منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   مختارات من الأدب العربي و العالمي (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=72)
-   -   في مديح .. دون كيشوت ـــ د.حسن حميد (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=16242)

د.حسن حميد 15 / 07 / 2010 07 : 09 PM

في مديح .. دون كيشوت ـــ د.حسن حميد
 
تروي فرجينا وولف في مذكراتها، أنها قررت خوض عوالم السرانية في عمر مبكر نسبياً، وذلك عندما شرعت بالكتابة، مع أن الكتابة، كما قيل لها، عالم علني، مكشوف، مدرك، منتهك الأسرار؛ لا سرانية فيه ولا محجوبات. لكنها رأت بعينها النفوذ أن الكتابة طقس سراني، وهي خلق، وكل خلق سراني بالفطرة؛ طقس أشبه بالضباب، واللاماهية، أشبه باللارؤيا، أشبه بالحفر في حائط من الهواء، ودخول في حجرات من الأنفاس؛ وعلى الكاتب أن يدرك حقيقةً أنه يحفر في حائط حقيقي أيضاً، وأنه يجول في حجرات لها ممراتها، وشبابيكها، وأبوابها، ونباتاتها؛ فالكتابة تحليق في المكان، امتطاء لأحصنة المخيلة جميعها، وفي آن واحد، إنها وقف للزمن السائل بين يدي الحواس، ومكاثرة لمشاغبات الموهبة، إنها اشتعال أفران الذاكرة... لتصير موقدة أبدية نارها الحروف، ولهبها الأسطر، ودفؤها المعاني..‏
فرجينا وولف، أخذت إليها، عبر الكتابة، نصفها الآخر الذي يعلل انكشاف الذات، أي معاني المخاطبة، وجوهر التأمل، ورحلة الشرود، وخصوبة العزلة، ودهشة الحياة.. وذلك حين وعت أن الإنسان نصفان، نصف مكشوف يمشي على حواسه، ونصف آخر سراني يمشي على خياله. وهي بذلك شديدة النسب إلى سرفانتس صاحب دون كيشوت الذي سبقها بقرون، حين جعل من العادي والمكشوف خيالاً أبدياً بعد أن شواه في موقدة الموهبّة.‏
أقول هذا.. لأنني شغوف بالأسرار التي تجعل من بعض الكتب أوابد للجمال، ومن بعض الكتّاب مدارس للسلوك، والتعلم، والتبصر، والاقتداء، تلك الكتب هي التي نعود إليها، وقد أُفلتت من يد الزمان، لنرى أنفسنا ونعيها، ولنرى حراك أمرين أساسيين في حياتنا هما: الزمان والمكان، وما يربط بينهما من منتجات الموهبة. وأولئك الكتّاب هم الدروب التي نمشيها لكي تصير المواهب كتباً لا تطالها يد البلى، ولكي يصير الخيال معلّماً لا نديد له.‏
تلك الأسرار التي أنحني لها، (وقد أنجبت كتباً جليلة، هي نفائس الأمم، وكتّاباً عباقرة ـ لا بحيواتهم الاجتماعية ـ في عشقهم للإبداع.. أعطوا ذوب أرواحهم إلى القليل الذي يبقى من الكتب.. وذهبوا، تلك الأسرار هي التي جعلتني أدرك لماذا يحتفي العالم اليوم بمرور أربعة قرون طويلة مُرة وحلوة على كتابة [دون كيشوت] لسيدها سرفانتس. فالعالم ككائن حين يستريح من مرارة أفعاله في الحروب والكوارث، وتفريخ المادية البشعة وتناسلها، يهدأ ليتأمل ما صنعت يداه.. فيوجد فكرة يكتبها بسطر ذهبي واحد يكفي البشرية مؤونة ما سيأتي من أيام. [دون كيشوت] هي سطر ذهبي ممتلئ بالتأمل، والفلسفة، والأسرار. لا شيء في هذا السطر الذهبي سوى التأمل، والفلسفة، والأسرار.. مع أن النص من مبتداه إلى منتهاه يكاد يكون واقعاً مخلخلاً مشوشاً شبيهاً بالهوس أو التهويمات.. لكن العين التي تتجلى حساسيتها بالانعكاسات الخصبة.. تبدي لنا، وبضربة واحدة، أن هذا الكتاب هو انجدال فكرة واحدة ممتدة على سطر ذهبي طويل، أنيق، مضاء، هذه الفكرة تتمثل في مماشاة الواقع للحلم والحلم للواقع عبر شخصيتين مذهلتين في جهادهما لنصرة الواقع مرةً، ونصرة الحلم مرة أخرى يتناقضان على الدوام ولكن لا بدَّ من الملازمة والمعايشة. إذ لا همّ لـ دون كيشوت سوى أن يقنع العالم، عنيت الناس وأفكارهم، ومجتمعاتهم، وجولانهم، وأشواقهم، بأن لا شيء جدير بالاحتفاء والمطاردة سوى الحلم. أي ليس على الإنسان لكي يهنأ، ويصفو.. غير أن يرى الكائنات والمرئيات معاً وهي على هيئة حلمه، أي ما حلم به، بذلك فقط تصير الأكواخ الواطئة قصوراً في نظر النفوس الكبار، كما تصير المرأة، أي امرأة، أميرة في المعنى والصورة معاً، ويصير حراس السجناء الذين يرافقونهم في الدروب (لنقلهم من سجن إلى آخر) شروراً نابتة لا بدّ من اجتثاثها.‏
كذلك، ترينا (دون كشتوت) أن لا هم لـ سانشو سوى أن يمجد الواقع كي لا يصير الناس طيوراً محلقة في الفضاء، وكي لا تصير الغدران مواقع في السماء، وكي لا تصير النساء شجراً يمشي لا تلحق به الخطا أو الدروب.‏
فكرة واحدة مجدولة من الواقع والحلم معاً جسدتها [دون كيشوت] لتقول إن الحياة لا تدرك إلا بهاتين الدرتين: الواقع والحلم.‏
إذن، ما حفظ (دون كيشوت) في إناء الزمن.. هو فذاذة فكرتها، فالكتب تحيا بأفكارها النبيلة لا بأحداثها.. ومجرياتها.. تماماً مثلما يحيا الأبناء بحنان الأمهات.. لا بالمشرب والمأكل!!‏
وهذا هو عينه ما حفظ (ألف ليلة وليلة) درة إبداعنا.. في إناء الزمن على الرغم من إهمالها، وعزلها، وسجنها، ومصادرتها.. طوال أزمنة ظلومة، علتها الأولى: العقوق.‏

نصيرة تختوخ 26 / 08 / 2012 36 : 12 PM

رد: في مديح .. دون كيشوت ـــ د.حسن حميد
 
استمتعت بما قدمت هنا د.حسن حميد وقد فتحت لنا نوافذ جديدة لتأمل عالم الخيال وتداخله مع الواقع وأخذتنا إلى رحلات ومشاهد الدون كيشوت الذي خلد صاحبه وصار جزء ا من تراث الإنسانية الخالد.
تحياتي و تقديري


الساعة الآن 13 : 11 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية