![]() |
عبد الله - رواية قصيرة - نزار ب. الزين
عبد الله دخلت بيت المحامي الأستاذ عبد الباقي الحموي امرأة حافية القدمين ، كانت تحاول ستر ثيابها الممزقة بملاءة سوداء انتشرت على سطحها البقع من كل لون و قد ألقت فوق وجهها منديلا مهترئا فُتحت فيه على الأقل كوتان . كانت تجر بإحدى يديها طفلة لما تبلغ العامين من عمرها ، نحيلة جدا و عارية الا من قميص مهلهل بينما تتخفى الصورة الحقيقية لوجهها الجميل تحت قناع من الأوساخ و الافرازات تتغذى منها و تحوم حولها بضع ذبابات أصرت على الدخول معها و التي يبدو أن الطفلة اعتادت عليها ."ياخدو الله" رواية قصيرة نزار ب. الزين* ***** كانت الامرأة و هي صبية لما تبلغ الثلاثين بعد ، هلعة باكية ، ما أن احتواها منزل الاستاذ حتى أمسكت بتلابيب أم محمد – الشغالة – مستجيرة بها بصوت مبحوح أنهكه الارهاق فخفض موجاته ، بينما أكدت عروق رقبتها المنتفخة أنها تُطْلِقه بكل قوتها ؛ كانت الكلمات تخرج من فمها كحشرجة عجوز في النزع الأخير ، عندما أخذت تشرح حالها لأم محمد ثم لبقية أفراد الأسرة كبيرهم و صغيرهم ، ثم أعادت سرد قصتها لسيدة الدار قمر( خانم ) عندما خرجت من الحمام .. زوجها ملقم فرن في مخبز الحارة ، أجره الأسبوعي ثلاث ليرات سورية إضافة الى أربعة أرغفة من ( خبز الفقير* ) لا تدخل أجواف الأسرة غيرها غالبا ؛ أما أجره الأسبوعي فلا تعرف عنه شيئا ، هي تعلم أنه يدخن بشراهة و أنه يتردد على مقهي الحي المجاور لسماع قصص عنترة بن شداد و أبو زيد الهلالي و الشاطر حسن من فم الحكواتي ، حتى اذا طالبته بما يسد رمق أطفالها ، أقسم الأيمان أنه لا يملك قرشا واحدا في جيبه ، و ان هي واجهته بمصروفاته الشخصية ، فان رده يكون في العادة بيده و ليس بلسانه ؛ أما ما حدث اليوم ففاق كل ما حدث من قبل ، فقد مزق جسدها بعدة جروح تجمد الدم حولها و رسم على وجهها عدة كدمات و نفّر من رأسها ثلاثة انبثاقات على الأقل ، و حتى الأطفال لم يسلموا من أذاه بل كاد يذبح بكره . و أخذت ترجو قمر خانم أن تتوسط لدى الأستاذ لينقل شكواها الى الحكومة ، فانها لم تعد تحتمل ، فقد بلغ بها السيل الذبى !!! و أضافت أنها امرأة ( مقطوعة من شجرة ) لا أهل لها و لا تجد من تلجأ اليه سوى الأستاذ ، و قد شجعها ما سمعته من جارتها بأن الأستاذ يرفض أن يتقاضى أجرا من أهل الحارة . تعاطفت قمر خانم مع الامرأة ، و أخذت تهدئها ، ثم أمرت أم محمد أن تقدم لها بعض الطعام مؤكدة لها أن الأستاذ سيعود الى المنزل وشيكا ، و أنه لن يتردد في معاونتها ***** -2- كان بكرها عبد الله ، قد أرسله والده لاستدعاء أمه في الحال ، عندما دخل الأستاذ عبد الباقي ، و ما أن سمع القصة حتى طلب من عبد الله أن يستدعي أباه . ثم أخذت الصورة تتضح فالزوج هو ابن ( خضري الحارة ) أبو عمر ، عمل عند والده مذ كان في العاشرة من عمره و تزوج في كنفه و أنجب في داره ، و لكن بعد وفاة والدته بأشهر قليلة تزوج والده ؛ و بدون سابق انذار طرد ابنه و ساعده الأيمن ، بحجة أذاعها بين الزبائن و هي أن مورد الدكان لم يعد بغطي أسرتين . و لما كان عمر فد حرم من أي قسط من التعليم أو حتى تعلم أية مهنة غير المناداة لترويج ثمار والده فقد ظل عاطلا عن العمل ، الى أن أوقعته الظروف بين براثن ( خباز الحارة ) الذي عمل على استنزاف عضلاته أربعة عشر ساعة يوميا ، تبتدئ عند فجر كل يوم فاذا عاد الى منزله ليستريح يجابهه صخب أطفاله الذين أنجب منهم أربعا في أربع سنين ، ثم تدعم زوجته ذاك الهرج بطلباتها التي لا تنتهي ، فأخذ ينفر منهم جميعا الى المقهى . - والدخان ؟ سأله الأستاذ فرد عمر مبررا . . = ( فشة خلق* ) سيدي ! - و تترك أطفالك جياع ؟ صمت أبو عبد الله بينما اغرورقت عيناه بالدموع ، ثم أردف : = كان من المفروض أن أكون شريكا لأبي و لكن (بنت الحرام إمرأته) ظلت توسوس له حتى طردني . - و لكنه لم يطردك من المنزل أليس كذلك ؟ . تساءل الأستاذ فأجابه عمر : = لو فعلها فلا ملاذ لنا سوى بستان الباشا حيث نعيش كلنا في العراء، و لكن (بنت الحرام) أجبرته على بناء حاجز يقسم البيت الى شطرين و استحوذت على الشطر الحاوي للمرحاض و المطبخ و تركت لنا غرفة واحدة للأكل و الشرب و الطهو و النوم بل حتى استحمام الأطفال ! بعد فترة صمت قال الأستاذ موجها كلامه الى الرجل : - اسمع يا أخ عمر ، لو اشتكت عليك زوجتك لوضعوك في السجن على الأقل ستة أشهر ، لأنك أوقعت الأذى و الضرر بشكل بيّن ، و لكنها لم تفعل و أنا أعلم أنها لن تفعل لأنك أبو أولادها ، ستعود معك خديجة و لكن قبل ذلك أريد منك تعهدا بأ نك لن تستخدم يدك عند الغضب ، خديجة زوجتك و ليست خادمتك أو جاريتك ، حتى العبيد حرروهم يا رجل ! ثم أحضر المصحف و ألزمه أن يضع يمناه فوقه ثم يقسم بأنه لن يمد يده بسوء منذ اللحظة ، كما جعله يقسم بأن يقلع عن التدخين و أن لا يذهب الى المقهى سوى مساء يوم الخميس . ثم غادرت الأسرة محملة ( ببقجة*) مليئة بالثياب القديمة و ( صّرة ) مليئة ببقايا متنوعة من الطعام . و ما أن وطئت أقدامهم الشارع حتى تهافت حولهم بقية أطفالهم مطالبين بالحاح بنصيبهم مما احتوته ( الصرة ) ***** -3- في صباح اليوم التالي قرع الباب ، فأطلت أم محمد من طاقة فتحت فوقه من أرضية مدخل المطبخ في الطابق الثاني من المنزل . سألته :- من أنت ؟ أجابها : - أنا عبد الله . كان صبيا في العاشرة أو نحوها يرتدي سروالا حشر فيه جسمه فبدا ضيقا جدا و قصيرا جدا بينما التصق فوق القسم الأعلى من جسمه قميص أزرق ضمت أزراره الى العروات غير المناسبة فبانت قبته ملتوية ، كان منظره مضحكا حقا . نظر الى أعلى ثم أشار الى ثيابه الجديدة ثم قال مؤكدا : - أنا عبد الله ابن أم عبدالله - و النعم و السبعة انعام أجابته أم محمد متهكمة ! فخجل و أطرق برأسه ، الا أنه لم يتزحزح من مكانه ! سألته ثانية بشيء من الغضب : - من أنت و ماذا تريد ؟ - أنا عبد الله ابن أبو عبد الله هنا تنبهت أم محمد للملابس فتذكرت على الفور قصة الأمس ثم أدركت.أنه الابن الأكبر للزوجين المتخاصمين اللذين كانا هنا بالأمس . - هل أمك التي كانت عندنا البارحة ؟ سألته أم محمد . - نعم ؛ أبي و أختي أمينة كذلك ، أجابها فرحا . - هل هناك مشكلة جديدة بينهما ؟ سألته ، فصمت و أطرق برأسه ، فعادت تسأله : - ماذا تريد يا عبد الله هنا رفع رأسه و أشار باصبعه الى فمه المفتوح ، فأدركت أنه يطلب طعاما . سألتها قمر خانم : - من في الباب يا أم محمد ؟ - عبد الله (ياخدو الله) يشحذ طعاما ، هل أعطيه ؟ - إلقي له قطعة خبز و شريحة جبن . ثم درجت العادة أن يأتي كل صباح طالبا بعض الطعام ، كما درجت بين أفراد الأسرة تسميته عبدالله ( ياخدو الله ) و لكن عبد الله لم يأخذه الله بل أخذ والده ! ***** -4- عبد الله يقرع الباب بقبضتيه ، كان أفراد العائلة يتناولون افطارهم , هرعت أم محمد الى الطاقة :- عبد الله ؟ ماذا أتى بك مبكرا و لم تحاول كسر الباب ؟ سألها الأستاذ : - من الطارق ؟ فأجابته : - عبد الله ( ياخدو الله ) و لكن عبد الله عاد ليطرق الباب بعنف ، فهب الأستاذ ليطرده : - ألا تستحي يا ولد فتزعجنا على هذا النحو ؟ نهره الأستاذ ، فأجابه بصوت متحشرج : - أبي( شنق حاله !!!!! ) ***** -5- تسلل سمير وراء أبيه و تبعه عن بعد ، فقد استبد به الفضول . كان الجمع غفيرا ، في بستان الجزيرة ، أحاطوا بشجرة جوز عملاقة تدلت من أدنى أغصانها جثة عمر ، العينان جاحظتان تكادان تخرجان من محجريهما ، فمه مفتوح حتى آخر الشدقين و لسانه مدلى و سرواله يرشح ، و يداه ممسكتان بالحبل الذي التف حول عنقه ، و كأنه ندم في اللحظة الأخيرة فحاول التراجع ، و لكن بعد فوات الأوان ! جلست خديجة على الأرض و راحت تلطم خديها تارة أو تهيل التراب على رأسها تارة أخرى ، مرددة عبارات لم يفهم منها سمير سوى تساؤلاتها عمّن سيعيل الأطفال من بعد عمر ؟ ثمت شرطي حضر لتوه و أخذ يبعد الناس عن شجرة الجوز مستخدما عصا غليظة يحملها الشرطة عادة ، ثم اشتد نشاطه بعد حضور المحققين و المصور و الطبيب الشرعي . هنا انسحب الأستاذ عائدا الى بيته ، كان يهز رأسه حزنا و يدمدم (( لا حول و لا قوة الا بالله )) ، عندما شاهد ابنه سمير ضاغطا على احدى ساقيه بكلتا يديه محاولا تخفيف ألمها فقد أصابته ضربة من عصا الشرطي. و في منزله قال الأستاذ موجها كلامه الى زوجته و بحضور جميع أفراد الأسرة : لقد عرفنا كيف و لِمَ ؛ فقد هدم أبو عمر السور الذي بناه بينه و بين ابنه ، و بدون تقديم أي تبرير طالبه بالرحيل من بيته ، لم يقبل أبو عمر المناقشة و لم يستجب لتوسلات خديجة ، كان ذلك في المساء و في الصباح ظنوا أن عمر توجه الى عمله و لكن بعد سويعات قليلة جاءهم ( أبو رياح ) صاحب الطاحون ليخبرهم بالنبأ المفجع . ***** -6- كانت جنازة أبو عبد الله التي لم يخرج وراء نعشه فيها ، سوى عبد الله و جده أبو عمر ؛ فقد رفض الناس تشييعه أو الصلاة على جثمانه لأن الانتحار حرام ، كما أحجم الناس عن التعامل مع (أبو عمر) أو حتى القاء السلام عليه ! ثم أصيب أبو عمر بجلطة دماغية فأصبح طريح الفراش ، رفضت زوجته خدمته ، ثم ما لبثت أن جمعت أغراضها و رحلت ، بينما شمرت خديجة ساعديها و تطوعت لخدمته دون ابداء أي اشارة تذمر ! أما عبد الله فقد استلم دكان جده ، و عاد - من ثم - أهل الحي للتعامل مع المحل بكل رضا ، و بعد أيام ابتدأ عبد الله ذو الحادية عشر يقف على الرصيف المحاذي لسور البستان ، يعترض طريق الفلاحين القادمين من الغوطة فيشترى منهم ثمارهم قبل أن يصلوا الى سوق الهال و هو سوق الخضار الرئيسي ؛ و سرعانما تكشف عبد الله الذي كان حتى الأمس القريب يلهو بالتعلق خلف حافلات الترام أو العربات التي تجرها الخيول ، عن تاجر بارع ، و ما لبثت جهوده أن انعكست خيرا على والدته و اخوته . ***** -7- قرع الباب ، أطلت أم محمد فاذا به عبد الله . - من القارع يا أم محمد ؟ سألتها قمر خانم . - عبد الله ( ياخدو الله ) ، أجابتها أم محمد .؟ - الظاهر أنه حن لمهنة الشحاذة ؟ علقت قمر خانم ضاحكة !. - ماذا تريد يا عبد الله ؟ سألته أم محمد بشيء من السخرية ؟ - أحضرت لكم سلة مشمش حموي . - هل أرسلها الأستاذ ؟ - لا .. انها هدية مني للأستاذ ! علقت قمر خانم : - والله فيك الخير يا عبد الله ، قالتها و هي تهز برأسها تعجبا و اعجابا . عندما نزلت أم محمد لتناول السلة ، رجاها عبد الله ألا تلقي بكتب أولاد الاستاذ بالقمامة عند نهاية العام الدراسي الوشيكة ، لأنه يعتزم تعلم القراءة و الكتابة كما و انه يعتزم ارسال اخوته الى المدرسة في العام القادم ! ----------------------- *نزار بهاء الدين الزين سوري مغترب إتحاد كتاب الأنترنيت العرب الموقع : www.FreeArabi.com |
رد: عبد الله - رواية قصيرة - نزار ب. الزين
سلام عليك أستاذنا الكبير وأديبنا الذي نفخر به سواء كان حاضرا أم في المهجر .... وهذه تحية سورية من بلدك الأم ، ومن كل أبناء البلد ... لقد قرأت قصة اجتماعية درامية رائعة ، تعكس بصدق وشفافية واقعنا المعاش المتردي ، والمترهل الى حد يصعب ترميم خدوشه وتشققاته العائلية ، وتمزقاته الاجتماعية بشكل عام. أديبنا الكبير ... لقد فتحت الباب للتساؤلات على مصراعيه ، فهل كان أبو عبدالله هو المخطئ الوحيد بحق أسرته ، أم كان نتاجا لقساوة أبيه وتحكمه الظالم ، أم المذنب هذا المجتمع الذي أقام بين أفراده حاجزا عاليا ، فلا يرى أحد الآخر ولا يهتز له رمش لما يعانيه من مشكلات مهما كانت كبيرة ، إلا أننا في هذه الرواية القصيرة ؛ رأينا نموذجا قد يكون الى حد ما مثالا للمبالاة والاكتراث بالآخر . وقد رأيت في نهاية الابن ( عبدالله ) دعوة صارخة وبيّنة لأن لا نأخذ الأولاد بجريرة آبائهم ، فقد يخرج منهم شيئا مميزا ، ويستطيعون أن يفعلون اللامتوقع منهم ، فيتمكنون من تبييض صفحة أبائهم ـ إن صح القول ـ طبعا .. هذا بعض مما قد يستفاد من هذه الرواية القصيرة البعيدة المرامي ، والدقيقة المعنى . وننتظر منكم ـ نحن بشكل عام ـ المزيد أديبنا الكبير ، وأنتظر منكم أنا ـ بشكل خاص ـ النصوص المتميزة دائما ـ علما أنكم لا تقدمون إلا المميزـ فلي محاولات متواضعة في مجال القصة القصيرة , والكتابة بشكل عام ، فإني أعشق هذا الفن الساحر والهادف والنبيل برسالته ـ إن أردناها أن تكون كذلك ـ ولكم أحرّ التحيات |
رد: عبد الله - رواية قصيرة - نزار ب. الزين
اقتباس:
****** أخي المكرم محمد أنا شخصيا اضع اللوم بالدرجة الأولى على جد عبد الله فقد تصرف بمنتهى الأنانية و منذ البداية و خاصة بعد أن توفيت زوجته و اقترن بأخرى و من حسن الحظ فقد أخرجت هذه البيئة المضطربة – كما تفضلت - مراهقا طموحا تمكن بسرعة من إثبات وجوده و خطا أولى خطواته على طريق تحقيق طموحه *** أخي العزيز أسعدني تفاعلك مع أحداث القصة و إلقاء الضوء على مراميها و ثنائك الدافئ عليها فلك الشكر و الود بلا حد نزار |
الساعة الآن 45 : 05 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية