![]() |
الصيف و اللبن
الصيف واللبن [align=justify] " الصيف ضيعت اللبن"... مثل ما فتئ يردده منذ سمعه من أخيه المدرس في يوم اشتد قيظه ولفح لهيبه الوجوه . وشهر يوليوز، أو تموز كما يحلو لأخيه تسميته، يحمل بين ثناياه الخمول والملل واليأس في انتظار انقضاء الأيام الواحد والثلاثين ليغادر- مؤقتا- مكتبه الذي علا غباره و تكدست ملفاته عبر الرفوف المهترئة. الصيف في أوجه . رتيب يزحف بهجير يكاد يخنق الأنفاس . لكنه هذه المرة يختلف عن سابقه... أعلام منكسة وحفلات ملغاة أو مؤجلة ، ودكاكين ومحلات موصدة . ينظر إلى الطريق المقفرة فيخيل إليه أن أشباحا تغدو وتروح . ويتطلع إلى السماء ممتعا نظره بزرقتها... لون البحر... لكم تمنى لو ارتمى في خضمه ليحمله إلى غير رجعة... " ما أسعد حظك يا أخي . بإمكانك الآن نسيان - ولو إلى حين - همومك وتعبك بعيدا عن الأوراق والأقلام ومشاق المهنة التي ينكرها عليك من لم يقتحم متاهاتها." إنه يعترف بأن شعوره يتجاوز في بعض الأحيان الغبطة ، لكن فقط أثناء العطل... و يعيش معاناة أخيه منذ رمت أيدي العبث بهذا الأخير إلى قمم لا تنتمي في شيء إلى هذا العصر. بل إنه لا يزال يحس بوطأة المأساة التي عصفت به يوم توقفت عقارب الزمن عن الدوران في شهر أبريل – أو نيسان – وضاع اللبن ، ومعه الحليب والزبدة ،لأنه طالب ، فعلا ، باللبن والحليب والزبدة . وربما بالغ في طلباته ، فزاد عليه اللحم بكل أصنافه...الذي يِؤكل و الذي لا يؤكل . فتاه أياما يتجرع آلام الجور ونظرات الشماتة من المتبرعين ، على مضض . ولو لم يشاركه معاناته ويعش مأساته ويلمس بنفسه شغفه بالصغاركما بالكبار، واهتمامه بمأكلهم و مشربهم وملبسهم قبل اعتنائه بما تستوعبه رؤوسهم التي دوختها البرامج والمقررات ، وبما تنوء به ظهورهم المحدودبة وعظامهم الطرية... لولا ذلك، لأدلى بدلوه مع المرجفين ،ولاستكثر العطل وسال لعابه لمنظر الأفخاذ العارية والنهود المنتصبة وهي تنكشف رويدا رويدا في الأقسام والساحات مع حلول الصيف، مطلقا العنان لشتى النعوت و الظنون. وليس هذا فحسب ، بل ولاشتد امتعاضه لدى كل احتجاج على هزالة الراتب الشهري وانكماشه أمام غول الغلاء النهم . مثل ابنة عمه البدينة . لا يدري لم تمثلت له فجأة ؟... هيه ، كانت المسكينة توده دون أن تخفي تعلقها به كما ينبغي لفتاة تحوم حول من تحبه لتجعله يلهث وراءها . كانت أياما رائعة رغم ما شابها من ضجر. هناك بين أحضان جبال الريف، تختلط في ذاكرته أشياء وأشياء... مغامرات ، شقاوة ، سطوة القائد ، تزلف الشيخ ، خبث المقدم ، خنوع الأهالي ، صراعات من أجل الماء ، دعاوي لا تنتهي بسبب الترامي على أراضي مجزأة ... شهر يونيو. دماء الجرحى ، ذكرى الحرب ، اليهود ، فلسطين . شهر يوليوز... الصخيرات ، أوفقير ، اعبابو ، الانتظار، القلق. لكن القرية تبقى منكمشة تعيش رتابته. قمار في المقاهي والكهوف، وسبسي يزكم الأنوف بكيفه ، وجنود أضناهم الملل وأجج الشوق رغباتهم. هذا الصيف يلقي بثقله و بشهواته على النفوس . حتى الغلمان في لهوهم يرتوون هناك و يروون الكبار مشبعين غرائزهم بين جذوع الأشجار وأطلال البنايات و بين الوديان الموحشة ... أما هنا ، فيرى الأمور تنحو منحى حضاريا . هنا الحفلات رغم تأجيلها ، و مواعيد صالونات الحلاقة ، و متعة الصونات المنعشة . الدنيا تسير من حسن إلى أحسن . والحمد لله الذي يسر لنا سبل الاتصال وحطم الحدود لكي ننعم في عالم صار قرية . ألسنا شعويا و قبائل محكوما علينا بالتعارف ؟ إذن فما عليك إلا أن تخصص زاوية عند خصرك وتنبه الآخرين للمناداة عليك ، حتى يصادف ذلك وجودك في محفل ، لتكون فرصة عمرك لمناجاة محدثك والعيون ترمقك . ولم لا تأخذ قسطك من حيز الشاشة فتفرغ مكبوتاتك وتنعم بما تشتهيه الأعين وتهوى إليه النفس من خلوات حميمية ؟ الصيف هذه المرة أفقه عريض ولبنه وفير وسرابه أقرب للواقع . فلينفض الغبار عن أخشاب ورفوف مكتبه ، وليفتح نوافذه على مصراعيها ، وليضف ابتسامة، ولو آلية على شفتيه... ولكن ، مهلا ... فربما سبق الأحداث وأخطأ الفهم . وعليه ألا يرتكب هفوات أخرى كالتي وقع فيها حين نبه إحداهن إلى ضرورة احترام الصف لاستلام الراتب من الشباك البريدي . لماذا لا يريد نسيان الصفعة والبصق على وجهه ونصائح الآخرين بالتزام الهدوء وضبط الأعصاب ، لأن الزمن- كما قال أحد الناصحين في امتعاض- زمنهن... لماذا يجب أن يكون هناك صراع بين هذا وتلك ؟. فليترك النافذة شبه مغلقة ، والباب موربا حتى تنجلي الأمور وينقشع الضباب، وتتأصل الثفة في النفوس ، ثم ينطلق حينئذ مع المنطلقين، ويأمل مع الآملين، ويحلم مع الحالمين، وينزع عن ذهنه هذا التمني بأن يكون معاقا، فيحاط بالعناية وينظر بدوره شزرا وازدراء إلى الأسوياء كما نظر إليه أحدهم وهو يكز خصره بعكازته بعنف ليخلي له مكانه بالحافلة ، لأن الزمن- كما همس السائق محذرا- زمنهم . لكل زمنه ... فمتى يأتي زمنه هو ؟ وهل تستجاب دعوة جارته يوم كان صغيرا:"الله يبيض زمانك." يرقب النادل وهو يمرق عبر الممر المؤدي إلى مكتب المسؤول الكبير. يحمل إليه لبنا طازجا وباردا، وهو الذي حرم على الجميع تناول كافة الأكلات، الخفيفة منها والدسمة ، في مكاتبهم حفاظا على حرمة المؤسسة واحتراما للمواطنين . فمن حق المواطن استقباله بالجدية في العمل ، بالإضافة إلى الابتسامة واللطف في الحديث . فهذا زمن الحقوق... وفجأة وجد نفسه يقهقه . تجمهر زملاؤه قرب الباب . منهم من يتطاول بعنقه مستطلعا الأمر، ومنهم من يهز رأسه أسفا ، وآخر يمط بوزه ممتعضا. لماذا ينغصون عليه وحدته ويقطعون أفكاره ؟ أين توقفت ياترى ؟...آه...عند حكاية اللص وهو راقد بالمستشفى، بينما خصمه صاحب الدار المسروقة يطعمه "يوكورت" ملتمسا رضاه بعد أن أدين بالاعتداء عليه لحظة كبوته من أعلى الشرفة ، ليقوده إلى مخفر الشرطة في فجر أحد أيام يونيو، حزيران إكراما لأخيه . يقهقه من جديد متذكرا آخر ملتمس، بل أمر لطريح الفراش الذي استلذ القعود بالمستشفى... إتمام خطاب كتبه لرفيقته التي كلفت محاميا للدفاع عن حقوق خطيبها :" الحمد لله الذي جعل القلم ينوب عن اللسان، وبعد... خطيبتي العزيزة ، آخذ قلمي بين يدي المرتعشتين لأخط لك سطورا..." وكما كان الشأن في الأكل ، فقد لبى "المعتدي" طلب الجريح السارق بمنتهى اللطف، وذيل خطابه بحاشية همس له بها وهو يسترق النظر إلى الباب :" طمئنها أنني لن أستسلم لإغراء ولا واحدة من هؤلاء الممرضات ، وسأقيم دعوى أخرى أتهم فيها إحداهن بالتحرش." عندما انفض الجمع، استلقى على ظهره ومد رجليه على المكتب كاتما قهقهة أخرى: - حقا... هذا زمن غريب... غريب يازمن . رحمك الله يا فائزة أحمد... إنه والله زمن الغرائب والعجائب." [/align] |
رد: الصيف و اللبن
أخي الكريم / رشيد الميموني
قرأت العمل سريعا لأنه أعجبني وسوف أعود إليه مجددا فهل تسمح لي بذلك .. مودتي وتقديري |
رد: الصيف و اللبن
اقتباس:
مرحبا بك في كل وقت .. فهذا يسعدني و يشرفني .. لك مني كل المحبة و التقدير . |
رد: الصيف و اللبن
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
جميل أخي رشيد وأنت تنطلق من مثل شائع لتصنع عالما مدهشا من خلال هذه الفلذة الرائعة " الصيف واللبن" ..وما لدلالتي الكلمتين كل واحدة معزولة عن الأخرى فمابالك بالدلالة بعد جمع الكلمتين ..الإحاءات شيقة تصنع الحدث المدهش في هذا النص ..والتخييل خصب خصب .. والتصوير بارع ..حيث تنتقل عدستك الرائعة اليقظة وهي تلتقط المشاهد لتركب في آخر المطاف مشهدية جامعة تعكس الواقع لا محالة ..إنه الهروب المستتر بالكلمات لفضح الواقع لتعريته للقارئ المتأمل الحصيف ..هذا النص أيها الفاضل لا يتطلب منا مرورا كريما دون أن نسبر غوره العميق ونستشف الحقيقة المرتشفة من معين ثناياه ..هذا النص مفتوح على التأويل المتعدد .. مفتوح على الدهشة والإنشداه ..توظيفك للمشهدية المنتقلة من حالة إلى أخرى وهي تقرب الأحداث البعيدة والشخصيات المختلفة المتنافرة لتجمعها في آخر المطاف في لوحة فسيفسائية رائعة لا يتقنها إلا مبدعنا المغربي " رشيد الميموني " ..أخي الفاضل لا أجاملك ولا أمدحك فنصك أهل ليكون كونيا بكل المقاييس الإبداعية ..جميل أن أهدتنا روحك المشرقة نصا ينفتح على التناقض الجامح ليجمع في النهاية مشهدية وجودية للإنسان هكذا يكون الإبداع أيها الفاضل تهاني لك سعيد جدا بنصك الإنسان وهو ينحت الإنسان دمت ودام بوحك المبدع تحياتي |
رد: الصيف و اللبن
اقتباس:
أخي الحبيب عادل .. أمام هذا الفيض الزاخر من الكلمات أجد نفسي شبه عاجز عن التعبير لك عما يخالجني هذه اللحظة من مشاعر السعادة و الامتنان لشخصك ولروحك الطيبة .. أحاول ما أمكنني إدراج ما أراه مناسبا ، وربما تكون بعض قصصي مكررة لكون ملف القصص كان قد حذف من قبل وها أنذا اعيد نشر كل القصص .. أتمنى أن أبقى عند حسن ظنك و أن تحظى كل كتاباتي يإعجابك .. سأنتظر دوما مرورك و بصمتك هنا .. كن دوما بالجوار أخي الغالي .. فتواجدك هنا شرف لي . محبتي . [/align] |
رد: الصيف و اللبن
رشيد
أنا بخاف أمر على قصصك على عجل مع أنه لما أمر عليها بتوءدة أيضا لا أصل لشيء .. هههههههههه .. أنا تهت يا رشيد بين السطور لا أعلم إن فهمت جيدا أن البطل بفصتك هو سارق اللبن والصيف وثمار الصيف جميعها على كل حال بانتظار أن تشرح لي رشيد كالعادة لأنني دائما أقع بنفس المطب إلى حينها أثني جدا على أسلوبك الجميل ولغتك الرصينة المكينة العميقة وأتمنى لك مزيدا من النجاح لكن مع بعض التبسيط يا رشيد ودمت بألف خير أخي العزيز :nic11:وهذه طائرة أرسلها لك لتتعجل الشرح .. شكرا رشيد |
رد: الصيف و اللبن
[align=justify]
أولا ، دعيني ميساء أهنئ نفسي بمرورك و قراءتك سواء منها المتعجلة أو المتأنية . ثانيا إن ما يسعدني هو أن تكون قراءة كل واحد لنصي مختلفة وربما لا يرى ما أراه أنا ولا ما أقصده ..وهذا اعتبره نجاحا لقصتي المتواضعة . لكن يكفيني أن هذا القارئ استشف أشياء ربما لم تخطر لي أنا على بال .. وربما كان لدلالة القصة و مغزاها اللذين يخصعان للتأثيرات التي أحاطت بكتابة هذه القصة اثر في تنوع القراءات .. كل من زاويته .. ولو قررت بالفعل أن أضع أمامك كل شيء شرحا و تفسيرا ، لتطلب الأمر صفحات ، لأن كل حدث و كل إيحاء ، حتى الجزئيات منه ، مرتبط بشيء ما ، اجتماعيا أو تاريخيا أو جغرافيا .. وحتى عاطفيا .. سعيد بما أملاه علي مرورك هنا من أفكار .. شكرا لك ميساء من أعماق القلب . محبتي . [/align] |
رد: الصيف و اللبن
رشيد
جميل جدا أن يحتفظ الكاتب أو القاص أو الروائي حتى بالمغزى الحقيقي للقصة في داخله ولكن الأجمل أن يترك لنا شيئا ً .. الكرم مطلوب يا رشيد وأنت تتركنا بين حانا ومانة يجب أن تفصح بعض الشيء وتأكد أننا مهما بلغنا من الذكاء لن نصل أعماقك جميل جدا أن نجد أنفسنا أو حتى همومنا وأوجاعنا بين السطور ..لذلك أنا لا أحبذ القصص المبهمة والتي تحتمل ألف تاويل .. أحب القصة التي تطرح همي المعقد والذي أعجز عن فهمه فتبسطه هي لي وتشير إليه فأراه بوضوح كبير وأشعر أن هناك في هذا العالم الكبير من يحمل نفس الهم ونفس الوجع ههههههههههههه .. أوجعت لك راسك يا رشيد .. هذا من اللبن والصيف .. كن بخير يا أمير |
رد: الصيف و اللبن
على العكس يا ميساء .. لم توجعي رأسي و إنما أسعدتني بإعطائك هذا الاهتمام لقصتي التي نالت حظا اوفر من تعليقك ..
تحياتي لك و مودتي . |
رد: الصيف و اللبن
المثل.. التاريخ.. الجغرافية.. التربية الوطنية... اللبن والحليب والزبدة بالقرية.. وأكيد أن أماكن في النص وإن لم يذكر اسمها تحديدا إلا أنها كانت في خيالك محددة..
أستاذ رشيد أرى هذه القصة تختلف تأويلاتها وتطرح تساؤلات وتساؤلات.. لذلك قد أعود إليها لاحقا إن شاء الله ولو لإعادة قراءتها.. |
الساعة الآن 20 : 07 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية