منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=65)
-   -   رحلة العمر5 ،6،7 (الاخيرة) (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=16708)

زياد صيدم 18 / 08 / 2010 10 : 07 PM

رحلة العمر5 ،6،7 (الاخيرة)
 
ح5
في صباح اليوم الثالث حسب التوقيت القمري.. حضر مرافقه حسب الميعاد، ليصطحبه في رحلة على أطراف المملكة.. صعد معه مركبته الغريبة وانطلقا...هبطا في سهل قريب من غابة تبدو كثيفة الأشجار..تعثرت قدماه في نتوء يخرج من السطح ..نظر بغيظ إلى موضع قدميه فقد آلمته الوكزة.. صعقته المفاجأة ! إنها أحجار كريمة من الياقوت والزمرد..وهذه رمال من الذهب تختلط بحبيبات لها بريق الماس..التقط حفنة بكف يده .. جحظت عيناه .. خاطب مرافقه: انه ماس يختلط برمال من الذهب الخالص..رمقه مرافقه بنظرة غريبة وأومأ له مصدقا كلامه.. الآن أيقن بأن نبوءته في إيجاد الكنوز قد تحققت ! وتأكد بأنه في عالم لا ينتهي من الخرافية و الأعاجيب.. فيه كنوز لا عدد لها ولا حصر..أليس هذا ما جاء من اجله؟ خاطب نفسه قبل أن يسمع مرافقه يقول له: سنبدأ من هنا سيرنا على الأقدام، لترى عن قرب عالم النبات والحيوان في ممالكنا ..
هو: هز رأسه موافقا.. كان متشوقا لمزيد من المعرفة، متلهفا لاستكشاف ما تخفيه هذه المملكات الخرافية .. توغلا في الغابة.. ظهرت أشجارها بوضوح تام.. كانت جذورها ملتفة، تخرج من باطن الأرض باتجاه الأوراق.. فهذه مجدولة وتلك متشابكة، تحمل أوراقا مفلطحة، عريضة، شديدة الاخضرار.. كانت الأرض مكسوة بنباتات وأزهار، تفوح منها روائح زكية.. تتلوى خلالها جداول مياه عذبة، باردة،رقراقة، لم يذق مثلها على سطح الأرض..ينظر من حوله، فيجد أشجار فواكه تشابه التي يعرفها، لكنها مختلفة الأحجام والألوان والمذاق.. يجمعان بعض منها .. ينتبه إلى وجود طيور كثيرة، تصدر زقزقات جميلة.. كانت بلون وحيد لكل مجموعة! لا تشترك بألوان متعددة، وهذا موضع اختلافها ..كان يوجه كلامه إلى مرافقه.. فيبتسم له، ويهز رأسه غير موافق؟.. يجيبه : انظر جيدا واستمع عن قرب.. ليكتشف فعلا بأنها تتحدث فيما بينها بلغة الرهط ! فتبادل معها الحديث ..وهنا عادت مشاهد استهجانه.. ووقف مذهولا مما يرى ويسمع.
استمرا في المسير حتى وصلا إلى بحيرة تحفها الورود من كل نوع ولون.. تساءل :هل لها اسم معين كما يحدث على سطح الأرض؟ أجابه: انظر هناك.. ماذا ترى ؟ يا الاهى.. إنهن نساء عاريات، يسبحن في البحيرة..أجابه : هن العذارى من الرهط.. يحضرن إلى هنا يوميا، فهذه بحيرة العذارى.. يغادران المكان وقد تلبسه الخجل.. يصعدا المركبة ليطوفا بعيدا في أجواء خارج نطاق المملكة.. يقتربان من السطح ليرى عجبا !
هو: يسأل صاحبه عن هذه المخلوقات طويلة القامة التي يراها.. يجيبه: أنهم رهط المردة والعمالقة ..شديدي البأس في طباعهم وتصرفاتهم..لن نعرج إليهم حتى لا يثيرون مشاكل نحن في غنى عنها الآن.. ثم يمرون برهط من الأقزام.. فينبهر لسرعة تحركاتهم بلمح البصر.. وعراكهم فيما بينهم.. فيخبره: إنهم الأشد خطرا.. وحذره بان لا يخالطهم، كونهم يتمتعون بغلظة في القلب، وقلة في الفهم للآخرين، بل ويكرهون الغرباء عن رهطهم، وأنهم خطرون للغاية، فالشرر يخرج من عيونهم دوما، لهذا تراها حمراء كالجمر.. لهم قدرات خارقة في التنقل والتحرك، فلا تلحظها بعينك الآدمية...
يستمران في التحليق بسرعة مناسبة، ليتمكن من مشاهدة بحيرة أخرى ، كانت تبدو اكبر حجما من بحيرة العذارى..تحفها النباتات والأشجار، يرى تحركات لقطعان من حيوانات مذهلة قادمة ..
هو: يطالبه بالهبوط بجانب البحيرة، ليكتشف بأنها مياه عذبة باردة.. أحس برغبة تدفعه إلى السباحة فيها ، لكنه تراجع عن فكرته، عندما رأى قدوم بعض الحيوانات الغريبة.. كانت تشابه الخيول والجمال والثيران، لكنها تختلف في التكوين والشكل والأصوات.. حيث سمع همهمتها كأنها تتحدث فيما بينها! ..كان قطيعا جاء بغرض الشرب.. وما أن رأته حتى تعالت أصواتها بالضحك !!
صاحبه: لا تستهجن ! إنها حيوانات ضاحكة! مثل ساكني سطح الأرض.. صمت ولم يعقب على ما قاله.. كان طوال الرحلة يسجل مذكراته، مبهورا بما يرى من عجائب وغرائب باطن الأرض.على نهاية اليوم القمري.. اكتفى بما شاهده فطالبه بالعودة إلى بيته، فكان ما أراد...
تمر الأيام والشهور.. يقضيها مع زوجته التي كانت تحدثه عن طباع سكان هذه المملكة، وعاداتهم، ثم تدريجيا بدأت في تعليمه بعضا من أسرار المعرفة، التي لا يحلم بشر أن يعرفها ويتعلمها.. من حيث مزاولة بعض القدرات الخارقة، كنمط حياة له في فترة وجوده.. يستمر الحال هكذا.. حتى أصبح قادرا على فعل ما لا يفعله بشر على سطح الأرض !.
مرت ثلاثة أعوام على وجوده في المملكة.. أتقن خلالها كثيرا من الأشياء، وعرف أسرار كثيرة ..كانت حياته حافلة بكل جديد وغريب على مدار الوقت.. لكن أمرا كان يزعج زعيم الرهط ويقلقه؟ حتى فاض به الأمر، ولم يعد يحتمل الصبر، فطلبه للقاء عاجل؟...
هي: استيقظت هذا الصباح على غير عادتها.. كان قلبها مقبوضا.. أحست بضيق يعترى جسدها خوفا على زوجها..أسرعت نحو أولادها تطمأن عليهم.. الكل بخير، حمدت ربها، عرجت إلى مكتب زوجها، راجعت التقويم الخاص، الذي تحسب من خلاله الشهور والسنين من اليوم الأول لغيابه، تنهدت.. كانت تحس بان الأمل قوى بعودته.. فاليوم يصادف مرور أربعة أعوام على غياب زوجها..وثلاثة أعوام من لحظة وصول رسالته الوحيدة إليها، والتي اخبرها بوجوب بقائه خمسة أعوام حيث يكون ..وهكذا استطاعت بنباهتها أن تعلم بان رحلته استغرقت عاما كاملا، وهو يشق طبقات الأرض حتى وصل إلى مكانه.. لم تُعلم أحدا بالأمر.. واحتفظت بسر الرسالة في قلبها، وبقيت تنتظر عودته بصمت،وانقضاء السنوات الثلاث المتبقية، حسب تقويمها وفهمها! بفارغ الصبر ...
مرافقه: حضر ليصطحبه إلى زعيم الرهط حسب الميعاد.. ألم تتبين أمر هذه الدعوة الغريبة المفاجئة تساءل موجها حديث إلى مرافقه.. أبدا لا علم لي بالأمر أجابه..وصلا قصر الزعيم.. فدخل هو مسرعا حيث يعلم الطريق جيدا.. فكثير من المرات حضر إلى جلساته، ليستمع إلى مجلسه فيتعلم، ويستفيد من أمور كثيرة في الحكم والإدارة، وحل الأزمات، وديمقراطية القرار، وشفافية النقاش وما شابه..كما انه أصبح كفرد من الرهط، قد أوصى عليه الزعيم بنفسه بقرار عمم قبل سنوات.. فتحوا له الأبواب.. مر سريعا إلى غرفة الزعيم حيث يكون..مثُل أمام يديه صاغيا مطيعا ينتظر حديثه، هي عادات يتبعونها تجاه الزعيم الأوحد، احتراما لمكانته وقدسية أوامره وأقواله الحكيمة...
كانت تبدو عليه علامات القلق .. والحيرة؟ طالبه بالجلوس فجلس صاغيا ..
زعيم الرهط: يا ضيفنا العزيز، قررنا مع زوجك أن تزورا الطبيب المختص لدينا.. فحتى اللحظة لا بوادر للحمل وإنجاب أطفال؟ وهذا يقلقنا للغاية.. حيث لم يتبق لك هنا غير سنتين؟ وتكون حريتك كما هو عهدنا معك..
هو: تفاجأ فعلا بالطلب.. لكنه تنبه إلى حقيقة لم يفكر بها سابقا؟ ..وهو يعلم بمدى أهميتها القصوى للزعيم .. فوافق فورا على الذهاب لعيادة الطبيب المختص برفقة زوجته.
خرجا من عيادة الطبيب بعد أن أتم الفحوصات اللازمة، واخذ العينات الضرورية للفحص ..على أن تكون النتيجة غدا عند زعيم الرهط .. أفادهما الطبيب حسب الأوامر الصريحة له من الزعيم.
في اليوم التالي جاء مرافقه على عجالة من أمره.. يبلغه بان الزعيم يريد لقائه مع زوجته فورا وعاجلا.. فامتثلا للأمر.. وذهبا في الحال ..
- يتبع -
****
ح6 (قبل الأخيرة)
وصلا القصر الذي يقيم فيه زعيم الرهط بناء على استدعائه العاجل.. جلسا صامتين بعد تحيته، وانتظرا ما سيفصح لهما من أمره...
الزعيم: شاءت أقدارنا في المملكة أن ننتظر زمنا آخر قادما، أملا في تحسين نسلنا، والصفات الوراثية لأجيالنا القادمة ..لقد طلبتكما على عجالة لأطلعكما على نتيجة الفحص في عدم توافق الجينات بينكما.. وان كانت زوجتك من أصول آدمية .. حيث أفاد طبيبنا المختص باستحالة حدوث الحمل، بناء على هذا التقرير الذي بين يدي الآن .. مبديا أسفه وحزنه الشديدين.. لكنه كان كمن يؤمن بالأقدار، فبدا متزنا هادئا في حديثه لهما..وخيم الحزن على مستشاريه المتواجدين من حوله ..
هو: صمت وعبس وجهه، وألجمته المفاجأة.. بكت زوجته الحورية ..فشد على يدها، ربت على ظهرها، ورمقها بنظرات عطف وحنان، قبل أن يستأذنا بالخروج .. اتبع الزعيم حديثة قائلا: قبل أن أذن لكما.. سأكرر على مسامعك، بأنك ضيفنا معززا، مكرما، حتى تنفذ فترة سنواتك المتبقية في ضيافتنا، بعدها لك الاختيار ..وما أن انتهى من آخر كلماته، حتى أشار لهما بإمكانية المغادرة .
بمضي فترة السنتين المتبقيتين على وجوده بينهما..كان قد تعلم أشياء كثيرة .. لم تقتصر على اكتسابه لقدرات خارقة فحسب! وإنما استطاع أن يعرف عن قرب، كثير من أصول الحُكم، والمعاملة، وقوانين التكافل والتآخي السائدة بين أفراد الرهط أنفسهم من ناحية، وبين القيادة والرعية من ناحية أخرى.. كما تعلم أسس ومبادئ متعددة.. لو علم سكان سطح الأرض بها لعاشوا في أحسن حال.. هكذا كتب في إحدى ملاحظاته، ضمن مذكراته الحافلة، التي أيقن بأنها كنز حقيقي ؟ لم يخطر على باله أبدا، أن تكون ضمن كنوز باطن الأرض، التي حلم بها قبل بداية رحلته.
هو: يجيء ويغدو إلى حوريته في آخر أيامه في المملكة، حزينا مكفهر الوجه.. التفت إليها، ضمها بعطف وحنان، لم يتمالك نفسه، فأجهش بالبكاء قبل أن يعلمها بقراره النهائي بالعودة إلى سطح الأرض..مضيفا بان أسرته تنتظره على أحر من الجمر.. وهناك شعبه الأكثر احتياجا بما تعلمه و اكتنزه من كنوز حقيقية.. تمثلت في القيم والسلوكيات الجديدة الأكثر أمنا، وسعادة، وتقدما، وعدالة، وتسامحا..إلى جانب الكنوز المادية التي سيحملها إليهم...
حوريته: استسلمت لقدرها.. تفهمت قراره وما أراد.. أعطت له الأمان.. وحرية الاختيار.. فانهمرت دموعها بسخاء كأنها سيل من مطر .. لم ير في حياته مثلها !حتى أغرقت الأرض من تحت قدميها.. وبللت ثيابها الحريرية الشفافة، فبدا جسدها ناصع البياض يشع ضياء ونورا ...
هو: في الأيام الأخيرة القليلة المتبقية له.. بدأ يفكر في مشكلة أساسية تواجهه الآن ؟ تتمثل في كيفية العودة ؟ ومركبته التي استمرت عاما كاملا في الغوص في باطن الأرض، حتى وصلت إلى هنا، قد فقدت كثير من أهليتها، واستهلكت معظم آلاتها، فلن تكون قادرة على العودة أبدا.. فأرسل إلى مرافقه، يطالبه بنقله على وجه السرعة، لزيارة مركبته العالقة هناك في السقف الصخري الشاسع، المهول،فاصطحبه إليها.. دخلها متفحصا وخاصة شفرات الحفار الضخمة، ومعدات القياس، وهيكلها الخارجي، وأقسامها الداخلية بعناية فائقة..ثم سجل تقريرا بذلك.. قام بدراسته على وجه السرعة، وأعد لائحة طلبات؟ لإصلاحها وإعادة صيانتها وتأهيلها لرحلة العودة..هكذا كان يفكر في قراره ،قبل أن يتراجع؟ مستخفا بما فكر به ويتيقن بأنه من بني البشر، وآدمي ما يزال !!
طلب مقابلة الزعيم على عجالة .. امتثل بين يديه مرتبكا حائرا .. كان يحمل ملفا بين يديه ..طالبا المساعدة في إصلاح مركبته ليتسنى له العودة.. فما كان من الزعيم إلا أن انفجر ضاحكا! وشاركه مستشاريه جميعا في الضحك.. وتعالت أصواتهم، وهمهمات المستشارين ؟ .. إنها المرة الأولى التي يرى الزعيم ومستشاريه على هذه الصورة؟.. فوقع في حيرة من أمره، وأحس بضحالة سؤاله وتفاهة طلبه.. فخجل والتزم الصمت.. منتظرا تفسيرا عما يحدث! ...
الزعيم: ضيفنا الكريم..من زمن طويل لم نضحك هكذا من أعماق قلوبنا.. لم نشء الاستهزاء منك، أو السخرية من حديثك المنطقي، من زاوية تفكيرك العلمي كبشر آدمي ..لكننا نستغرب عليك، عدم إدراكك لقدراتنا الخارقة.. وإمكانياتنا الكبيرة، حتى بعد مضى خمسة أعوام لك بيننا، لهذا فقد استهجنا طلبك.. فبدا لنا ساذجا، يقلل من قدرنا دون ان تدرى او انك تناسيت من نكون نحن سكان باطن الأرض؟
هو: ابتسم .. ثم افجر ضاحكا.. يضرب كفا بكف.. يقدم الأعذار عن سذاجة ألمت به، في لحظات غلب عليه تفكيره بأهل سطح الأرض ..فقال: غاب عنى حقا أيها الزعيم الحكيم والطيب..في لجة من أفكاري الآدمية المتواضعة جدا .. فماذا تقترحون؟ فانا رهن حكمتك وقرارك الراجح..
الزعيم: سينقلك مرافقك الذي عيناه حارسا أمينا عليك.. حيث أدى مهمته على أكمل وجه.. و سيوصلك إلى باب بيتك بساعة زمن فقط !!
هو: بهت.. جحظت عيناه.. لكنه ابتسم فرحا، منتشيا بما سمعه، خفق قلبه حتى كادت ضرباته أن تُسمع.. فخر على ركبتيه، يشكر الزعيم والجميع.. على حفاوة الإقامة، والتكريم، وعلى هذه الخدمة الجليلة التي لا تقدر بثمن...
هو: في اليوم الموعود.. حضر الزعيم إلى بيته بكل تواضع، ومعه ثلة من المستشارين، ووجهاء الرهط..احتراما له ولزوجته الحورية.. ليقيموا له مراسم وداع رسمية.. ثم أوصى مرافقه به خيرا .. وأمره بإيصاله إلى باب منزله على سطح الأرض.. كان الموقف عصيبا عليه .. تحشرج صوته متأثرا ..التفت إلى حوريته ودموع الوداع تنهمر.. رمقها بنظرات حزن وألم على الفراق.. لكنه ابتسم لها ؟! والى الجميع مرسلا قبلاته.. كان ينثرها بكفي يديه، ملوحا بإشارة السلام بيديه.. بينما حمله مرافقه على ظهره.. والبسه ثيابا غريبة عجيبة.. حتى اختفى جسده كليا، ولم يعد يظهر من جسمه شيئا ..فقد غطته من رأسه حتى أخمص قدميه.. وانطلق به بلمح البصر...
مر وقت قصير.. لم يزد عن ساعة زمن.. وإذ بمرافقه يفتح عليه سترته الخاصة.. يفرك عينيه، يتأمل ما حوله.. يصرخ عاليا: أنا على سطح الأرض..يشير بسبابته: ذاك بيتي ! هذه شوارع القرية! يتحسس جسده.. يطمأن على نفسه.. ينظر إلى مرافقه، يجده مبتسما ! لكن في عينيه حزن شديد!.. يحدثه: حانت ساعة الفراق يا صديقي.. لن استطيع المكوث طويلا معك.. احتضنه ..شد على يديه.. بكى دموعا صادقة.. شاركه البكاء .. لقد كان صديقه الصدوق، وحارسه الأمين، ومنقذه بداية ونهاية.. وبمجرد أن ترك عناقه، حتى اختفى من أمام نظره...
سارع في خطواته باتجاه بيته..لمحه بعض من أهل القرية.. بدءوا في التهليل والصياح عبر الأزقة والطرقات الترابية، وأمام ديوان المختار بأعلى أصواتهم: عاد بشار يا أهل القرية..عاد بشار يا مختار.. خرجت الجموع عن بكرة أبيها.. شيبها وشبابها ، نسائها وبناتها ..يهرعون باتجاه بيته.. بينما هو كان يقرع الباب بطرقات قوية متتالية.. غير مصدق ما رأى ويرى ...
من يدق الباب ؟ يا رب استر، يا رب استر..ماذا حدث ؟ كان صوت زوجته من خلف الباب.. أنا يا حليمة..افتحي..أنا بشار يا حليمة.. لقد عدت سالما غانما قبل لحظات..
حليمة: بشار.. بشار زوجي !.. بشار زوجي..ااه .. ثم سمع من خلف الباب قبل أن يُفتح.. ارتطام جسدها بالأرض مغشيا عليها.. فقد أغمى عليها من هول المفاجأة..
يتبع
****
رحلة العمر 7 (الأخيرة)
فزع عندما سمع ارتطام جسد حليمة خلف الباب مباشرة.. تريث في قرع الباب للحظات حتى فتحه ابنه بشار وقد تعثر بوالدته المتكورة خلف الباب مباشرة.. فكان العناق طويلا ودموع الفرحة من كلاهما قد أغرقت وجنتيهما.. لحظات مرت كأنها عمر بأكمله.. ابعد ابنه والتفت إلى حليمة التي لا تزال مغمى عليها.. طالبهم بماء على وجه السرعة ..اخذ يغسل وجهها ورأسها، ثم حملها إلى غرفة النوم، واخذ يربت على خديها هامسا لها: أنا عدت يا حليمة ..عدت لكم ولأهل القرية ولكل البلد.. استفيقي زوجتي الغالية .. أخذت ترمش بعينيها غير مصدقة أهو علم أو حلم جميل لطالما راودها في سنوات غيابه.. ارتسمت ابتسامة هادئة على محياها.. مدت يدها إليه.. فقبضها بكفه والصقها إلى قلبه...
دلف جيرانه.. اكتظ بهم فناء الدار.. كانوا أول الغيث.. يهنئون ويباركون سلامته..اندفعت الجارات إلى أم بشار، يقبلانها وهن يزغردن.. وقد امتلأ البيت بالفرح فكانت الوجوه ما بين التصديق والتكذيب لما يرونه من سلامة أبو بشار وعودته .. تهامست بعض النسوة: لون بشرته قد تغير ! حركاته ونظراته ليست كما السابق.. لكنه أكثر هدوء واتزانا!...
توافدت جموع القرية.. تجمهروا على مقربة من بيته .. لحظات وإذ بالمختار ووجهاء القرية قد وصلوا.. أفسحوا لهم الطريق بصعوبة بالغة.. استطاع المختار ومرافقيه شق الصفوف بشق الأنفس.. حتى دخلوا إلى صحن الدار.. فأدخلهم بشار إلى المضافة، وقام بإعلام أبيه..
كان اللقاء حافلا..تبادلوا معه كلمات الترحيب وحمدوا الله على سلامته.. كانت نظرات المختار لا تفارقه.. يرقبه.. يتابعه .. ويهز برأسه بين الفينة والأخرى، في كل مرة ينطق فيها أبو بشار بعضا من جمله وكلماته.. مر وقت قليل، حتى استأذن الجميع ليفسحوا له المجال بان يرتاح ويلم شمله إلى أسرته.. فنادوا في الجموع الغفيرة بالعودة إلى بيوتهم.. وقبل أن ينصرفوا، همس أبو بشار للمختار بان لديه الكثير الكثير.. ولابد من لقاءه غدا وعلى وجه السرعة! فهز رأسه بالموافقة.. فقد شعر بهذا منذ لحظات.. وأحس بان أبو بشار يحمل بشائر كثيرة، وكلام لا ينتهي! فهو المختار صاحب عقل راجح، وبديهة لماعة..
في المساء التأم شمل الأسرة من جديد.. تحدثوا بما فيه الكفاية.. فرحوا بعودة أبيهم.. شكروا الله كثيرا.. طمأنهم بأنه عاد بالخير للجميع.. وانه ينقل بشائر الخير والمجد للقرية وكل القرى وللناس أجمعين.. انبهرت زوجته بما يقول.. وكذلك أولاده تهامسوا.. تمتموا.. بوجوه ملأها الإعجاب والاستغراب والاستهجان.. استأذنوا والدهم بالذهاب للنوم.. وبقى هو مع حليمة.. فانهمرت دموع الفرحة.. ونظرا إلى السماء من فناء الدار، فكان القمر مكتملا ..بدرا ساطعا.. فتعطلت لغة الكلام بينهما..وفاضت الأشواق لتسحبهما إلى غرفة نومهم، التي أعدتها ورتبتها خلسة، وعلى عجالة بينما كان يتحدث مع الأولاد...
عصر اليوم التالي توجه إلى ديون المختار حسب الاتفاق.. حيث كانوا جميعا بانتظاره على أحر من الجمر.. ينتظرون كل جديد..يتشوقون إلى سماع أخباره وماذا حمل لهم؟ وماذا سيقول لهم ؟ وصل الديوان ..دخل والعيون ترمقه بإعجاب واستهجان! جلس جوار المختار.. عم صمت غير عادى.. وساد الهدوء والسكينة الجمع، وأرخوا آذانهم صاغية..
استأذن أبو بشار من المختار بالحديث: يا أهل قريتي.. جئتكم بكنوز لا تقدر بثمن لو اتبعناها؟ احملها لكم هنا.. وأشار بيده إلى مجموعة من الأوراق رتبت في حزم متناسقة بأغلفة جلدية ناعمة.. امتعض الجمع، وتعالت همهمات الرجال.. اصمتوا..اصمتوا جميعكم ..نادي المختار فيهم بصوته الجهوري المعروف.. ثم التفت إليه قائلا: أكمل حديثك أبا بشار...
يا أهل قريتي.. عدت لأجلكم ولأجل كل الناس.. احمل هنا كنوزا مكتوبة بماء الذهب.. إنها مذكراتي التي سيحملها أمانة رجال منا .. يتصفون بالصدق والجد..لا تعادل اى كنوز تعلمونها.. إنها نهج حياتنا القادمة.. قوانين التآخي والرحمة فيما بيننا.. دستور الحكم وشرائع تنظم كل حياتنا.. ما لنا وما علينا تجاه الحاكم الذي نعينه نحن ولا يفرض علينا..تجاه أنفسنا.. هنا معادلات واختراعات وابتكارات.. بحاجة إلى عرق وجهد وعلم..إنها صناعات متطورة.. وخطط لكل صغيرة وكبيرة.. ابتكارات ستحيلنا إلى عالم متطور في الزراعة والصناعة.. ستغنينا عن الحاجة لأعداء البشرية.. سنمتلك زمام أمورنا.. سنكون رقما متقدما بين الأمم.. هنا اختراعات دفاعية متطورة..سنغلق سماء بلادنا أمام الغربان.. وستسقط محترقة لو فكرت في الاقتراب!! هنا تطوير حقولنا ومنتجاتنا الصناعية التي تقوم على زراعة متقدمة فالخضروات تزرع على مدار العام !! هنا في هذه الأوراق كيفية الاستفادة من المياه و الحفاظ عليها.. واستخدامها في الصناعات المختلفة وحتى ما لا يخطر على بالكم؟! هذه هي الكنوز الحقيقة التي جئتكم بها يا أهلي وأحبتي.. عدت من أجلكم انتم وباقي القرى والحضر في بلدنا العزيز..كما واليكم بشرى أخرى!! فانتبهوا لها: حملت لكم كنوز تعلمونها من الجواهر والماس والذهب.. لكنها ستبقى أمانة ووديعة نستخدمها في تنفيذ كل الخطط التي بحوزتنا الآن.. ليعم الخير والعدالة الجميع دون استثناء...سنطبع هذه المذكرات لتوزع على من هم جديرين بالأمانة وحملها من أشراف القرية والقرى الأخرى والمدن في بلدنا.. بل في كل بلاد العرب والمسلمين.
تعالت أصوات التكبير... هللوا جميعا.. اندفعوا إليه.. رفعوه على الأكتاف.. انه زعيم القرى بلا منازع .. طافوا به القرية.. الجموع هادرة.. مصممة على تطبيق كل ما جاء به أبو بشار...
في الصباح..استيقظت أم بشار.. سارعت إلى المطبخ تعد الفطور.. وقد أرسلت بشار لإحضار خروفين لذبحهما، وعمل وليمة للأحبة والأصحاب والجيران واعيان البلدة.. عادت فرحة وجهها يشع نورا وضياء لإيقاظ أبو بشار .. تناديه.. لا يجيب ؟.. تحركه لا يستجيب !.. تلطم صدره لا حياة ولا مجيب.. مات أبو بشار حدثت نفسها.. صرخت.. خرجت إلى فناء الدار تصرخ ..تستغيث..تلطم على خديها..تمزق ثيابها.. لكن هذا لن يرجع أبو بشار.. فقد فاضت روحه إلى السماء...
إنها إرادة الله .. " وكل نفس ذائقة الموت"..كانت كلمات الآية الكريمة التي تلاها شيخ القرية قبل تغسيله، والصلاة عليه، دفن صاحب البشارة لاحقا في جنازة مهيبة.. لم يروا مثلها من قبل..شوهدت مذكراته تحملها سواعد سمراء قوية، شريفة واعية.. عاهدت الله والوطن على المضي قدما في نشر الأفكار.. وعمل وتنفيذ الأمانة التي جاء بها أبو بشار.. معرضا نفسه للخطر.. وقد نجح هو في إرساء اللبنات الأولى لها .. أنهم امنوا بحتمية التغيير نحو المجد والعزة والكرامة ..هكذا حملوا أفكاره على اكفهم ..بينما كانت تسير جنازته وقبل دفنه.. تعبيرا على الوفاء والعهد..فان كان أبو بشار قد مات.. فالأفكار والحلم والعهد لا تموت .. أرادوها رسالة إلى الناس..كل الناس. بل إلى العالم اجمع..انفضت الجموع الهادرة..ولاذت السواعد السمراء حاملة الأفكار إلى عقد مؤتمرها الأول.. بكل إصرار وعزيمة وأمل..لتزف البشائر للعيون المشرئبة.. والقلوب المنتظرة يوم الخلاص لانعتاقها من براثن الجهل والتأخر وعبث العابثين.. هناك من خلف شجرة.. كان رجلا يرقب مراسم الدفن.. كان يبكى بحرقة.. قبل أن يتبخر مختفيا.
-انتهت -


الساعة الآن 01 : 01 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية