منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الخاطـرة (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=30)
-   -   غرفة (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=17234)

عبد الله راتب نفاخ 27 / 09 / 2010 00 : 08 PM

غرفة
 
غرفة :

صعقتني كهرباء المنظر ، و تكسرت بعثرات شعوري في قارة الصمت ، أترى .... كان لا بد لهم أن يصنعوا هذا الصنع الشنيع ، و يبددوا بجرافاتهم كل هذا العبق الأثيل ؟؟؟

كنت قد رأيتهاغير مرة حين نذهب لزيارتهم في بيتهم القديم الخشن ، عجيبة عليها وقار الزمن ، مركونة إلى جانب البيت وحدها ، قوامها اللِّبن و الخشب ، تتوسط حديقة صغيرة في خاصرة الفناء الريفي ، تميل عليها شجرة صفصاف كبيرة كطفلة تطلب من أمها حنواً ، و من حولها الحشائش و الأعشاب تتسلق جدرانها كأنما تنشد غوثاً من شر ما .

قالوا : عاشت بها العجوز أيامها الأخيرة متفرغة لأذكارها و صلواتها ، فأسبغ عليها هذا القول خشوع الروح ، و هيبة الموت ، و سكينة العبادة ، حتى خُيِّل إلي أن العجوز تطل علينا من بابها روحاً شفافة يكسوها بياض النقاء ، تنظر إلينا من وراء الطبيعة مبتسمة باطمئنان ، و هي ترفع يدها التي خلقت بها السنون رعشة الكبر لتلوح لنا مودعة .

كانت وحيدة في شاعرية الظلام ، مختلية بنفسها بعيداً عن أخواتها غرف البيت ، كالمتصوف السارح بحثاً عن الإلهامات و الواردات العلية ، و الشاعر الذي يدفعه تأمله الشفيف بالكون و أسراره إلى اعتزال الناس و مفارقتهم في مكان يشعر أنه يرى العالم منه بوضوح أكبر ، ويطلع على كنهه المخبأ تحت أردية الواقع المنظور .

و في ساعات الغروب حين تلف الدنيا عاصفة الشاعرية الملونة كانت تبدو كعاشق عذري رمته أمواج الحب عند صخرة بحرية ، فأخذ يحدق في المدى البعيد مستلهماً من توهج لحظات النهار الأخيرة ألف قصيدة حب فريدة المواجع .

كنت أراها وحدها تاريخاً يسرَد، كأن العجوز ما تزال فيها تردد بصوتها الشجي الذي تعلوه خنة الشيخوخة آيات القرآن من مصحف عتيق مهترئ الغلاف ،قاعدة على طرف سريرها الحديدي القديم ، و أشعة شمس الضحى تداعب غرفتها من النافذة الخشبية التي أكلت معالمها تصاريف الزمان ، كأنما تدخل خاشعة لسماع ترتيل الذكر الحكيم .

مضيت أقلب كفيَّ حين رأيت البناء الإسمنتي الذي حل محلها كأخطبوط مفترس أو غول من غيلان الأساطير ، و راحت الأسئلة تزدحم و تشتجر في دماغي حتى أنهكته : أيعقل أن أبناء العجوز لم يكن فيهم من يتحسر على غرفتها التي غادرت الدنيا بها ، ألم يسمعوا صرخاتها و شهقاتها تحت وطأة الجرافات و هي تهرسها ، ألم ير أحدهم طيف والدته يستغيث و يشهر يديه في وجوههم طالباً ترك مأوى روحها الأخير في هذه الدنيا لتبقى تطيف به كلما حنت إليه ، أيعقل أن تتبلد مشاعر الإنسان فلا يحس وقع جريمة فظيعة كتدمير هذا الكنز من الشاعرية و الذكريات .

لحظتها التفت ليطل علي سهل القرية الكبير الواسع و قد آلت أراضيه الخضراء المزدانة بأشجار الثمار على اختلافها أبنية إسمنتية مشوهة و شاهقات تشعر بالقرف والغثيان ، تراكبت فوق بعضها كجحفل من العناكب أو الجرذان ، كم غرفة كغرفة الذكريات ابتلعت ، و كم كتاب من كتب الزمن أحرقت و مزقت، و كم روح من الأرواح الطيبة صاحبة العبق أتعست و أشقت .

وجدتني أبتسم بسخرية مشبعة بالألم قائلاً لنفسي : أليس من فعل كل هذا الإجرام و التشويه بشراً كذلك ، أليسوا ذوي عقول وقلوب مثلنا ؟؟

فرد علي صوت غريب لست أحسبه من نفسي و إن سمعته آتياً من قبلها : بلى .... لهم قلوب و عقول ، لكنها ليست كقلوبنا و عقولنا .

نصيرة تختوخ 13 / 09 / 2012 17 : 09 PM

رد: غرفة
 
أستاذ عبد الله ذكرتني بإحدى الصديقات قالت لي ذات يوم:'' أنا ماعدت أثق بدوام المساحات الخضراء في المدينة غدا تحولها المشاريع إلى إسمنت ''.
كم من البنايات أكلت المساحات الخضراء والسهول والبيوت البسيطة.
غرفة العجوز وغيرها تجاوزها زمن البساطة والحنين.
تحياتي لك وتقديري.

د. منذر أبوشعر 10 / 06 / 2013 36 : 03 PM

رد: غرفة
 
ابني الأديب عبد الله نفاخ ،المثال المشرق لاستمرار تواصل بركة صدق خير الكلمة:
يحاصرنا الإسمنت من كل مكان، فتتحول خضرة الأمكنة والذكريات إلى تهويمات شبح ذكريات فائتة..فتعتصر الروح ونحن نطلب الإشراقة المنسربة.
لكنني أرى،رغم كثافة ردغ الطين،أن الضوء يتعثر،لكنه ،بتواجدك،قريب قريب.
والخير كله لك، ونبقى مع طيب صدق الحديث.


الساعة الآن 15 : 12 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية