحي.. حجر عن الحقيقة، عن الموضوعية التي تكررون اسمها دون أن تمارسوها. لقد قدمت لي إحصائيات باردة معظمها مستمد من النشرات الرسمية وحتى من الصحف التي تقرأينها. تطالبينني بأن أكون موضوعياً؟ إذن فاسمعي مرة أخرى: مساحة وطننا في حدوده الانتدابية حوالي 27 مليون دونم. حتى عام 1948، عام كارثتنا الرهيبة لم تملكوا أنتم سوى قرابة مليوني دونم.. أما اليوم وبعد ممارستكم جميع وسائل سلب الأرض المعروفة والمبتكرة فلم يبق في أيدينا سوى أقل من نصف مليون دونم.. ونحن نواجه سياسة التعذيب القومي والتمزيق الطائفي والعائلي وسياسة التجهيل على كافة المستويات وتفتر مدارسنا إلى أكثر من 5000 غرفة ولا نشكل في الجامعات أكثر من 1.5 بينما تقارب نسبتنا 15% من مجموع السكان ونحن نعاني التمييز في مجالات التطوير والعمل والصحة والرياضة والزراعة وغيرها.. وباختصار نحن بقية شعب منكوب تمارسون ضدها كل ما تستطيعون من عمليات الاقتلاع والسحق والتذويب. كل هذه يا روتي حقائق موضوعية وهي شيء من أشياء.. أعرف أنني أزعزع عالمك.. وأنا أفعل ذلك عن عمد وسبق إصرار لأنني أريد أن أوقظك.. أنت نائمة وأنا أريد أن أوقظك. سحب أمير سيجارة من علبته ودفعها إلى فمه، وفطن فجأة، فاعتذر وعرض علبته على روتي فاعتذرت ساخرة: ـ لا شكراً. أنا لا أدخن.. يكفي أنك تفسد أفكاري فهل تريد أيضاً إفساد أخلاقي! واحتج أمير بلهجة لا تقل سخرية: ـ قد أوافقك على أن الحض على التدخين يجوز اعتباره إفساداً للأخلاق.. أما أفكارك فلا يمكنني أن أفسدها أكثر مما هي عليه.. أستطيع فقط أن أحاول إصلاحها! ـ حسناً. إنك مفرط الحساسية وأنا لم أقصد سوى المداعبة.. أحس أمير برضى داخلي معين حين اكتشف أنها ترغب في مداعبته.. لا يمكن أن تقوم المداعبة إلا على شيء من الاستلطاف.. إذن فهي تستلطفه، ولم لا؟ إنه يستحق ذلك، وهي بدورها تستحق التشجيع.. هي على العموم فتاة لطيفة ولن يخسر شيئاً من مصادقتها، بغض النظر عن الأرباح التي قد يجنيها.. ولم يخرج أمير من هواجسه إلا على ملمس يدها الناعم الدافئة تشد يده برفق: ـ هيا يا أمير، لقد تأخرنا وآن لي أن أعود إلى دروسي، وإلا، فإن أبي سيضع صورتي في ألبومه الرهيب! لم يفهم شيئاً من قولها "أن أبي سيضع صورتي في ألبومه الرهيب".. لقد قالت ذلك بلهجة تدل على الخطورة، وظن هذه العبارة مثلاً يضرب أو تعبيراً للأغنياء لم يتعلمه، ولم تتح له روتي مجالاً للتفكير في هذه العبارة الغامضة فقد سحبته من يده إلى الخارج، وبعد أن قطعا معاً بضع خطوات همست مداعبة: ـ هيا أيها المخرب الجميل، اذهب في سبيلك ودعني أعد وحدي إلى البيت.. لا أتمنى أن يكتشف أبي أمري معك، فإذا حدث ذلك، لا سمح الله، فإنه سيضع صورتي، حتماً، في ألبومه الرهيب.. وداعاً.. أراك غداً.. السابعة مساء..لا تنس.. السابعة مساء.. انطلقت روتي عائدة إلى منزلها.. أما أمير فقد ظل واقفاً مكانه ولم ينطلق باتجاه المطعم إلا بعد أن ردد في نفسه: ـ حكاية "المخرب" هذه أفهمها يا بنت العرص.. ولكن ما حكاية صورتك وألبوم أبيك الرهيب هذا؟ ـ 7 ـ لأكثر من أسبوع ظلت نتائج امتحانات البجروت موضوعاً رئيسياً في أحاديث البلد. ـ علي بن محمد العبد الله ولد فالح من صغره يا عمي قال المثل: "الديك الفصيح من البيضة بيصيح". أما مقصوف الرقبة هالولد، مشاها علينا. عمل فينا مثل ما قال المثل: "الطع صيتك واتخبَّا".. طول الوقت وهو يضحك علينا.. ويطمنا أنو ناجح. خرب بيتنا واحنا نسكب مصاري. وهاي النتيجة طلعت.. كل تعبنا راح خسارة. يلعن هيك جيل. ما تقلش الحق علي. لا يا سيدي مش علي، ما أنا أبوه وعارفه. الحق عليها بنت الستين كلب. بدها تدلله قامت خربت بيته وبيتنا.. تفو... كان علي واثقاً من أن البلد كلها تحكي عن نجاحه الباهر. كان نجاحه باهراً حقاً رغم الظروف القاسية التي عاشها.. بل لعل الظروف القاسية هي التي دفعته لتحقيق هذا النجاح. لم يكن قادراً بعد على تحليل دوافعه ومحركاته الداخلية بيد أنه كان يحس تحدياً رهيباً. لم يتساءل علي إذا كان قد فرض نفسه على هذا التحدي أم أن التحدي هو الذي فرض نفسه عليه. طلاسم كثيرة تعج في دخليته. خلية نحل كبيرة تطن وتطن بلا انقطاع وهو يقرأ ويقرأ والنحل يطن ويقرأ بصوت أعلى ويرتفع الطنين ويرتفع صوته ويرتفع الطنين ويرتفع صوته.. ويحقق نجاحه الباهر.. في مشيته نحو البيت رزانة مفتعلة. تظاهرة لا مبالاة لا يمكن أن يصدقها أحد.. هل يعقل ألا يفرح هذا اليتيم فرحاً عظيماً بإنجازه الذي يحسده عليه زملاؤه؟ ماذا يخفي في ذاته هذا الغلام؟ حين اقترب علي من البيت اتسعت خطاه.. بدت قامته الفارعة النحيلة أقصر مما هي عليه حقاً... ازداد تسارع خطواته ولم يعد يتمالك نفسه.. حين لمح ظهر والدته وهي ترتب بعض الأرائك على الديوان فقد صوابه فراح يصرخ بصوت فظيع: ـ باركي لي يا أمي.. أنا الأول بين الناجحين.. ليت أمير هنا لأغيظه قليلاً.. أمي، إن معدلي أعلى معدل بين جميع الطلاب.. الطب.. سأدرس الطب.. سأصبح طبيباً عظيماً. من الآن فصاعداً اسمي الدكتور علي. لن يناديني أحد بغير هذا الاسم. أتفهمين؟ لن يفحصك أحد غير الدكتور علي! ولن يزيل كل أوجاعك غير الدكتور علي! سأكتشف لك دواء خاصاً إن لم تنفع أدوية العالم! أتفهمين؟ ابنك الصغير حصد أكبر مجموع من العلامات! هيا باركي لي! ذهب علي حين استدارت أمه نحوه وراحت تحدق فيه جامدة كتمثال.. تخطى عتبة الباب ووقف قبالتها.. إنها جامدة.. جامدة كتمثال.. وتفجرت الدموع بغزارة من عينيها المنهكتين.. ولكنها لا تبكي.. لا صوت ولا نأمه.. مجرد دموع غزيرة تنهمر وتتدافع على الخدين المغضنين.. تتعرج الدموع في مسارها تسح على طرف الشفة السفلى.. ترتعش الشفة قليلاً.. تلتقي الدموع عند غمازة الذقن الغائرة.. تمثال يبكي.. ترتعش الشفة السفلى.. ارتعاشة الشفة تنتقل كالعدوى إلى سائر تضاريس الوجه المرهق.. ترتفع اليدان ببطء.. وقبل أن تتحرك أمه يكون علي قد سقط على رأسها بصدره الضامر المرتعد.. ويشهقان وتتصلب الأذرعة.. الوالهة وكأنها تسعى لخلق موازنة ما مع تصلب الحياة المطبقة كالكماشة على بقايا الأسرة المتشبثة بينها، بأحلامها وبحقها في حياة حرة سعيدة. ـ 8 ـ أمير وروتي في محطة الباص الذي سيحملها إلى بيتها. على المقعد الخشبي سيدة عجوز ضئيلة الحجم أسندت سلة مشترياتها إلى ظهر المقعد وراحت تقرأ صحيفة بالأيديش.. هناك مكان على المقعد ولكن أمير وروتي ظلا واقفين بجانب السياج الأخضر المحاذي للرصيف. قال أمير دون أن ينظر إلى روتي: ـ ألا تظنين أن علاقتنا الحذرة تكاد تكون مهينة.. نحن أشبه بمنظمة سرية تمارس نشاطاً محظوراً.. لماذا لا نذهب إلى السينما وإلى البار بصورة طبيعية؟ ردت روتي بضيق واقتضاب: ـ أنت تسأل؟ لا تكابر.. لا تتجاهل الواقع.. وإذا كنت تريد أن تذكرني بجبني فأستطيع أن أذكرك أيضاً بأنك شديد التحفظ من "الصورة الطبيعية" التي تتحدث عنها.. وحاولت روتي أن تقلد صوته وهي تلفظ عبارة "الصورة الطبيعية". أحس أمير بأن الموقف ليس في صالحه تماماً فهو يدرك نقطة ضعفها ولكنه يدرك أيضاً تحفظه من "الصورة الطبيعية".. إن علاقته بروتي لا يمكن أن تكون طبيعية إلا إذا غمسا رأسيهما في الرمل.. أية علاقة طبيعية يمكن أن تنمو في الظرف الراهن؟ شعبها في حالة هجوم مستمر على شعبه، وشعبه في حالة مقاومة مستمرة.. وأحس بشيء من الخجل لأنه لم يكن صريحاً بالقدر الكافي ولم يلزم الحذر في اندفاعه المؤقت.. وسرعان ما استرد توازنه.. نظر إليها بعطف وقال بغنة أليفة: ـ "صحيح يا روتي، صحيح، ولكن نستطيع أن نمثل الدور".. وانحنى بصورة مسرحية وهو يقول مداعباً: "إنني أدعو الآنسة الجميلة إلى مشاهدة فيلم هذا المساء.. ـ أرجو ألا ترفض آنستي طلبي المخلص!". ضحكا ضحكة مقننة.. اقتربت منه قليلاً وردت وهي تصوب نظرها إلى السيدة العجوز المنغمسة في جريدتها: "الآنسة موافقة أيها الفارس الجميل!". * كان الفيلم عن الحرب العالمية الثانية وجرائم النازية.. طيلة العرض كانت يد روتي مرتاحة يبن يدي أمير المطبقتين عليها بحنان ودعة.. وبدأ المشهد: جند نازيون يلهون في إحدى غرف المعسكر يأتي زميل لهم بفتاة يهودية ويدخل معها إلى غرفة مجاورة.. بعد قليل يعود فيسأله أحد زملائه بسخرية: "هل هي عذراء؟" فيرد بسخرية مماثلة: "كانت عذراء!". فجأة، سحبت روتي يدها فصعد الدم ساخناً إلى صدغي أمير. وحين أعادت يدها إلى موقعها كانت يداه أشبه بخشبتين يابستين.. قرر في نفسه بحقد شديد: سارد الإهانة يا بنت الكلب.. سأردها بأسوأ منها! حين كانا يغادران مقعديهما سألت روتي: ما رأيك في الفيلم؟ وهنا سنحت له الفرصة: ـ الفيلم جيد من الناحية الفنية. أما من ناحية الموضوع فهو دعائي تجاري رخيص.. لا أحد ينكر بشاعة النازية وجرائمها، ولكن يجب التأكد دائماً من هوية أولئك الذين يدينون النازية..إن تجاراً سفلة يستغلون هذا الموضوع للتستير على جرائمهم القذرة الشبيهة بجرائم النازية.. هؤلاء لا يحق لهم أن يفتحوا أفواههم الملطخة بالدم.. ثم إن كثيرين من منتجي مثل هذا الفيلم لا يهمهم من الحكاية سوى مقدار الربح الذي يتدفق إلى جيوبهم.. ولا تنسي أن.. وقاطعته روتي بحدة: ـ كفى كفى.. سمعت محاضرتك هذه في السابق ولست غبية بحيث تكررها بين الفينة والأخرى.. وضغط أمير: ـ هل أستطيع أن أفهم لماذا سحبت يدك من بين يدي أثناء مشهد النازي واليهودية؟ ذهلت روتي: ـ هل سحبت يدي؟ هل فعلت ذلك حقاً؟ وماذا يعنيك من الأمر؟ لا أذكر إلا أن يدي كانت مع يديك طيلة الوقت! لم يقتنع أمير ولكنه أراد إنهاء الموضوع، محاولاً تجاوزه، ما دامت هي نفسها تنفي سبب الخلاف: ـ لا بأس انسي القصة.. تعالي نشرب فنجان قهوة.. ـ لا.. لا أستطيع.. لقد تأخرت كثيراً.. أراك غداً.. وحين وصلا المحطة خيل لأمير أنه يرى تلك السيدة العجوز على مقعد المحطة الخشبي وخيل إليه أنها ما زالت منغمسة في جريدة "الأيدش".. ـ 9 ـ حين عادت روتي إلى البيت لم يكن والداها قد عادا من الكونسرت.. دخلت غرفتها.. وضعت على الباتيفون أسطوانة حالمة وراحت تخلع ثيابها استعداداً للنوم.. اقتحمت جسدها رغبة جنسية فوارة، وانتصب في خيالها أمير بكل جماله وقوته.. تمنته، تخيلته جارحة جارحة، أحست به عارياً.. لم تعد تدرك إن كانت يداها هما اللتان تتحسسان جسدها الفتي المشتعل بالرغبة أم أنهما يدا أمير. تنهدت وتلَوّت وشهقت.. دارت بها جدران الغرفة على دورة الأسطوانة الحارقة الحالمة، اختلطت وجوه الممثلين والمغنين الذين علقت صورهم لتزيين الجدران من سنوات، نسيتهم جميعاً وهاهم يعودون من جديد يلتحمون ويندغمون في وجه واحد، وجه أمير الساحر الحزين الغاضب المبلبل والواثق في آن.. تصببت قطرات العرق الصافية من جبينها وتدحرجت على الخدين والشفتين، ثم همد جسدها فجأة واستلقت عارية على سريرها الصغير مغمضة العينين تائهة.. فتحت عينيها ببطء. ابتسمت ساخرة لصور "النجوم" المعلقة على جدران غرفتها، أحست أن هذه الصور لم تعد تناسب نضجها وتجربتها فقامت ببطء وراحت تسلخها عن الحيطان واحدة تلو الأخرى... ارتدت بيجامتها. كانت الأسطوانة قد توقفت عن الدوران ولكن صدى الألحان الساخنة لم يبرح الغرفة الصغيرة.. ابتسمت ساخرة مرة أخرى، تذكرت والديها والكونسرت.. أمها مثقفة حقيقية لذلك من الطبيعي أن تحب الحفلات الموسيقية الكلاسيكية أما والدها فهي تؤمن أنه يمثل دور الإنسان الحضاري.. صحيح أنه ضابط كبير في الجيش ولكنه يتطفل على الموسيقى الكلاسيكية. طيلة أسبوع وهو يتحدث عن "يهودي منوحين" وروتي تدرك في قرارتها أن أباها لا يحب "منوحين" لعظمته الموسيقية بل لأنه يهودي وحسب.. ولكنه يمثل.. هذا الجنرال ذو الألبوم الرهيب يمثل. ونهضت روتي لتتصفح ألبوم والدها.. ليس ألبوماً بكل معنى الكلمة.. إنه إضبارة تضم صور الفدائيين الفلسطينيين الذين تقتلهم فرقته والتفاصيل المتوفرة عن هؤلاء الفدائيين.. لقد ناقشت أباها ذات يوم حول هذه الإضبارة وحين سألته بسخرية إذا كانت هناك صوراً جديدة في ألبومه، ثار ثورة عارمة واتهمها بالشيوعية وانعدام الوعي الأمني والقومي وحذرها من العودة إلى مثل هذه "الدعابة السامة" على حد تعبيره.. راحت روتي تحدق في الصور واحدة تلو الأخرى.. في كل وجه ترى وجه أمير فتجتاحها قشعريرة حادة ولم تتمكن من مواصلة الاستعراض فصفقت الإضبارة ـ الألبوم بعنف، وعادت إلى سريرها.. وحين أغفت كانت هناك على مخدتها بقعة من الدمع. ـ 10 ـ ـ هل تعلم يا أمير أنني لم أزر في حياتي قرية عربية؟ وهل تملك الجرأة الكافية لدعوتي لزيارة قريتكم؟ رد أمير بلهجة منتصرة: ـ بمقدار الجرأة التي تملكينها أنت لدعوتي لزيارة بيتكم! انبخعت روتي ودحرت بلا هوادة فحاولت التملص من المأزق الذي زجت بنفسها فيه: أف منك.. إنك تجعلني أحس بأننا لسنا صديقين بل مجرد ملاكمين على حلبة يتحينان الفرص لإنزال الضربات أحدهما بالآخر! تلذذ أمير بانتصاره وهتف: ـ أنت مدعوة لزيارة قريتنا متى تشائين.. ـ لائحة المحاضرات بعد غد لا تروقني. ـ ولائحة الطعام، في المطعم، بعد غد لا تروقني.. ضحكا بمتعة وعقبت روتي: ـ لو علم والدي لقتلني! انطلق الباص من المحطة المركزية وانطلقت أفكار أمير.. تذكر سفرته مع إبراهيم من القرية إلى تل أبيب والحوار النشط الذي دار بينهما.. التفت إلى روتي وراح يبادلها حديثاً موزعاً يخلو من أي تركيز.. كلاهما يحاول إخفاء تخوفاته من هذه الزيارة.. أحست روتي أنها مقدمة على مغامرة خطيرة ولكن ثقتها بأمير بددت كثيراً من قلقها.. وغص ذهن أمير بتساؤلات شتى: كيف ستستقبلها أمه؟ وكيف سيكون موقف علي؟ وعبد الرحيم؟! ما هو رأي عبد الرحيم يا ترى؟ أيحرجه؟ أيعينه؟ كيف سيفهمون مثل هذه الزيارة؟ كانت يد روتي مرتاحة في يد أمير.. حين وصل الباص نتانيا سحب أمير يده كالملدوغ.. غامت عيناه واختلطت الأشياء.. فجأة رأى والده يهوي من على السقالة الشاهقة.. سمع صرخة رعبه.. وسمع ارتطام جسده بأرجوحة الأولاد المعدنية المنصوبة حديثاً في ساحة العمارة الجديدة.. رأى جسد والده الممزق والدم الحار الذي يسح عن مأسورة الأرجوحة.. ندت عن أمير صرخة مكبوتة فذعرت روتي: ـ أمير ما بك؟ ماذا حدث؟ واستدرك أمير: ـ لا شيء.. لا شيء.. إنه صداع خفيف.. إنني بخير.. لم يجد لياقة في سرد الحادث المفجع على روتي وهي تقوم بزيارته.. ولكنه صمم على أن يروي لها مأساته ذات يوم.. وإذا كان لم يفعل ذلك حتى الآن فلا لسبب إلا لأنه لا يريد أن يخلق لديها الانطباع بأنه يسعى لاستجلاب عطفها، الأمر الذي ترفضه فروسيته.. هدأت روتي حين تأكدت من أنه بخير، وعادا إلى حديثهما غير المركز.. حين أشرفا على القرية قال بتواضع وبتشجيع: ـ ها قد وصلنا.. تلك هي قريتي.. دهشت روتي حين دخلا القرية: ـ ياه إنها جميلة.. حتى الفيلات الحديثة هنا تنسجم مع الجو الشرقي.. يا إلهي كم أحسدك يا أمير! ـ تحسدينني يا عزيزتي؟ لو كنت تعرفين الآلام والهموم التي تعيشها هذه القرية لما حسدتني! صحيح أنها جميلة ولكنها مفعمة بالعذاب.. لا يكفي يا عزيزتي أن تري قريتي حتى تكتشفيها.. يجب أن تعيشي فيها.. أن تخالطي ناسها وتسمعي حكاياتهم.. أن تسمعي سيرتهم الدامية الرهيبة.. وآنذاك تتجلى لك الحقيقة، حقيقة الألم الإنساني الهائل الذي يصقل ويحرق ويضيء.. حقيقة الحزن الباهظ الذي يكابده إنسان استيقظ ذات يوم فإذا هو أقلية مسحوقة في وطنها بعد أن كان شعباً مشحوناً بالحياة يعمل ويبني ويعد للمستقبل العظيم.. ارتبكت روتي.. أحست التواء ما في داخلها.. تملكها شعور يشبه الخجل أو هو الخجل نفسه.. بمقدار ما تتوثق علاقتها بهذا الشاب العربي، تتضعضع ثقتها بالمسلَّمات العديدة التي حشوا رأسها بها من البيت إلى حديقة الأطفال إلى الجامعة.. خامر روتي إحساس بأنها تتطفل على عالم أمير وعلى حياته، وأن تطفلها لا يبدأ عند مشارف قريته بل يبدأ من غرفة نومها ومن قاعة دراستها في تل أبيب.. وصمتت روتي لم تعقب على كلام أمير، وأدركت في قرارة نفسها أنها مهزومة لا محالة.. * ليس الطريق بين محطة الباص وبيت محمد العبد الله طويلاً جداً، ولكن خيل لأمير أن الطريق هذه المرة أطول مما كان عليه دائماً.. تمنى في داخله لو أن إبراهيم معهما، حتى يغير الشنكاش! فقد يميل الناس إلى الاعتقاد بأن هذه الشابة اليهودية هي رفيقة إبراهيم لا رفيقته هو، ذلك لأن إبراهيم معروف في البلد كواحد من أولئك الشبان الصايعين في المدينة والذين يكثرون من مرافقة اليهوديات.. تضايق أمير من هذا الإحساس وجهد لإقناع نفسه بأنه ليس في الأمر ما يدعو إلى الريبة أو الاستغراب، فكل المسألة أنه يستضيف صديقة يهودية معادية للعنصرية وتسعى لتفهم أوضاع شعبه وقضاياه.. وحتى يبعد روتي عن هواجسه فقد ابتسم لها قائلاً بلا مبرر: "إذن، ها قد وصلنا!".. لم تكن روتي في وضع أفضل، فهي الأخرى تتساءل في أعماقها: ماذا يقول عني هؤلاء الناس؟ هل يتصورونني ابنة ضالة من بنات الشعب اليهودي؟ يحترمونني يا ترى أم يحتقرونني؟ يقبلونني أم يرفضونني؟ يحبونني أم يكرهونني؟ وهي بدورها لم تشأ أن يقترب أمير من هواجسها فراحت تضحك بعصبية وتهتف: "رائع! رائع"! كانت القرية قد ألفت وجود بعض اليهود في شوارعها، ولكن التفتوا إلى الوراء ليتأكدوا مما رأوا وليحققوا في الأمر فيما بعد.. وسواهم ابتسموا بشيء من السخرية دون تعليق.. أما الحاج أبو سليم فلم يتمالك نفسه وراح يتمتم وهو يفرك مسبحته بعصبية: ـ معلوم! إلا كيف؟ عبد الله كان أميراً وضحكت عليه يهودية.. أيش حال ولد طايش فاسق شاف هذه الشوفة؟! أكيد أنّ هذه السائبة حطت عينها على شقفة أرض في هذا البلد!.. اخص! * ـ هيه يمه!.. يا علي! لم يرد أحد على نداء أمير.. وحين اقترب أكثر من باب المنزل كرر النداء: وقبل أن يسمع جواباً نقر الباب نقراً قوياً فانطلق صوت أمه بشيء من الذعر: ـ مين؟ ..بسم الله.. مين؟ ـ هذا أنا يمه.. أمير ..ومعي ضيفة.. ترغلت العجوز المرهقة المشتاقة وهي تنشف يديها وتهرع لفتح الباب: ـ يا ميت هلا بك وبضيوفك.. أهلاً.. أهلاً.. الحمد لله على السلامة.. حضنت ابنها وقبلته بحرارة ثم انكفأت على روتي تحضنها وتقبلها كأنما تواصل تقبيل ولدها نفسه.. ـ أهلاً وسهلاً يا حبيبتي! ـ يمه.. الأخت روتي فتاة يهودية مليحة.. طالبة جامعية من تل أبيب أحبت أن تزور قرية عربية وتتعرف عليها.. ـ أهلاً وسهلاً يمه.. بيتنا مفتوح لكل الأوادم.. ليش لأ؟ أصابع ايديك مش مثل بعضهم.. الدنيا ملانه ملاح وعاطلين.. غير شكل ما يعمر الكون.. هاي مشيئة ربنا سبحانه وتعالى.. أهلاً وسهلاً.. تمتمت روتي ببعض الكلمات محاولة رد التحية فشجعها أمير ضاحكاً وهو يقودها إلى الديوان وأمه تتفحصها وتردد بما يشبه القناعة: ـ أهلاً وسهلاً.. ميت مرحبا.. أصابع الإيد مش مثل بعضها.. ليش لأ.. أهلاً وسهلاً.. ثم هرعت إلى المطبخ لتعد الطعام.. حين حضر علي فوجئ تماماً.. وسلم على الضيفة بتأدب قسري وخاطب أخاه وكأنه يحتج على هذه الزيارة: ـ هل علمت يا أمير أن أولاد الخاينات اعتدوا علينا وعلى فريقنا ونحن في ضيافتهم.. حين زارونا ليلعبوا مع فريقنا رحبنا بهم أجمل ترحيب لنفهمهم معنى الأخلاق العربية، ومع ذلك اعتدوا علينا في ملعبهم وشتموا شعبنا أمام الشرطة الحريصة جداً على الأمن وسلامة الجمهور.. ولكن المهم أننا هذه المرة تغلبنا عليهم 2 ـ 0 هه ما هي أخبارك؟ ـ ضيفتي تعرف هذه الأمور.. لقد حدثتها بكل شيء، وهي هنا من أجل التعرف على حياتنا ومشاكلنا.. ـ أهي من "الشؤون الاجتماعية"؟ ـ كفى يا علي.. ما هكذا يستقبل الضيوف.. قبل قليل تحدثت عن الأخلاق العربية فماذا أصابك الآن؟.. على كل حال ما هي أخبارك أنت؟ ماذا عن الجامعة؟ ـ الجامعة؟! أية جامعة؟! ثلاث جامعات رفضتني حتى الآن.. هؤلاء الفاشست يريدوننا حطابين وسقاة ماء.. ولكن فشروا.. إذا هم أغلقوا أبوابهم في وجهي فللعالم أبواب أخرى.. سأتعلم.. وسأتعلم مهنة حرة لا تتيح لهؤلاء الخنازير أن يستعبدوني.. ـ علي! ما هكذا تورد الإبل! ـ حمداً لله أنك رغم تل أبيب ما زلت تتذكر شيئاً من البلاغة العربية!. ـ علي! ألا ترى أنك تبالغ في كلامك؟. أنك تتطاول على أخيك، وبدون حق.. أنا ما زلت أخاك الذي تعرفه.. لم يغرني شيء يا علي! واحتجت روتي: ـ ما هذا يا جماعة؟ أرجوكم.. تكلموا بالعبرية، أريد أن أفهمكم. ورد علي بسخرية قاسية: ـ في تل أبيب نتكلم العبرية بطلاقة، فلماذا لا تتكلمين العربية في بلدنا، ولو ببطء؟ أرادت روتي أن تكون عاقلة فتملصت بهدوء: ـ أنا لست وزير المعارف، ولو كنته لفرضت اللغة العبرية على اليهود ابتداء من حديقة الأطفال.. وعلى كل حال فأنا ضيفتكم لا مندوبة السلطة في قريتكم.. تراجع علي بعض الشيء: ـ أنتم السلطة والسلطة أنتم! حتى اليهودي الذي يتجسس لدولة عربية وتعتقلونه وتحاكمونه وتحبسونه يظل سلطة بالنسبة للعربي الذي يتجسس لإسرائيل!. وعلى كل حال فأنت ضيفتنا الآن.. أهلاً بك.. وأرجو أن تفهميني.. نحن نعيش في جحيم حقيقي.. لا أريد إزعاجك أو إزعاج أخي أمير، ولكن الحياة تصبح عبئاً حين يصبح الإنسان غريباً.. مضهداً في وطنه.. إننا نعاني التمييز البشع في كل تفاصيل الحياة.. حتى في الجريمة يميزون ضدنا.. ألم تقرأي صحف الأمس: "ثلاثة شبان من بيتح تكفا يغتصبون معلمة من أور يهودا.. ثم بعد هذا الخبر بقليل خبر آخر مماثل.. ولكن: "شاب عربي يغتصب فتاة يهودية!".. ألا تستخلصين نتيجة ما من مقارنة الخبرين!". قبل أن تجيب روتي دوى صوت عبد الرحيم بالباب: ـ أين أنت يا رفيق أمير؟ وصلتني أخبارك فقلت أزورك وأبيعك الجريدة. هب أمير واقفاً ليستقبل عبد الرحيم بالأحضان: ـ أهلاً. أهلاً حبيب الشعب.. والله اشتقنا.. ـ يا هلا بربك. الحمد لله على السلامة يا رفيق.. والله إني تصرصعت عليك لما قرأت الخبر.. ـ أي خبر؟ آه. الظاهر أنك لم تقرأه.. تجده في جريدتنا. العدد الماضي. ثلاثة شبان عرب احترقوا في أحد مطاعم تل أبيب لأن صاحب المطعم أقفل عليهم الباب من الخارج ليناموا في المحل.. وحدث تماس كهربائي فشب حريق أكل المطعم والذين فيه.. سطور قليلة يا أمير، ولكنها تلخص مأساتنا الطويلة.. وانتبه عبد الرحيم للضيفة فتحول عن أمير ليخاطبها بمودة وبلغة عبرية لم يطمح في يوم من الأيام لتحسينها: ـ سلاماً يا رفيقة! إنك لا تبدين صاحبة مطعم في تل أبيب، وإلا لكان لنا معك شأن آخر.. لم تفهم روتي. وقهقه أمير وابتسم علي وتوجه عبد الرحيم إلى علي بجدية ومحبة: ـ علي.. لا تنس اليوم، السابعة مساء، الاجتماع في النادي. ـ سأحاول أن أحضر. ـ لا تحاول.. احضر.. ـ أضاف عبد الرحيم مداعباً: ـ إلا إذا كنت يا علي تريد أن تبيع الجمل لتشتري مهراً لسميرة توفيق! ولم تفهم روتي. وقهقه الشبان الثلاثة.. وقبل أن ينصرف عبد الرحيم قال لروتي: ـ أنت أيضاً لا تنسي الاجتماع الساعة السابعة في النادي.. أحضري أميري معك.. وضحك الثلاثة.. ولم تفهم روتي.. وودعهم عبد الرحيم بعد أن وعد بالعودة لتناول الغداء وانطلق ليوزع الجرائد وهو يتمتم معقباً على ذهول روتي: ـ من يدري؟. ربما ذات يوم.. ربما تكتشف هي الأخرى الطريق إلى نادينا.. هل ستجد طريقاً آخر حين تنسد كل الطرق المعتمة في وجهها؟! * لم تخف روتي إعجابها الشديد بالمائدة التي أعدتها ربة المنزل: ـ ياه ما أروع هذا الطعام.. إن مائدة كهذه تكلف في تل أبيب مبلغاً ضخماً من المال! فعقب علي بسخرية دون أن تنم ملامح وجهه عن سخريته: ـ إنها هنا أيضاً تكلف غالياً.. الفرق الوحيد هو أننا لا نتقاضى ولا ندفع مقابل الخدمة! رمقة أمير بنظرة جانبية خاطفة وواصل الأكل بصمت.. أما عبد الرحيم فقد أخذ زمام المبادرة ليوجه الحديث في الاتجاه الذي يهمه: ـ الحمد لله يا رفيقة روتي أنك لست من ضريبة الدخل، وإلا لأصابتنا معك ما أصابنا مع موظفي الضريبة! وضعت روتي ملعقتها في الصحن وسألت باهتمام: ـ وماذا حدث لكم مع موظفي الضريبة؟ تململ عبد الرحيم قليلاً، استعرض الوجوه ليتأكد من أن الجميع يصغون إليه وروى الحكاية: ـ قبل حين زار موظفو الضريبة أحد سكان قريتنا ليفحصوا وضعه المالي وليضعوا تقريراً يردون به على رسالة منه يطلب فيها إعفاءه من الضريبة لأنه يعيل أسرة كبيرة بدخل محدود جداً.. كعادتنا، نحن العرب، نسي صاحبنا أنهم موظفون، منذ اللحظة التي دخلوا فيها بيته المتواضع.. أصبحوا بالنسبة له ضيوفاً بكل معنى الكلمة فراح يهرع هنا وهناك، إلى البقال، وإلى اللحام وإلى الخضري ليعد لضيوفه وجبة محترمة تبيض الوجه رغم أنها تزيد طينة ديونه بلة.. وبعد أن أكل الضيوف وشربوا وتخموا وبشموا، همهم رئيسهم وهو يسوك أسنانه متلذذاً بطراً: ـ حسناً يا صاحب البيت.. الآن في حضرة هذه الوجبة الفاخرة، يتأكد لنا أن طلبك بإعفائك من الضريبة ليس في محله.. إنك تكذب على الدولة، فلو كنت فقيراً حقاً لما استطعت أن تعد مثل هذه المائدة الفخمة! مادت الأرض بصاحبنا، وسقطت من يده صينية القهوة فتحطم ما عليها واندلقت القهوة المهيلة على المصطبة.. عدل عقاله على رأسه.. تأمل حطام فناجينه قليلاً ثم نظر إليهم بهدوء وقال: معكم حق يا خواجات.. معكم حق.. فقد نسيت أنني أتعامل مع ناس يعتبرون كرم الضيافة كذباً والصدق حمقاً والأخلاق سفاهاً والإنسانية خداعاً.. معكم حق يا خواجات، فقوموا وانقلعوا من هالبيت.. لن تشربوا قهوتي لأنها لا تليق إلا بكرام الناس.. وأما الضريبة فلن أدفعها لأن طلبي أصبح بعد هذه الوجبة أكثر عدالة.. لقد اقتطعت لكم هذه الوجبة من خبز أولادي وصبر البياعين وأخلاقي الموروثة، فزادت حالتي سوءاً على سوء.. ولم يدفع صاحبنا، لكنهم حجزوا على أثاث بيته.. لم تصدق روتي، فتساءلت وكأنها تدافع عن نفسها بهجوم مضاد: أليست هذه إحدى حكايات ألف ليلة وليلة؟ ورد عبد الرحيم ضاغطاً بالاتجاه الذي قرره منذ البداية: ـ أنت أيضاً معك حق، مثل الحق الذي كان مع موظفي الضريبة.. معك حق يا عزيزتي فهذه الحكاية تصلح لألف ليلة وليلة.. ومن قال لك أن تجربتنا كلها في هذه البلاد لا تليق بأقاصيص ألف ليلة وليلة؟! وتدخل أمير: ـ يا روتي، يجب أن تتخلصي مرة وإلى الأبد من عقدة "الخيال الشرقي".. ألا تذكرين حوارنا ا لطويل في هذه المسألة؟ أرادت روتي أن تحرف الحديث عن مجراه فتذمرت: ـ إذن أنا معقدة يا أمير؟ وتدارك أمير بسرعة: ـ أبداً.. لم أقصد ذلك، ولكن حكاية "الخيال الشرقي" هذه لا تليق بك بعد كل ما سمعته ورأيته.. وتراجعت روتي: ـ حسناً.. ماذا أقول لكم؟.. يبدو أن كل شيء جائز، ولكنني لا أتحمل المسؤولية.. لست مسؤولة عن هذه الأشياء أنا لا أدير دفة الحكم في البلاد! تصدت ربة المنزل بطيبة أصيلة وبلهجة الأمومة التي تجمع روحها وعقلها وقلبها: ـ كفى يا أولاد.. كفى بربرة.. كلوا قبل أن يبرد الطعام.. هز عبد الرحيم رأسه وقال بلهجة تشبه الحزن: ـ وحدك يا خالتي على حق! أنت وحدك على حق دائماً وأبداً! * واصلوا تناول الطعام، لكن بحماس أقل.. ساد الجو ضيق معين.. اعتقدت روتي أنها سبب الركود المستجد لأن موقفها يتسم بشيء من المعارضة والتحفظ، لذلك قررت على الفور أن تعدل الميزان بحيث يشعر مضيفوها بأنها ليست غريبة عنهم أو أنها، على الأقل، ليست معادية أو مناقضة لهم.. وبعد أن أعادت كأس ا لعصير إلى المائدة، عدلت جلستها بعض الشيء وابتسمت بجرأة وقالت: ـ أتعلمون؟ أن المرارة من السلطة ومن أوضاع الغلاء والرشوة والفساد لا تقتصر عليكم.. في تل أبيب أيضاً تجدون أناساً يروون النكات اللاذعة عن موجة الفضائح والفساد والرشوة التي يشهدها المجتمع.. إحدى هذه النكات مثلاً، تقول إن سكان إسرائيل يقسمون إلى ثلاثة أقسام.. القسم الأول هم خريجو السجون، والقسم الثاني هم المسجونون الآن، والقسم الثالث هم الذين سيسجنون قريباً! ضحك عبد الرحيم ضحكة العارف، وضحك علي ضحكة المتشفي.. أما أمير فقد ضحك مشجعاً، آملاً بأن تصبح صديقته أكثر قبولاً عند جماعته.. * بعد الغداء قام أمير وروتي وعبد الرحيم بجولة في البلد.. واعتذر علي عن مرافقتهم لأنه على موعد مع أصدقائه.. أما "ست الحبايب" فقد ظلت مع الفوضى والصحون المتسخة محاولة إعادة الوضع إلى حالته الطبيعية السليمة.. ولما فرغوا من مشاهدة المسجد نظرت روتي إلى ساعة يدها الفضية الصغيرة وألحت على أمير: ـ أمير.. يا أمير.. يجب أن أعود إلى تل أبيب لقد تأخرت ولن يروق الأمر والدي.. تفهم أمير طلب روتي فانكفأ على عبد الرحيم مودعاً معتذراً مؤملاً في لقاء قادم قريب.. وسلم عبد الرحيم على روتي وهو يطلق قذيفته الأخيرة: ـ سعدت بلقائك يا روتي، وآمل أن تكوني استفدت من زيارتك واستمتعت بها.. ثم إنني أرجو ألا يتهموك في تل أبيب بالخيانة العظمى لأنك زرت قرية عربية! وردت روتي بحماس: ـ لا تخف علي.. وإن كنت لم أجد الدفاع عن الحكومة فلا تظن أنني لا أجيد الدفاع عن نفسي! طول الطريق من القرية إلى المحطة المركزية في تل أبيب وروتي تتكلم عن انطباعاتها، عما تؤيده وعما تعارضه، عن أم أمير التي تشبه الأيديشي ماما(4)، عن عبد الرحيم اللاذع المتوقد الذهن، وعن علي المفعم بالمرارة وتعابيره الحادة والذي شغل ذهنها أكثر من سواه لأنه شاب في أول الطريق ويواجه العقبات والحواجز والأسلاك الشائكة في أول الطريق أيضاً! كان أمير يصغي كمعلم يسمع الدرس من تلميذة يحبها، يفرح بإجاباتها الصحيحة ويغض الطرف عن أخطائها الصغيرة ويتمنى ألا تقع في أخطاء كبيرة.. حين وصلوا نتانيا هم أمير بأن يروي لها مأساة والده، لكنه عدل عن نيته لأنه أراد أن يشجعها في سعيها نحو الحقيقة، نحو الموقف الصحيح، نحو الرؤية الواضحة، دون أن يبدو وكأنه يستثير مشاعر العطف والشفقة لديها.. لقد رفض دائماً أن يتعامل معها من موقع الضعف، لأنه آمن بقوته، وليقينه بأن صداقة القوي والضعيف لا يمكن إلا أن تسممها عقدة الشعور بالنقص من جهة والتعالي من جهة أخرى.. ومنذ البدء خلق بينه وبينها توازناً ملحوظاً، وكان يذكر نفسه دائماً بضرورة خلق تكافؤ بين قوته المعنوية كصاحب حق وقوتها المادية التي يفرضها انتماؤها إلى الشعب المتمتع بالسلطة.. ولم يشك أبداً في عدالة موقفه، الأمر الذي جعلها تبدو في حالة تقهقر مستمر.. وجعله يبدو أكثر قوة يوماً بعد يوم.. بيد أن أمير المثقف المرهف الحس والواثق من عدالة قضيته لم يسمح لمشاعره بالسقوط في شرك المعادلة المسطحة التي يشكل هو وروتي طرفيها.. لقد ذهب بأفكاره ومشاعره إلى أبعد من امتحان القوة بين شخصين.. كان يتساءل أحياناً: هل يعني اقتراب روتي من وجهة نظري أنني انتصر عليها هي، أم يعني ذلك أنني أنتصر على والدها الضابط العسكري الكبير؟ هل يعقل أن نصبح أنا وروتي في خندق واحد يواجه خندق والدها العنصري؟ أليس من الأفضل لي أن يمر خط الجبهة بيننا جميعاً من جهة وبينهم من الجهة الأخرى؟ كثيراً ما تخبط أمير في مثل هذه التساؤلات، لكنه استقر أخيراً على وجهة نظر منحته السلام العقلي والروحي: أن قضيتنا مركبة ومعركتنا متعددة الجبهات والعناصر، فهناك البعد القومي والبعد الطبقي والبعد الحضاري والبعد الإنساني الشامل والبعد الفردي الشخصي، ولابد لي أن أنتصر في كل موقع من هذه المواقع، وانتصاري على روتي هو انتصار لها أيضاً، وستكون النتيجة أننا ننتصر معاً على مسدس والدها.. هذا المسدس يشكل خطراً جدياً ليس علي أنا فقط، بل على روتي أيضاً، وإذا فهمت روتي هذه الحقيقة فسيصبح انتصاري على مسدس والدها أكثر تيسراً وأقرب منالاً.. ـ شكراً يا أمير على هذه الرحلة الممتعة.. أراك غداً! ـ لقد أديت قسطاً من مهمتي يا روتي.. إلى اللقاء! ـ 11 ـ أزاحت والدة روتي ستارة النافذة فاندلع النور الصباحي الدافئ وملأ غرفة الطعام.. نادت بصوت وديع: ـ الفطور جاهز، تعالوا قبل أن يبرد الشاي.. أقبل زوجها من الحمام متثائباً في بيجامته.. فتح يديه على اتساعهما وهتف بمتعة واضحة: ـ ياه.. ما أجمل أن يتناول المرء فطوره في البيت.. يكاد يهلكني طعام المعسكرات.. وأقبلت روتي في شورت رياضي وقميص تريكو ليلكي: وانضمت إلى المائدة بصمت.. بعد أن صبت لها أمها الشاي سألتها بحذر: ـ اسمحي لي يا ابنتي أن أسألك سؤالاً صغيراً.. أرجو ألا تظني أنني أتدخل في شؤونك الخاصة، ولكن يهمني أن أتتبع أخبارك.. إنك ابنتي وتعلمين كم أحبك.. ماذا حدث يا روتي؟ منذ مدة ما عدت تخرجين مع يورم، فهل تخاصمتما؟ لقد كان يبدو لي شاباً لطيفاً! لم تفاجأ روتي فقد توقعت أن يسألوها هذا السؤال ذات يوم، فأجابت بهدوء وهي تقطع بسكينها خيارة صغيرة: ـ هو شاب لطيف حقاً، ولم نتخاصم، لكننا قررنا أن نفترق.. لقد قرر بناء مستقبله في الجيش ويكفينا في هذه الأسرة ضابط واحد.. انتفض والدها بذعر وسرعان ما تصدى لها: ـ ابنتنا تدرس الأدب لذا فهي تبحث لنفسها عن شاعر أو كاتب ينسجم مع خيالاتها الجامحة ووجدانها المشبوب.. ثم أصبح أكثر تصلباً وقسوة: ـ وماذا إذا هو بنى مستقبله في الجيش؟ ذلك شرف كبير له.. دولتنا بحاجة إلى الشبان المتعلمين الذين ينخرطون في سلك الجندية.. الدولة هي الجيش والجيش هو الدولة.. لولا الجيش لما كنت هنا الآن تتناولين فطورك بأمن وطمأنينة.. لولا الجيش لكنت الآن سبية في حريم الأمراء العرب! وتمادى بلهجة لئيمة: ـ حسناً لا تتزوجي الضابط يورم.. ابحثي لك عن شاعر بوهيمي تتسكعين معه في مقاهي ديزنغوف.. والأفضل أن يكون "شفارتسي خايي(5) من هؤلاء السفاراديم الذين لا يجيدون القتال ولا يحسنون سوى التكاثر كالأرانب وانتظار الصدقات من وزارة الشؤون الاجتماعية! انظري إليهم، انظري إلى شبانهم الذين يتسيبون في الشوارع، يعاكسون الفتيات ويرتكبون الجرائم! لا يعجبك يورم! الضابط الاشكنازي يورم لا يعجب ابنتنا طالبة الآداب.. هيء هيء.. إلى أين وصلنا؟! صعقت روتي.. فغرت فاها وسقطت الشوكة من يدها في الصحن مصدرة رنيناً مبلبلاً متهدجاً. نقلت بصرها بسرعة خاطفة بين والدها الذي يواصل المضغ وأمها الجامدة الذاهلة.. هبت روتي واقفة، ودون أن تنطق بشيء هرعت إلى غرفتها.. اختطفت من رف الكتب الصغير كتيباً لم تبحث عنه طويلاً، وعادت إلى والديها.. فتحت الكتاب، وبسرعة بحثت عن صفحة معينة.. بسطت كفها اليسرى تحت دفتي الغلاف، ثبتت الصفحات بأصابع يدها اليمنى وقرأت بهدوء رهيب: "يتربص الولد اليهودي ذو الشعر الأسود بالفتاة البريئة طيلة ساعات، وعلى وجهه مسحة من الفرح الشيطاني. إنه يدنسها بدمه، ويسلبها بذلك من شعبها.. إنه ـ وبصورة معدة سلفاً ـ يفسد النساء والفتيات.." وما أن فرغت روتي من قراءة هذه الفقرة حتى صرخت بحالة هستيرية: "أدولف هتلر ـ ماين كاميف". صفقت الكتاب بعنف.. قذفت به على المائدة.. زعقت بأعلى صوتها ممسكة رأسها بكلتا يديها واندفعت راكضة إلى غرفتها.. ـ 12ـ التفاحة الفتية في حاكورة البيت مثقلة بالثمار الفجة.. "علي" يبحث بعينيه عبر النافذة عن ثمرة واحدة ناضجة فلا يعثر عليها. تدهمه خيبة أمل طفيفة. يتجاوزها ويعود للتفكير في وضعه الحرج.. ما العمل يا ولد؟ هه؟ ما العمل؟.. بجروت(6) كاملة، علامات ممتازة، صحة جيدة، رغبة جامحة وطريق مسدود!! كل الجامعات التي توجهت إليها رفضتك.. هناك مجال للعمل، تستطيع أن تعمل 12 ساعة في مطعم.. تستطيع أن تشتغل مساعد بناء، وقد تجد لك مكاناً في كراج أو منجرة، لكن هل تنتهي هنا حدود مطامحك؟ لماذا لا تصبح طبيباً مادمت مؤهلاً للأمر؟ لماذا لا تصبح طياراً أو مهندساً إلكترونياً؟ أليس لديك العقل الكافي لدراسة الحسابات؟ بلى وألف بلى.. إنك لتعرف نفسك حق المعرفة، وتلك هي المصيبة.. لو كنت غبياً لاسترحت.. هذه البلاد جنة الأغبياء.. بل هي جنة حقيقية، نعيم حقيقي تشقى فيه بعقلك.. تذكر "علي" حصة الأدب العربي وأبا العلاء.. لسبب ما لا يدركه، لم يحب أبا العلاء بسخريته المتشائمة، بل أحب أبا الطيب بعنفوانه وطموحه.. وأنه ليحب المتنبي اليوم أكثر مما أحبه في أيام الدراسة.. لماذا؟ لأنه يدرك اليوم معنى الطموح المحبوس في قفص أسود، معنى أن تريد الكثير ولا تنال القليل، وهل أقل من أن تتاح له الفرصة المشروعة لمواصلة دراسة وترسيخ قواعد مستقبله؟ قبل يومين، وبعد الاجتماع السياسي الذي حضره في نادي الحزب حياه عبد الرحيم تحية خاصة، ربت على كتفه بحنان أخوي وقال بصوت يشبه الهمس: أنا أعرف مشكلتك يا علي.. يؤلمني وضعك ووضع مئات الشبان العرب أمثالك.. أنت تعرف يا أخي أن الحزب يكرس لقضية الجامعي اهتماماً ملحوظاً.. كل سنة نرسل إلى الدول الاشتراكية عشرات من الطلاب.. إنها مساعدة أخوية لا تقدر بثمن وهي رمز مادي ومعنوي لتضامن الشعوب الاشتراكية مع شعبنا، غير أن هذا لا يحل المشكلة كلها...! الحل كامن هنا في بلادنا.. التعليم حق لنا، وحكومة التجهيل العنصرية تحجب عنا هذا الحق، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن أن ننال الحقوق بسهولة.. لابد لنا من نضال متواصل وعنيد لإجبار الطغاة الحاقدين على فتح الأبواب.. فلنقرع بشدة، لنقرع بعنف وستفتح الأبواب، وستنخلع إذا هي لم تفتح لأننا أصحاب حق ولسنا شحاذي صدقة.. كم أتمنى أن أساعدك يا أخي يا علي! لاحظ علي أن عبد الرحيم لم يستعمل هذه المرة نداء "يا رفيق" المحبب الدافئ، لكنه استعمل نداء "يا أخي" الذي يحمل غنة عائلية حميمة.. مسَّ النداء أعماق قلبه وأحسَّ للحظة بأنه موشك على البكاء لكنه تمالك نفسه، أخذ يد عبد الرحيم برفق ومحبة وقال بصوت متلجلج: لا ينكر أحد دور الحزب في هذه القضية، وأنا واثق من أنك تحب أن تساعدني بكل ما تستطيع، لكنني لا أرى من حقي أن آخذ دور أحد من الأخوة الرفاق الشبان الذين تضررت أسرهم اقتصادياً بسبب شيوعيتها والذين تحملوا هم أنفسهم أعباء النضال اليومي المبرمج، من توزيع المنشورات إلى تنظيم الاجتماعات والمظاهرات وسائر النشاطات الكفاحية. هناك كثيرون قبلي في الدور، ولا فكرة لدي الآن عما يمكن أن أقدم عليه.. في طريق عودته إلى البيت أحس علي بضيق معين لأنه لم يصارح عبد الرحيم بكل ما يدور في رأسه.. فالحقيقة أنّ لديه فكرة عما ينبغي أن يقدم عليه.. منذ أيام والفكرة تنخر عقله وأعصابه.. لم لا يهرب إلى بلد عربي يواصل فيه دراسته ويؤمن مستقبله؟ لم لا يرحل سراً إلى سوريا مثلاً، حيث لا تعتبر عروبته سبة ووجوده عبئاً؟ كان هناك شيء آخر في نفس "علي" يجهر به حيناً ويكتمه أحياناً.. كان في قلبه شيء يشبه الحقد أو هو الحقد نفسه، على الأنظمة العربية ذات الأصوات المرتفعة، صاحبة البيارق والطبول، الطبول، أجل الطبول التي تقرع وتقرع وتقرع فتضيع في جلبتها حشرجات روحه المثقلة بهم لا يوصف.. ورغم صغر سنه فقد علمته التجارب أن همومه هي جزء لا يتجزأ من هموم شعبه، وأن حل مشاكله الذاتية مرهون بحل مشاكل شعبه ووطنه.. آخ.. أخ.. كم من الجرائم ترتكب باسمك أيها الشعب! وكم من الخيانات تغمد في ظهرك يا وطن!.. غير أن "علي" تعلم شيئاً هاماً من "عبد الرحيم".. لم يدرك من قبل معنى عبارة "التفاؤل الثوري" التي يكثر عبد الرحيم من استعمالها في الأزمات.. لكنه يعيها اليوم، يعي هذه العبارة في حدود إمكانياته وتجاربه الفتية.. وحين نعت أحد أصدقائه هذه العبارة بأنها "مخدر علني" يوزعه عبد الرحيم بلا حساب، زجره علي ووبخه وأحرجه أمام شلة الأصدقاء: إن السلطة الغاشمة أيضاً تحارب "التفاؤل الثوري"، ولو كان "مخدراً" كما تقول لتغاضت عنه ولفرحت بتعاطينا إياه، لكنها تدرك أنه سلاح حاد تتقطع على شفرته مشاريعها الجهنمية، مشاريع إشاعة اليأس والقنوط والعدمية القومية.. أما اليوم فإن نفس علي وذهنه لا يتصرفان بهذا المنطق.. أنه يضعف تحت رحى القمع العنصري.. تتضعضع خطاه.. تغيم رؤيته.. وفي حالة شلل تام يمسح البيت بنظرات مبللة بالدمع يتحسس قطع الأثاث المتواضعة والجدران والصور.. يستعرض الحاكورة وبيوت القرية وأشجارها ومئذنة مسجدها وكأنه يحاول امتصاصها واستيعابها في غور روحه.. يتوقف عند بروفيل أمه المنكبة على قميص تعمل على تثبيت أزراره وتمتين عراه.. يكاد ينفجر بكاء في حضرة الوجه الإلهي الذي طالما منحه الثقة والحب والحنان.. يضغط أسنانه حتى تكاد تتحطم ينسل خارجاً من البيت دون أن يرفع عينيه عن هيكل والدته المرهق الرحيم.. تهتز ساقاه قليلاً، يتماسك، يكاد ينهار، يتماسك يبتعد قليلاً عن البيت، يفلت من أغلال قلبه وروحه.. يستدير بعنف ويركض.. يركض.. يركض دون أن ينظر إلى الوراء.. يركض إلى أقرب محطة وقد عقد العزم.. سيرحل، سيلجأ إلى سوريا، سيدرس الطب، وسيلتقي بأهله طبيباً، كيف سيلتقي بهم؟ لا يهم.. إنه موقن بحتمية اللقاء.. كل المشردين سيعودون، وهو سيعود أيضاً، سيعود منتصراً.. ـ 13ـ لم يجد عبد الرحيم صعوبة في العثور على المطعم الذي يعمل فيه أمير وإبراهيم.. كان شاحباً مرهقاً وفي ضيق شديد من المهمة التي أخذها على عاتقه.. لابد لشخص ما من مصارحة أمير بما حدث.. إنها مهمة شاقة، لكن لابد من تأديتها، وهو، عبد الرحيم، رجل الأزمات، فلا باس عليه، تردد قليلاً قبل ولوج المطعم.. لا مجال للتردد.. لا وقت للمماطلة.. فليقدم، ليؤد واجبه بجلد وحكمة. فوجئ أمير بزيارة عبد الرحيم ففتح ذراعيه على وسعهما وهتف بفرح ظاهر: يا هلا.. أهلا أهلا بالرفيق عبد الرحيم! بوغت برد الفعل الفاتر.. أرعبه تلعثم عبد الرحيم وشحوبه وابتسامته الميتة.. توجس شراً، خطرت بباله أمه فتساءل مذعوراً: أمي؟! هل أصابها شيء؟ قل يا عبد الرحيم.. تكلم! حاول عبد الرحيم أن يقول.. حاول أن يتكلم.. خذلته قدرته على الكلام.. تفجرت دموعه بصمت.. ودفع "أمير" برفق داخل المطبخ.. فوجئ إبراهيم وجمدت يده على مقبض السكين.. مسح عبد الرحيم دموعه بظاهر كفه.. فقد السيطرة على أعصابه فانفجر باكياً بصوت مسموع وهو يضم "أمير" إلى صدره.. غمر وجهه في عنق أمير كأنه خجل مما سيقول.. بكلمات متقطعة متشنجة أدى مهمته الباهظة: ـ لا يا "أمير".. ليست أمك، بل هو علي! حبيبنا، زهرة الشباب "علي".. قتلوه على الحدود السورية.. أولاد الحرام.. قتلوه! اهتز جسد عبد الرحيم ببكاء مكتوم وهو يغمر وجهه المتعب بكفيه المعروقتين.. ذهول كاسح، امتلك الشبان الثلاثة المصعوقين بما يتجاوز حزن الموت.. كالمنومين مغناطيسياً غادروا المطعم، ومن حولهم تتناثر احتجاجات الزبائن على تأخر طلباتهم.. في سكون هائل، ملأوا مقاعدهم في الباص.. تحرك الباص وهم جامدون.. غادروا تل أبيب.. استعاد عبد الرحيم شيئاً من توازنه وراح يروي كيف جاء رجال الشرطة العسكرية والشرطة المدنية ليخبروا رئيس المجلس المحلي بالحادث: "بينما كانت إحدى دورياتنا تقوم بواجبها على الحدود السورية لمحت شبحاً يتحرك باتجاه أراضي العدو.. أمرته بالتوقف ولم يتوقف، هددته بإطلاق النار ولم يتوقف، أطلقت النار في الجو ولم يتوقف، فاضطرت إلى تصويب النار مباشرة إليه.. وبعد تفتيش الجثة عثر رجالنا على أوراق ثبوتية تؤكد أن القتيل هو علي بن محمد العبد الله من قريتكم.. الجثة موجودة في مستشفى أبو كبير للطب الشرعي، وعليكم التحقق من هوية القتيل قبل اتخاذ الإجراءات القانونية.. ولابد لجهاز الأمن من التحقيق مع أهل القتيل وأصدقائه للكشف عن دوافع دخوله أراضي العدو.. المسألة على غاية من الخطورة ولابد من إجراء التحقيق اللازم فأمن الدولة ليس لعبة.. نحن آسفون".. كانت جنازة "علي" عرس كفاح وعيد مقاومة.. كانت مهرجاناً شعبياً حافلاً بالزغاريد والزهور والدموع.. ألله أكبر على من طغى وتجبر! الله أكبر! الله أكبر!.. بلادي بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي.. لا تشريد ولا تهويد، عن أراضينا ما منحيد! حتى أسوأ عملاء السلطة لم يجرؤوا على الإعراب عن استنكارهم لهتافات الصمود والتحدي والمقاومة.. لم تتمكن "ست الحبايب" من الوقوف على ساقيها الواهنتين.. قالت: أزحف وراء "جاهتك" يا زينة العرسان يا علي؟.. منعوها فرضيت بال [/align] |
رد: سميح القاسم - الصورة الأخيرة في الألبوم ((رواية )) اختيار وتقديم: د.حسن حميد
الرواية رائعة ..
ولكن لم لا تظهر كاملة ؟؟ لكم شكري |
الساعة الآن 02 : 04 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية