![]() |
التأشيـرة
التأشيـــــــــــــــــــــرة [align=justify] لم يعد البحر يخيفها كما كان في الماضي، ولم يعد له سلطان على نفسها مثلما كان في السابق . لكن مقتها له لا يزال كما هو.. مقت يعادل هيامها به وهي بعد يافعة تتلذذ صحبة قريناتها بالغطس في أعماقه وبمداعبة أمواجه في هدوئها كما في هيجانها . ستون عاما مضت .. دانت لها الحياة بكل مباهجها ومسراتها.. لم تعرف سوى النعيم ورغد العيش .. آه لو تنحت يد القدر قليلا عن فلذة كبدها ولم ترم به طعما لأسماك البوغاز.. لكن القدر أقوى ، ولا أحد يقدر على تغيير مساره أو تجنبه .. لو عاش بكرها الغالي لما وجدت في ألبوم حياتها ما يعكر صفوها ، ولاستمر حبها للبحر قويا . تتساءل أحيانا في حيرة.. هل هو القدر الذي خطف حياة ابنها وهو في ربيع عمره ، أم أن هذا الأخير هو من هيأ الأسباب لهلاكه ؟ ماذا لو عمل بنصيحتها و أصغى إلى توسلاتها ونحيبها بأن يعرض عن ركوب قارب الموت ؟.. حقا ، إنها لم تسخط عليه ، رغم أنه أصم أذنيه عن استعطافها وبكائها ، لكن قلبها حدس وقوع أمر جلل . الآن ما فات قد فات ، ولا يجدي الأسى والأسف شيئا . ورحيل الابن ليس نهاية العالم . الأمل موجود .. بل أقوى في قضاء ما تبقى من العمر في العناية بالآخر. فهو أيضا له الحق في الحب و الرعاية و الحنان... بل ربما تجمعت كل هذه المشاعر الآن لتغمره وحده قوية متوهجة .. وفي بعض الأحيان تعجز عن كبح عواطفها تجاهه ، ويتمثل لها وجه الراحل معاتبا في صمت ، فتسارع هاتفة في ابتهال :" لا.. أنت ابني أيضا .. ولم أنسك.. و سوف أظل أحبك و أرضى عنك حتى أموت.." ثم، لتنسى لوعتها، تستطرد في دلال : - أنت الذي تركتني لتعيش في بلاد النصارى . شعورها بعدم مسؤوليتها فيما جرى هون عليها المصاب ، فأقبلت على الحياة بنفس مطمئنة متفائلة ، سلوتها الصلاة و التأمل في كل شيء من شرفة بيتها الصغير .. في البحر.. في الجبل.. في السماء.. في الماضي وذكرياته .. في الحاضر و حياتها الهادئة.. منتظرة كل مساء عودة صغيرها .. هكذا تدعوه رغم تخطيه العشرين .. تنظر إلى الباب.. هذا وقت وصوله .. يندفع الفتى نحوها ويقبل يدها : - أمي.. باركي لي.. حصلت على التأشيرة .. سوف أشتغل بإسبانيا . تأملت الضيف مبهورة بحسنه .. لماذا كل النصارى بهذه الوسامة ؟.. ونهضت مرحبة وهي تتمتم بكلمات مبهمة.. ماذا أقول له ؟.. هل يفهم شيئا من العربية ؟قلبها ينخلع من صدرها.. أنت أيضا ؟.. ما لهذه البلاد تبتلع الأولاد وتجذبهم كالمغناطيس ؟ - بهذه السهولة ؟… ويهون عليك فراقي وتركي وحيدة ؟ فيجيبها بنفس الحماس : - أمي.. إسبانيا هناك – و أشار بأصبعه نحو البحر- و"مالكا" عند باب الدار .. أفطر هناك وأتغذى عندك..هيه.. ما رأيك ؟ لا سبيل لتغيير رأيه . لهجته واندفاعه وحماسته .. كل شيء قيه يوحي بتصميمه . لكن .. لابد من المقاومة.. - ألم تعدني بألا تفعل شيئا حتى تستشيرني ؟ - سامحيني يا أمي – قال وهو يلثم راحتها – كان الأمر مستعجلا .. و أنت تدركين صعوبة الحصول على التأشيرة في هذا الزمان . صمتت قليلا ثم أردفت كأنما تذكرت شيئا ذا بال : - وزواجك ؟ لقد وعدتني بأن تتزوج حال وقوفك على رجليك . - أمي ، العمل بسبتة غير مضمون . اليوم conde وغدا Pobre . لكن - و اضاف باسما - اطمئني ، سيكون ذلك قريبا . توقفت يدها عن تحريك حبات المسبحة وهتفت في لهفة : - حقا ؟.. ستتزوج ؟.. هل أزغرد ؟.. من هي ؟.. لا شك أنها إسبانية.. ليكن.. المهم أن تستقر وتدع حياة الخيطانوس . نظر إليه لحظة ، ثم حك رأسه كمن يتردد في الإفصاح عن أمر هام : - ماذا بك؟.. هل تريد قول شيء ؟ - أمي.. لدي ضيف .. و أنت ترين ضيق منزلنا . - ضيفك فوق رأسي..مرحبا به. - ولو أنه نصراني ؟ - وما يضرنا من هذا ؟.. ألف مرحبا به .. آه أيها الثعلب .. لاشك أنه نسيبك . ضحك باقتضاب واستدار نحو الباب مناديا : Pablo ?.. Entra !- - قل له إني مسرورة باستضافته.. يا حسرتي على الاسبانية التي كنت أدبر بها شؤوني .. عسى أن يرضى بما لدينا. - أمي النصارى لا يبالون بتعقيد الأمور..أفرشي له الأرض أو هيئي له السرير، وأطعميه البيصر واللوبياء والكسكس ، فسوف يتقبل ذلك عن طيب خاطر ودون إبداء أية ملاحظة . - حسنا سأعد العشاء . بعد العشاء ، تنصرف إلى غرفتها . تفتح النافذة فتستقبل أذناها هدير البحر . تحملق في الظلمة وتهمس مناجية :" هاهو ابني الآخر سيبحر على أمواجك .. كن لطيفا معه .. فهو لم يتعود ضنك العيش .. ولم يفر تحت جنح الظلام " .. يجيبها البحر بهدير أقوى فتنتابها رعشة ، وبعد أن تتعب من الوقوف عند النافذة ، تستلقي على السرير وتظل تتقلب على جنبها الأيمن ثم الأيسر.. ما للنوم يجافي عيونها ؟.. هل بلغ بها الفضول إلى هذا الحد لمعرفة كل شيء عن كنتها ؟.. لقد وعدها ، وستوقظه رغم تعبه ، ثم تنام قريرة العين . - ليكن خفيفا.. فلسنا جائعين كثيرا . تشير له في الخفاء أن يلحق بها وتهمس : - هل تريد أن أتنازل له عن غرفتي ؟ يجب إكرام الضيف و إراحته . - أبدا.. ماذا تقولين يا أمي ؟.. هل هو أعز لدي منك ؟.. سوف ينام في حجرتي . - وأنت ؟.. - ربما أفترش الأرض قرب السرير.. إن هي إلا ليلة واحدة . - الله يرضي عليك.. ولكن قل لي.. لم لم تأت عروسك معك ؟ لا تحسب حركاتك تخفى عني .. أنا أمك و أعرفك جيدا . - يا لك من ملحاحة .... اصبري ولكل شيء أوانه . - هل هو أخوها حقا ؟.. هل هي في مثل حسنه ؟ - أمي.. سينام الضيف قبل أن يزدرد شيئا. - أوه حقا .. لكن عدني أن تخبرني عنها بعد العشاء . - أعدك.. وإن كنت أكاد أسقط من التعب . هدير البحر وإن اشتد ، لا يوقظ النيام . لكن حين تنبعث من المنزل الصغير المطل على البحر صرخة حادة تخترق الفضاء ، فإن الحركة تنبعث من الحي . فتوضأ الأنوار و تطل الرؤوس من النوافذ ، وتتجرأ بعض المنامات على الوقوف على عتبات الأبواب لتنظر في دهشة إلى المرأة صاحبة المنزل تولول وهي تذرع الطرقات كالمجنونة : - يا للمصيبة .. يا للعار.. يا للفضيحة.. الله يرحمك يا بكري العزيز.. قضى عليك تهورك.. لكنك كنت رجلا . تتملى العيون بمنظر الأبدان الشبه العارية ، المطلة من النوافذ أو الواقفة عند الأبواب . لكن ثلة قليلة انتبهت إلى شبح يقفز من شرفة المنزل الصغير ويهرول بعيدا ، ممسكا بحزام سرواله ، بينما وقف شبح آخر مذهولا على عتبة الباب وقد أنسته ولولة المرأة أن يرتدي منامته . ============================= مالكا : (مالقة) مدينة بالجنوب الأندلسي . conde : رتبة للنبلاء Pobre : فقير الخيطانوس : كلمة اسبانية تعني الغجر Pablo , entra : بابلو ، ادخل . [/align] |
رد: التأشيـرة
الأخ رشيد الميموني..
قصة جميلة جعلت مشاعري تهتز لتلك الأم "فالضنى غالي" والموت والمهجر يخطفه منها ،فتحلق مع خيالها وتحدثه..تسأله وتستفسر عن رغباته ولكن دون مجيب فياخيبة أمل تلك الأم المفجوعة .. دوما يا سيدي بأسلوبك المميز تستخدم ألفاظك فتصل بعضها ببعض حتى تكون قالبا معنويا جميلا لك كل مودة وتوفيق خولة |
رد: التأشيـرة
اقتباس:
شرفت متصفحي من جديد كعادتك وأسعدني ثناؤك على قصتي .. فالشكر كل الشكر لك و لتجاوبك الرائع هذا . دمت بكل المودة . |
رد: التأشيـرة
بانتقال ثقافة الأجانب إلينا، ونتيجة لكل هذا التمازج الذي لم نأخذ عنه سوى قذاراتهم، لم يعد الأمر حكراً عليهم لنتهمهم بأسباب انحدارنا الأخلاقي، بل بتْنا نحن - أو لنقل طائفة واسعة من مجتمعاتنا- أشد سوءاً منهم... وكما يقول المثل العامي: (علمناهم على الشحادة سبقونا على الأبواب) أظن الأم تمنت في تلك اللحظة الصعبة لو أن البحر ابتلع الاثنين معاً، وتركها وحيدة، لا ينغص عيشها سوى موت ولديها، ويبقى لها البحر، يتحدى غضبها وحزنها، ويستمع إليها عندما تبثه شكواها قصة تضع طرحاً مهماً، واسع الانتشار بشكل غير معلن، وأخشى أن يحل علينا يوم لا تجد فيه الفضيلة مكاناً بيننا لك ولفكرك المتبصر ولقلمك الماهر كل التحية والإعجاب والحب |
رد: التأشيـرة
اقتباس:
أصبت في كل ما ذكرته .. وربنا يلطف .. كل محبتي . |
رد: التأشيـرة
مساؤك إبداع ورقي أستاذ رشيد..هذه ثاني قصة أقرأها لك وأجدك فيها تستخدم البحر..هل تهتم بالبحر أهو ثيمة متكررة في كتاباتك ؟ هل يلهمك ؟
اسمتعت بالقراءة وبالحوار بين الأم وابنها..لم أتوقع هذه النهاية أبدا..قضية حساسة وسلوك قذر ، مشين ، لكن كانت معالجتك لها معالجة راقية أهنئك على هذا الرقي..كلما قرأت أدبا يناقش سلوكيات غير أخلاقية أو منحلة وأجده لا يخرج عن الأدب ولا ينزلق إلى تعبيرات مبتذلة وضيعة لتصوير مشهد وضيع أتأكد أكثر وأكثر من أن حقيقة الإبداع لا تكمن في نقل تفاصيل الواقع كما هي بقذارتها بحجة الواقعية فهذه حجة من لا يمتلكون المهارة الحقيقية للأديب أو الفنان فالبمثل حينما أشاهد فيلما يحتوي مشاهد خليعة أو عبارات وجمل منحطة بحجة أنه ينقل صورة معينة من صور الواقع أفكر في ضعف مهارة مخرجه والقائمين عليه وفي أنهم دخلاء على الإبداع..مبدعون مزيفون ، لأن الإبداع الحقيقي هو في إضافة الجديد في ابتكار طريقتك الخاصة وأسلوبك كمبدع في تصوير مشهد واقعي لي بصورة تظهر رؤيتك الخاصة له ومهارتك الفنية لا أن تنقل لي مشهدا قذرا كما هو بالضبط ..الإبداع ليس محاكاة مباشرة للواقع بل هو رؤية خاصة فريدة له .. أشكرك . |
رد: التأشيـرة
الغالية سارة ..
انتهيت للتو من قراءة تعليقك المزدوج على إحدى قصصي و أدرجت ردا عليه و أنا في قمة السعادة لما نالته القصة من إعجاب لديك .. تعليقك المميز هذا يشرف نصوصي وأعتبره وساما و شهادة مميزة في حقي ككاتب يتلمس طريقه نحو الأفضل . دمت بكل المودة و التقدير . |
رد: التأشيـرة
لا بدّ لهم أن يحلّقوا كما الطّيور في سماء الحياة، وإن خالفوا توسّلاتنا . فوهم فلذات أكبادنا ليسوا لنا وإنّما للحياة.
سعدت بقراءة هذه القصّة الجميلة أستاذي محبّتي واحترامي |
رد: التأشيـرة
اقتباس:
أسعدني مرورك وتعليقك وكذا تجاوبك مع القصة .. وأنا معك في أن التحليق هو مبتغى كل البناء الذين يملأ الطموح كيانهم لكنه يبقى رحيلا محفوفا بالمخاطر خاصة إذا لم يكن بجانبهم من يرعاهم ويبين له تلك المخاطر .. وقد يصير المر كارثيا حين يكون الرحيل على حساب المبادئ و الأخلاق . شكرا لك من كل قلبي . زلك كل المودة و التقدير . |
رد: التأشيـرة
ولهذا النص وقعه في الأدب .. بدأت بسرد واقع الهجرة السرية المؤسف لتنتقل إلى ما يمكن أن يأخذه العربي من انحلال عن الغربي ، هذا الذي يبدو ظاهره وسيما وباطنه موحشا ومفزعا ومدمرا..
جميل تناولك للأحداث وانتقالك عبر سيروراتها وأنت تلامس الواقع، وتصف الأم وحالها بهذا النص أو بغيره فأجد فيك حس الأمومة ينبض. حفظ الله أمهاتنا ورحمنا ورحمهن |
الساعة الآن 42 : 10 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية