![]() |
مجموعة أرض البرتقال الحزين.. (4) / ثلاث أوراق من فلسطين ج1
مجموعة أرض البرتقال الحزين.. (4) / ثلاث أوراق من فلسطين ج1 الورقة الأولى "ورقة من الرملة" أوقفونا صفين على طرفي الشارع الذي يصل الرملة بالقدس، وطلبوا منا أن نرفع أيدينا متصالبة في الهواء، وعندما لا حظ أحد الجنود اليهود أن أمي تحرص على وضعي أمامها كي أتقي بظلها شمس تموز، سحبني منها بعنف شديد، وطلب مني أن أقف على ساق واحدة، وأن أصالب ذراعي فوق رأسي في منتصف الشارع الترب.. كنت في التاسعة من عمري يومذاك، ولقد شهدت قبل أربع ساعات فقط كيف دخل اليهود إلى الرملة، وكنت أرى وأنا واقف هناك في منتصف الشارع الرمادي كيف كان اليهود يفتشون عن حلى العجائز والصبايا، وينتزعونها منهن بعنف وشراسة، وكان ثمة مجندات سمراوات يقمن بنفس العملية، ولكن في حماس أشد، وكنت أرى أيضاً كيف كانت أمي تنظر باتجاهي وهي تبكي بصمت، وتمنيت لحظة ذاك لو أستطيع أن أقول لها أنني على ما يرام، وأن الشمس لا تؤثر فيِّ بالشكل الذي تتصوره هي.. كنت أنا من تبقى لها، فأبي قد مات قبل بدء الحوادث بسنة كاملة، وأخي الكبير أخذوه أول ما دخلوا الرملة، لم أكن أعرف بالضبط ماذا كنت أعني بالنسبة لأمي، لكنني الآن أستطيع أن أتصور كيف كانت الأمور ستجري لو أنني لم أكن عندها ساعة وصلت دمشق، لأبيع لها جرائد الصباح وأنا أنادي وأرتجف قرب مواقف الباصات.. لقد بدأت الشمس تذيب صمود النساء والشيوخ.. وارتفعت من هنا وهناك بعض الاحتجاجات اليائسة البائسة، كنت أرى بعض الوجوه التي اعتدت أن أراها في شوارع الرملة الضيقة وتبعث في الآن شعوراً دقيقاً من الأسى، لكنني أبداً لن أستطيع تفسير ذلك الشعور العجيب الذي تملكني، ساعة رأيت مجندة يهودية تعبث ضاحكة بلحية عمي أبي عثمان.. وعمي أبو عثمان ليس عمي بالضبط، ولكنه حلاق الرملة وطبيبها المتواضع، ولقد تعودنا على أن نحبه منذ وعيناه وأن نناديه بعمي احتراماً وتقديراً، كان واقفاً يضم إلى جنبه ابنته الأخيرة، فاطمة، صغيرة سمراء تنظر بعينيها السوداوين الواسعتين إلى اليهودية السمراء.. - ابنتك؟! وهز أبو عثمان رأسه بقلق، ولكن عينيه كانتا تلتمعان بتكهن قاتم عجيب، وببساطة شديدة رفعت اليهودية مدفعها الصغير، وصوبته إلى رأس فاطمة، الصغيرة السمراء ذات العيون السوداء المتعجبة دائماً.. وفي تلك اللحظة، وصل أحد الحراس اليهود في تجواله أمامي، واستلفت نظره الموقف، فوقف حاجباً عني المنظر، ولكنني سمعت ثلاث طلقات متقطعة دقيقة، ثم تيسر لي أن أرى وجه أبي عثمان يتموج بأسى مريع، ونظرت إلى فاطمة، مدلى رأسها إلى الأمام، ونقاط من الدم تتلاحق هابطة خلال شعرها الأسود إلى الأرض البنية الساخنة. وبعد هنيهة، مر أبو عثمان من جانبي، حاملاً على ساعديه الهرمتين جثة فاطمة، الصغيرة السمراء: كان صامتاً جامداً ينظر أمامه بهدوء رهيب، وما لبث أن مر بي غير ناظر إليّ البتة، وراقبت ظهره المنحني وهو يسير بهدوء بين الصفين إلى أول منعطف، وعدت أنظر إلى زوجته جالسة على الأرض ورأسها بين كفيها تبكي بأنين مقطع حزين، وتوجه جندي يهودي نحوها، وأشار لها أن تقف.. ولكن العجوز لم تقف، كانت يائسة إلى آخر حدود اليأس. هذه المرة، استطعت أن أرى بوضوح كل ما حدث، ورأيت بعيني كيف رفسها الجندي بقدمه، وكيف سقطت العجوز على ظهرها ووجهها ينزف دماً، ثم رأيته، بوضوح كبير، يضع فوهة بندقيته في صدرها، ويطلق رصاصة واحدة.. في اللحظة التالية، توجه الجندي ذاته نحوي، وبهدوء شديد طلب مني أن أرفع ساقي التي أنزلتها للأرض دون أن أشعر وعندما رفعت ساقي راضخاً، صفعني مرتين، ومسح ما علق على ظاهر يده من دم فمي، بقميصي، وشعرت بإعياء مدمر لكنني نظرت إلى أمي، هناك بين النساء، رافعة ذراعيها في الهواء كانت تبكي بصمت ولكنها في اللحظة ضحكت من خلال بكائها ضحكة صغيرة دامعة، وشعرت بساقي تلتوي تحت ثقلي، وبألم فظيع يكاد يقطع فخذي، لكنني ضحكت أيضاً، وتمنيت مرة أخرى لو أنني أستطيع أن أركض الى أمي، فأقول لها أنني لم أتألم كثيرًا من الصفعتين، وأنني على ما يرام، وأرجوها باكياً أن لا تبك، وأن تتصرف كما تصرف أبو عثمان قبل هنيهة. وقطع أفكاري مرور أبي عثمان من أمامي عائداً إلى مكانه بعد أن دفن فاطمة، وعندما حاذاني، غير ناظر إليّ البتة، تذكرت أنهم قتلوا زوجته، وأن عليه أن يواجه مصاباً جديداً الآن، وتابعته مشفقاً، خائفاً بعض الشيء، إلى أن وصل إلى مكانه فوقف هنيهة مولياً ظهره المحدودب المبلول بالعرق، لكنني استطعت أن أتصور وجهه: جامداً صامتاً مزروعاً بحبيبات من العرق اللامع، وانحنى أبو عثمان ليحمل على ذراعيه الهرمتين جثة زوجته التي طالما رأيتها متربعة أمام دكانه تنتظر انتهاءه من الغداء كي تعود إلى الدار بالأواني الفارغة، وما لبث أن مر بي، وللمرة الثالثة، لاهثاً لهاثاًَ رفيعاً متواصلا وحبيبات العرق مزروعة في وجهه المغضن، وحاذاني، غير ناظر إليّ البتة، وعدت مرة أخرى أراقب ظهره المنحني المبتل بالعرق وهو يسير الهوينا بين الصفين. لقد كف الناس عن البكاء. وخيم سكون فاجع على النساء والشيوخ.. وبدا كأنما ذكريات أبي عثمان تنخر في عظام الناس بإصرار، هذه الذكريات الصغيرة التي حكاها أبو بعثمان لكل رجال الرملة وهم مستسلمون له على كرسي الحلاقة.. هذه الذكريات التي بنت لنفسها عالماً خاصاً في صدور كل الناس هنا.. هذه الذكريات بدت كأنما تنخر في عظام الناس بإصرار. لقد كان أبو عثمان، كل عمره، رجلاً مسالماً محبوباً، كان يؤمن بكل شيء، وأكثر ما آمن بنفسه، لقد بنى حياته من اللاشيء، فعندما قذفته ثورة جبل النار إلى الرملة كان قد فقد كل شيء، وبدا من جديد: طيباً كأي غرسة خضراء في أرض الرملة الطيبة، وكسب حب الناس ورضا الناس، وعندما بدأت حرب فلسطين الأخيرة، باع كل شيء، واشترى أسلحة كان يوزعها على أقاربه ليقوموا بواجبهم في المعركة، لقد انقلبت دكانه إلى مخزن للمتفجرات والأسلحة، ولم يكن يريد لهذه التضحية أي ثمن، كل ما كان يطلب هو أن يدفن في مقبرة الرملة الجميلة المزروعة بالأشجار الكبيرة، هذا كان كل ما يريده من الناس.. كل رجال الرملة يعرفون أن أبا عثمان لا يريد إلا أن يدفن في مقبرة الرملة عندما يموت. هذه الأشياء الصغيرة هي التي اسكتت الناس، كانت وجوههم المبلولة بالعرق تنوء تحت ثقل هذه الذكرى.. ونظرت على أمي، واقفة هناك، رافعة ذراعيها في الهواء، شادة قوامها كأنها كوم رصاص، وعدت أنظر إلى بعيد، ورأيت أبا عثمان واقفاً أمام حارس يهودي يحادثه ويشير إلى دكانه، وما لبث أن سار وحيدًا باتجاه الدكان، وعاد حاملاً فوطة بيضاء لف بها جثة زوجته.. وتابع طريقه إلى المقبرة. ثم لمحته عائداً من بعيد، بخطواته الثقيلة وظهره المنحني وساعديه الساقطين إلى جبينه بإعياء، واقترب مني بطيئاً كما كان يسير، شيخًا أكثر مما كان، معفراً مغبراً يلهث لهاثاً طويلاً رفيعاً، وعلى صدريته نقاط كثيرة من الدم الممزوج بالتراب.. ولماذا حاذاني، نظر إليّ كأنه يمر بي للمرة الأولى ويراني، واقفاً هناك، في منتصف الشارع تحت سطح شمس تموز المحرقة: معفراً مبلولاً بالعرق، بشفة مجروحة مدلاة تجمد عليها الدم، وأطال النظر وهو يلهث، كانت في عينيه معان كثيرة لم أستطع فهمها لكنني أحسستها وما لبث أن عاد إلى مسيره، بطيئاً مغبراً لاهثاً، فوقف، وأدار وجهه للشارع، ورفع ذراعيه وصالبهما في الهواء. لم يتيسر للناس أن يدفنوا أبا عثمان كما أراد، ذلك أنه عندما ذهب إلى غرفة القائد ليعترف بما يعرف، سمع الناس انفجاراً هائلاً هدم الدار وضاعت أشلاء أبي عثمان بين الأنقاض. وقالوا لأمي، وهي تحملني عبر الجبال إلى الأردن، إن أبا عثمان عندما ذهب إلى دكانه قبل أن يدفن زوجته، لم يرجع بالفوطة البيضاء، فقط. دمشق - 1956 ***** |
رد: مجموعة أرض البرتقال الحزين.. (4) / ثلاث أوراق من فلسطين ج1
وصف الشهيد غسان كنفاني فأتقن الوصف و جعلنا نحس بمعاناة الصبي و الشيخ و المرأة ودموية الصهيونية الوحشية.'
تقديري لمجهودك أ.عبد الله و رحم الله القاص و الكاتب غسان كنفاني. |
رد: مجموعة أرض البرتقال الحزين.. (4) / ثلاث أوراق من فلسطين ج1
هذا سر من أسرار أسلوب الشهيد غسان كنفاني الذي جعل العدو يقلق ويقرر تصفيته .
والقلم سلاح من أعتى الأسلحة للدفاع عن قضية ما . رحم الله الشهيد و كل شهداء الرض المحتلة . بارك الله فيك أخي عبد الله . محبتي . |
رد: مجموعة أرض البرتقال الحزين.. (4) / ثلاث أوراق من فلسطين ج1
هنا تكمن مهارة غسان كنفاني و عبقريته الأدبية في تحريض الجماهير على الثورة و الغليان. شكراً لمرورك الجميل أستاذة نصيرة أحترامي و تقديري |
رد: مجموعة أرض البرتقال الحزين.. (4) / ثلاث أوراق من فلسطين ج1
صدقت أخي رشيد القلم سلاح لا يُقهر فهو رافعة الأمم و مرعب الأعداء. في اليوم المشؤم الذي أمرت به رئيسة وزراء الكيان الصهيوني الغاصب المقبورة "غولدامائير" بأغتيال غسان كنفاني، قالت: خطورة قلم كنفاني توازي خطورة كتيبة مقاتلين من الدرجة الأولى في الصفوف الأمامية لجيش متمرس في الحروب. شكراً لك استاذي العزيز على هذا المرور الجميل |
رد: مجموعة أرض البرتقال الحزين.. (4) / ثلاث أوراق من فلسطين ج1
رحم الله جميع شهداءنا وأسكنهم فسيح الجناان
رحم الله غسان كنفاني وأمثاله من الكتاب اصحاب رسالة سامية وقلم نضالي ثوري ز بوركت أخ عبد الله على طرحك الرائع للمجموعة القصصية جعله في ميزان حسناتك شكرا جزيلا ورووودي وتقديري الخاص |
رد: مجموعة أرض البرتقال الحزين.. (4) / ثلاث أوراق من فلسطين ج1
الأخ العزيز الأستاذ عبد الله الخطيب أشكرك جزيل الشكر لمتابعتك كتابة مجموعة أرض البرتقال الحزين هذه المجموعة الرائعة للأديب والمناضل الرائع والاستثنائي الشهيد غسان كنفاني . وأعتذر عن تأخري بالمشاركة بسبب العمل الجراحي الذي خضعت له إضافة إلى ما أعانيه من الدخول للمنتدى هذه الأيام . بانتظار المزيد من إبداعات الكاتب والأديب الكبير الشهيد غسان كنفاني رحمه الله ورحم شهداءنا الذين رووا أرض فلسطين الحبيبة بدمائهم . لك مني فائق التقدير والاحترام . |
الساعة الآن 53 : 03 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية