منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الدراسات والأبحاث الأدبية والنقدية (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=553)
-   -   إطلالة على ديوان (الغريب وأنا) (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=18459)

محمد توفيق الصواف 11 / 12 / 2010 59 : 01 PM

إطلالة على ديوان (الغريب وأنا)
 
إطلالة على ديوان
(الغريب ..... وأنا)، للشاعر (ماهر رجا)...
محمد توفيق الصواف
جمالٌ دافئ، ينبعث من مفاصل الكلمات، ليسـري في ذائقة المتلقي، كدفء شعاع حنون، في يوم بارد...
جمالٌ تصنعُه مفاجأةٌ إِثر مفاجأة، تتفتَّح بين كل سطر وسطر، لتأخذ مُتابعَها إلى عوالمَ من حلم رقيق، وهو يقرأ في ديوان (الغريب.....وأنا) للشاعر الفلسطيني (ماهر رجا)...
جمالٌ ينبعث من غموض شفاف، يُغلف عبارة في غاية الأناقة، تصوغها موهبةُ شاعر ينبض حرفه ألماً وحباً، ويتوهج حنيناً إلى أرض لم يرَها إلا في كلمات أمه وتلافيف ذاكرتها التي ما تزال عابقة بحبٍّ يفوح من الصورة القارَّة في تلك الذاكرة. صورةٌ ترسمها طبيعةٌ بِكْرٌ، في ريف فلسطيني، كان يعيش أهله آمنين مطمئنين، قبل أن يقتلعَهم الاحتلال من أحضانه الدافئة..
/لأمي الغريبة التي أخفقت في الرجوع إلى أهلها/هنالك بيتٌ وراء التلال على سنبلات ثلاث/وشمس تنام كقط أليفٍ/على حافة البئر قبل الزوالِ/لأمي الغريبة في الذكريات/وقوفُ القرى ذاهلات أمام الغروب الخفيفِ:/هنالك يطير خيال السهوبِ/إلى الغيم مستسلماً لشحوب طفيفٍ/هنالك سقوط الثرياتِ/من ثمر الهمس فوق الدروبِ/هنالك صفصافةٌ كالخرافة واقفةٌ/في طريق القبورِ/ويعدو نباح الكلابِ/وراء خيوط الشمس الأخيرةْ../...
في (الغريب.....وأنا)، دفقةٌ شعورية بالغة الحساسية، متموجة بجمالية لا عيب فيها إلا أنها ترفض مغادرتك بعد أن تطوي الديوان منتهياً من قراءة قصائده، كتلك التي يحكي فيها عن غرابة الشهداء وغربتهم تحت عنوان (في غرابتهم.... وحدهم):
عندما استُشهِدوا/كلُّهم هبطوا من مَمَرِّ الحياة معاً/فخورين مثلَ انهمار مياهِ الشواهقِ/فوق الصخورْ/ ومثلَ التقاءِ الحمائمِ في حُزَمِ الرَّفْرَفَاتِ/لتهوي كرمحٍ من الريشِ/في سطح بيتِ الجناحِ الأخيرْ/وكان الغروبُ يراقبُهم/ هامساً:/أَتُراهم يميلون حقّاً إلى الأرضِ/أمْ أنَّ أرضاً إليهم تطيرْ؟!/
إنه فن ينبض دهشة.... يطلع علينا بعد طُولِ سنين عجاف، لم تَجُدْ فيها مواهبُ معظم الشعراء العرب إلا بكثير هذرٍ يغثُّ النفس، أو بغموضٍ مُبهَمٍ يُضَيِّعُ وقتَ القارئ ردحاً من فراغ، ليُلقي به، في ختام المطاف، في غَيَابِةِ جُبٍّ من ضباب فني ومعرفي، حتى كاد سوادُ العرب المعاصرين يَعزِفُون عن مطالعة الشعر غير آسفين، ويهجرون عوالمه إلى غير رجعة.
أمَّا في (الغريب.....وأنا)، فثمة عالمٌ آخر، وفن آخر... فماهر فلسطيني تُنبئك كلمات قصائده بأنه مسكونٌ بحبٍّ مترامي الأشواق لأرضِ وطنٍ ما رآه إلا مغتصباً... وكأن ذلك الحبَّ غدا طاقةً خلّاقة لتحريك الجمال في عباراتٍ مؤثرة مُصاغَة في جمل قصيرة غالباً، تتتالى تماماً كدفقات الدم في قلبِ عاشق ينتظر موعداً مع الحبيبة. وثمة اختيارٌ للمفردة الموحية القادرة على صنع مفاجأة الدلالة، في الصور الشعرية.
/منذ زمانٍ/ثمةَ آخرُ أغربُ مني/يسكنُ أرضَ أنايَ/ يخرجُ من جسدي ليراني/يُقبِلُ حتى يُصبحَ أبعدَ/ يذهبُ كي أبصرَه أقربَ/ بين ضباب العين وبيني/ويعاتبني حين أكونُ "أنا"/الآمنَ والمكسوَّ بريشِ الهدأةِ/ في أوقات هروبِ الكوكبِ/ من أفلاكِ رؤاي/.
إنها محاولة لإبقاء جزئيات الصورة مستقلة، كل واحدة بذاتها، مع امتلاكها، وفي ذات الوقت، إمكانية القدرة على التواصل مع بعضها، على نحو يصنع من مجموعها كلاً متجانساً، ينبض بالغرابة دون أن يتردَّى في مهاوي الغموض والإبهام.
/نزلَ الليلُ إلى الشارع/من غيمٍ على المبنى.. وسارا/كان في الموكبِ يمشـي/قربَ أسماء كثيرة/كلُّهم كانوا تماثيلَ مياه:/رجل يسأل من أيِّ شتاءٍ/سوف يأتي الصيفُ لو سرنا دهورا؟!/وفتاةٌ خرجَتْ من بيتها ذات مساء/والتقتْ في المظلاتِ غريباً وغريباً/ثم عادتْ بعد عُمْر/فرأتْ أثوابَها الأولى غبارا/وجنودٌ في محطات الرحيل/قدَّموا الأمطارَ باقاتِ ورودٍ/لنساءٍ باكياتٍ/في الوداعات الأخيرة/....
إنه عمل يحتاج إلى الكثير من التحليل، لأنه نتاج تجربة متميزة في فنٍّ لم يَعُدْ ذا جاذبية، بعد أن أفقدَتْه جاذبيَّتَه النماذجُ الرديئةُ التي أَغْرَقَنَا بها فاقدو الشاعرية. أما هذه العجالة عن ذلك العمل، فليست أكثر من دعوة لقراءته، ومدخل لتحليله.. وهو مدخل أرجو أن أَلِجَهُ قريباً آملاً أن أخرج منه برسالة مفصَّلة تحكي خيوطَ أضمومة من القصائد التي تتشكل في مخيلة القارئ متعةً تأبى التلاشي، وفي وجدانه ذاكرةً تأبى الإِمِّحَاءَ والمغادرة إلى عوالم النسيان. وما ذلك إلا لأن هذه القصائد تحكي تجربةً نابضةً بالصدق، صاغها عاشقٌ لوطنٍ احتلَّه الغرباءُ يوماً، ففرقوا بين تربته وأبنائه، بين ذكرياتهم فيه وإمكانيات استعادة تلك الذكريات على أرض واقعٍ قريب.
أخيراً، وبعبارة موجزة جداً: الديوان إعلانٌ عن شاعر فلسطيني يحاول أن تكون لقصيدته قامةَ قضيته، ولكلمته عنفوانَ إيمانه بهذه القضية، ولكن دون شعاراتية أو ضجيج أو بهلوانيات لغوية وأسلوبية، بل بتواضعٍ شامخٍ كتواضع الشهداء الذين لا تكمن غرابتُهم في /أنهم ينزفون دماً إِنْ أُصيبَ سواهم/ فحسب، كما يصفهم ماهر رجا، بل تكمنُ أيضاً، في قدرتهم على المشيِّ في الجنازة بين الجموع، وهم/يعتذرون لمن لا يُطيقُ رؤاهم/، وكذلك في أنهم /فتيةٌ كتموا حبَّهم للحياةِ/ومرَّتْ هوادجُها، في الزفافِ إلى غيرهم/من حقولِ دِمَاهُم/...
وأخيراً، لعلي لا أجانب الصواب، لو زعمت أن أفضل ما يمكن أن يُمدَح به ماهر رجا، هو أنه شاعرٌ تستطيع قراءة ما كتبه بفرح ومتعة، وتستطيع اختزان كلماته في ذاكرتك دون عناء.. فما أصعبَ أن تكتبَ، ولكن الأصعبَ أن تُؤَثِّر فيمن تكتبُ لهم، والأكثر صعوبة أن تَضْمَنَ لتأثيرِكَ هذا أن يدوم ثم أن يتحوَّل إلى فعل ملموس على أرض الواقع.
قد يكون من جميل الشعر ورائعه ما يكتبه الشاعر تعبيراً عن أناه، لكن لا يدخل الشعر فضاءَ الخلود إلا إذا استطاعَ الشاعر أن ينسى أناه، ثم يغادرها، لِيُعَبِّرَ عمَّا ينبضُ في قلوب الناس ويتوقون لصياغته شعراً، ولا يَقْدِرُون. فالدخول في عوالمِ تَوْقِ الآخرين إلى التعبير عن آلامهم وأفراحهم..، عن معاناتهم...، عن تطلعاتهم..، عن رغبتهم في حبس دقائق الزمن في حروف عبارة جميلة..، عن تمنِّيهم الاحتفاظ بدموعهم وما حرَّضَها على الانهمار من انفعالات، في كلماتٍ تُستعادُ كلما رَقَّتْ قلوبُهم..، كلُّ ذلك هو المستحيل الذي لا يستطيع جعله ممكناً إلا شاعرٌ تركَ ذاتَه تذوبُ في ذوات الآخرين حبّاً، وتركَ لسانَه مُلكاً لكلِّ من أرادَ أن يُعبِّر عن تجربته، وتركَ كلماتِه تفيضُ بما يتمنَّى البسطاءُ أن تفيضَ به ألسنتُهم من مشاعر، في كل اللحظات..

عزة عامر 05 / 10 / 2016 35 : 05 AM

رد: إطلالة على ديوان (الغريب وأنا)
 
أستاذي الجليل .محمد توفيق الصواف.. إرتقت بي الكلمات إلى عنان السماء ..شعرا ..وتحليلا.. لكأنكما..نبضتان متلاحقتان ..نبضة تغزل حريرة عشق وطنية ونبضة أخرى تليها.. تنسج أثوابا مزرعة باللآلئ ..وجواهر الحب الألماسية .. لتعكس بريق ذلك الحب .. وتنثره أمام أعيننا ..ليخرج لنا كل ذلك الجمال مرئيا مبهرا.. أبدعت بالتحليل..كما أحسنت الإختيار..فشكرا لك .ودمت بكل خير.. كل التحية والتقدير .

محمد توفيق الصواف 05 / 10 / 2016 47 : 10 PM

رد: إطلالة على ديوان (الغريب وأنا)
 
[align=justify]شكراً لك أنتِ يا عزة على إعادة هذا النصِّ النقدي القديم إلى واجهة العرض من جديد..
هو نصٌّ مكتوب بمحبة فعلاً، كما وصفتِه، لأنَّه يستحق المحبة والإعجاب معاً، وأتمنى لو قرأتِ كامل هذا الديوان الجميل..
ورحمَ الله أخي طلعت، فقد كان دائم التشجيع للأخ ماهر على العطاء والتطور..
محبتي وتقديري.. [/align]

عزة عامر 06 / 10 / 2016 09 : 04 AM

رد: إطلالة على ديوان (الغريب وأنا)
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد توفيق الصواف (المشاركة 218884)
[align=justify]شكراً لك أنتِ يا عزة على إعادة هذا النصِّ النقدي القديم إلى واجهة العرض من جديد..
هو نصٌّ مكتوب بمحبة فعلاً، كما وصفتِه، لأنَّه يستحق المحبة والإعجاب معاً، وأتمنى لو قرأتِ كامل هذا الديوان الجميل..
ورحمَ الله أخي طلعت، فقد كان دائم التشجيع للأخ ماهر على العطاء والتطور..
محبتي وتقديري.. [/align]

أعدك بإذن الله.. سأبحث عنه.. وريثما أجده سأقوم بقرأته كاملا... كل التحية.. والتقدير ..والإحترام.

محمد الصالح الجزائري 06 / 10 / 2016 20 : 05 AM

رد: إطلالة على ديوان (الغريب وأنا)
 
[align=justify]..أما أنا فقد وجدتُ في سياحتك العذبة هذه ما جعلني أستريح لمشرطك (ابتسامة) ، والسبب بسيط..تعاملك مع الشعر مختلف تماما..حتى أنني أجدك مع الشعر ألين وألطف ، ألأنك تختبئ جذوة شاعر !!؟ أمتعتني يا صاحبي أيما إمتاع..قراتُ الديوان من قبل ، وقرأتُ ما كُتب حوله لأقلام عديدة..غير أنّ ما ذهبتض إليه في قراءتك مدهش حقا ودون مجاملة ، وأنرتَ جوانب خفية من شعر ( ) ..فشكرا لك أخي الأكبر الدكتور الصواف..
همسة صديق: جاء في الفقرة الثانية نقلك للأبيات (وراء خيوط الشمس الأخيرةْ../...) والأصل:وراء خيوط الشموس الأخيرةْ.
وللأخت الأديبة عزة رابط تحميل الديوان:
http://www.goodreads.com/ebooks/download/18934260
[/align]

عزة عامر 06 / 10 / 2016 44 : 05 AM

رد: إطلالة على ديوان (الغريب وأنا)
 
كل الشكر.. والتقدير .. لجهودك أستاذنا النبيل .محمد الصالح الجزائري.


الساعة الآن 27 : 04 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية