منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   قصص قصيرة (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=554)
-   -   الخوف (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=18953)

محمد توفيق الصواف 29 / 01 / 2011 53 : 11 AM

الخوف
 
الخوف
قصة قصيرة
محمد توفيق الصواف

خمسون سنة قضاها على ظهر هذا الكوكب وهو أسير مخاوفه الكثيرة والمختلفة.. يحاول أن يهرب منها دون جدوى، يحاول أن يقلل من سيطرتها عليه دون جدوى.... وكانت النتيجة أن مرت الخمسون وهو واقف مكانه لا يبرحه، مكبلاً بخوفه الذي ظل يلازمه كظله. يرى من يظنهم أدنى منه يتجاوزونه بسهولة، والغيظ والحسد يأكلان قلبه، دون أن يبدي أي اعتراض، خشية أن يكون من تجاوزوه، ظلماً وافتراء، من المدعومين أو من أبناء الجاه والمال، فيحدث له ما لا تُحمد عقباه.. لكن... ها هي لحظة النهاية التي يخافها أكثر من أي شيء آخر في حياته، قد حانت، فماذا تراه فاعلاً؟..
كان جالساً في غرفته وحيداً يستعرض حياته التافهة النابضة بالخوف، حين سمع طرقاً خفيفاً على باب حجرته.. خاف أن يكون الطارق مخلوقاً جاء يسبب له مشكلة، فقرر أن لا يفتح الباب.. وهكذا مرت برهة، قبل أن يُفاجأ بالباب يُفتح من تلقائه، ثم يغلق، ثم إذا به أمام مخلوق هائل الحجم، مرعب الوجه والملامح، يقول له بصوت أصم آمر:
ـ هيَّا.. عليك أن تذهب معي الآن..
صُعق.. وبسرعة البرق، راح يفكر بما صنع في الفترة الأخيرة.. إنه لم يخرج من غرفته، ولم يكلم أحداً، ولم يؤذ أحداً، فلماذا جاء هذا المخلوق ليأخذه، وإلى أين سيأخذه؟
-من أنت؟ ولماذا؟
-أنا ملك الموت.. وقد جئت إليك لأن دورك قد حان في الرحيل عن هذه الدنيا..
-ولكن؟
-لدي أوامر صريحة وواضحة، ولا أستطيع أن أؤخرك لحظة واحدة..
-وإلى أين ستأخذني؟
-إلى عالم الآخرة طبعاً. أم تظنني سآخذك إلى حديقة الهايد بارك.
-لكن.. أرجوك إذا لم يكن من ذهابي بدّ، فدعني.. دعني يا سيدي، أقم بكل ما لم أجرؤ على القيام به في حياتي..
-غير ممكن..
-ساعتان فقط، أرجوك..
-مع أن طلبك غير ممكن، فقد أثرتَ فضولي بهذا الطلب، فلماذا ساعتان فقط؟
-هل تعدني بأن تتوسط لي بقبول طلبي، إن أنا أجبتك؟
-لا
-أرجوك، جرِّب على الأقل..
-حسناً.. أجرب ولكن دون وعد.
-اتفقنا..
-أخبرني إذن.
-أريد أن أتكلم طيلة الساعتين اللتين يمكن أن يُمنحَا لي فوق عمري الذي انتهى الآن.
-تتكلم؟ وماذا تريد أن تقول؟
-هوه.. لدي كلام كثير لا أنتهي من قوله بسنة، ولكن سأوجزه في ساعتين..
-حسناً، ولكن أعطني مثالاً واحداً على ما تريد قوله، في الوقت الإضافي الذي تطلبه فوق عمرك.
-نعم، حباً وكرامة.. أريد يا سيدي أن أخرج من البيت، الآن، وفوراً، لأمشي في شوارع المدينة وأنا أصرخ، بملء حنجرتي:
إن كرامة أي وطن في العالم، من كرامة مواطنيه.. وعزُّه تَبَعٌ لشعورهم بالعزة فيه لا خارجه.. وحريته الحقيقية هي ثمرة ممارستهم لحريتهم فوق أرضه دون خوف، وإلا فهو ليس وطناً لهم بل سجناً كبيراً.. وإذا استحال الوطن سجناً صار مجرد أرض من السهل على أيٍّ كان استباحتها، لأن من يعيشون فوقها عبيد، والعبد ذليل، وليس للذليل، في أرضٍ، ما يحفزه للحرب دفاعاً عنها، وإذا أُكره على الخروج إلى الحرب لا ينتصر...
-ولكن كيف يصير المواطن عبداً في وطنه؟
-عندما يُحرم حقه الطبيعي في التعبير عن رأيه بحرية، ويُمنَع بالقوة والبطش، من انتقاد ظالميه وسارقيه ومضطهديه ومحاسبتهم.. عندها يبدأ رحلة التحول إلى العبودية مكرهاً... وهي رحلة عجيبة تبدأ بالخوف، ثم يلي الخوف صمت مثقل بالعجز، ثم تبدأ مرحلة الصمت المبركن بالكراهية والحقد، ومع الإحساس باليأس من كسر يدِّ الظالم، يدخل المظلوم اليائس مرحلة النفاق، فتراه يبتسم لجلاده وهو يلعنه في سره، ويركع له متزلفاً متملقاً، وهو يدعو عليه بالموت، ثم يُقبِّل يده متصنعاً الخشوع، مطلقاً للسانه العنان في تدبيج المدائح بينما، هو في سره، يدعو على اليد التي يُقبلها بالكسر.
-وماذا بعد ذلك؟
-يبدأ بعيش فلسفة العجز واقعاً...
-وماذا تقصد بفلسفة العجز؟ أقصد ماذا تتضمن هذه الفلسفة؟
-بكلمة واحدة، هي فلسفة اللامبالاة التي صارت تسيطر على عقول معظم العبيد المعاصرين.. إنها يا سيدي، فلسفة الذل والخنوع والرضا بالقهر والاضطهاد دون إبداء أي مقاومة أو رفض.. فلسفة تُلخصها أمثال وأقوال صارت تُشكل كتاب تعاليمنا المعاصر، على غرار: (ما دَخَلْنا)، (امشِ الحيط الحيط وقل يا ربِّ الستر)، (فخار يكسِّر بعضه)، (اليد التي لا تقدر عليها قبلِّها وادعُ عليها بالكسر)، و(إذا كان لك حاجة عند الكلب، قل له: يا حج كلب)، لأن (العين لا تُقاوم مخرزاً)، و(الباب الذي يأتيك منه الريح سدَّه واسترحْ)، و(الولد الذي ليس من ظهرك، كل ما جن افرحْ له)، و(اربط الحمار مطرح ما يقول لك صاحبه)، و(الأرض الواطئة تشرب ماءها وماء غيرها)، و(حلال على الشاطر)، و(إذا شفت الأعمى طبه ما لك أرحم من ربه).. وهي أقوال يُلخصها كلها مثل مريع في معناه يقول: (كل من أخذ أمي صار عمي)..
-وأنت ضد هذه الفلسفة ومضمونها؟
-بالتأكيد.. وطالما أن رحلة حياتي قد انتهت، فدعني أَقُلْ، ولو لمرة واحدة: لقد كرهتُ طوال عمري عيشة أكل الهوا هذه التي عشتها، وما يزال غيري من العرب يعيشونها مجردين من أي حول وقوة، وكأنهم ليسوا آدميين، بل مجرد أرقام لا قيمة لها، أو كائنات تافهة ليس لها أي حقوق.. وإذا همسوا متذمرين، مجرد همس، ضاعوا في غياهب السجون والمعتقلات، في بلادهم أو خارجها، بحجة أنهم إرهابيون، أولاد ستين كلب...
-حسناً.. وماذا تكره أيضاً؟
-ماذا أكره؟ هوه.. هناك الكثير الكثير مما أكرهه..
-اذكر لي بعض هذا الكثير، على سبيل المثال، فأنا أجهل مثل هذه الأمور لعدم اهتمامي بالسياسة، بسبب مشاغلي التي لا تنتهي من جهة، وبسبب كوني ملاكاً، لا بشراً مثلكم، من جهة أخرى..
-حسناً يا سيدي.. لأنني عربي أحبُّ الله وجميع أنبيائه، وأحب وطني، فمن البديهي أن تجدني أكره إسرائيل ومن والاها من عرب وأجانب.. وأكره عصر الذل العربي الذي ولدتُ وعشتُ فيه، بقدر ما أكره فقري وضعفي اللذين لازماني منذ خُلقت.. أكره وساطة الأقوياء وإذلالهم لي ولأمثالي من عباد الله، بجاههم وأموالهم وقوتهم، وأكره أكثر ضحكهم على ذقوننا تحت ما لا يُحصى من شعارات براقة منسوجة بالزيف والرياء، وملونة بالنفاق والكذب..
-هل هذا كل ما تكره؟
-لا هناك الكثير غيره أيضاً، ولكن أفضل البوح به علناً، وعلى رؤوس الأشهاد..
ضحك ملك الموت بصوت عال، حتى بانت نواجذه الرهيبة، وهو الذي لم يضحك مرة واحدة في حياته، منذ أن خُلِق، فتوقف محدثه عن الكلام مستغرباً وسأله:
-لماذا تضحك يا سيدي؟
-هل تظن أن أحداً من الناس الذين تريد إسماعهم كلامك هذا، سينصت لك، وإذا أنصت دون أن يتهمك بالجنون، أتظنه سيتأثر بكلمة واحدة مما ستقوله؟
-في الواقع، لا! وحتى لو تأثر فعلاً، فسيخفي تأثره ويتظاهر بأنه ضد ما أقول، كيلا يطير رأسه، أو يقبع في سجن مظلم، أو يفقد ابناً أو منصباً أو يداً أو رجلاً أو عيناً..
-إذن لماذا تريد قولَ ما أسمعتني من هراء؟
-لأفشَّ قلبي، ولو لمرة واحدة، ولأعتبر نفسي إنساناً يتمتع بكامل حريته، ويحق له أن يقول ما يريد.. أن يقول للأعور أعور بعينه، حتى ولو كان هذا الأعور فلاناً ذا الشأن أو السلطة أو المال، دون خوف من أن يلعن هذا الفلان، أياً كان، جد جدي.
تقلصت الضحكة على شفتي ملك الموت وتكرمشت، قبل أن يسأل محدثه:
-وهل تظن أن الذين تنوي التجرؤ على مقاماتهم لن يفعلوا لك شيئاً إن أنت قلت هذا الكلام بحقهم؟
صمت الرجل لحظة، حكَّ فيها ذقنه مفكراً، قبل أن يقول:
-أعلم يا سيدي أنهم لن يرحموني، بل سيسارعون إلى اعتقالي، ليقصفوا رقبتي ورقبة الذين خلفوني، لكنني لن أهتم هذه المرة، أتعرف لماذا؟
-لا..
-لأني موقن أنني سأموت بعد ساعتين، وأن لا فائدة لهم من سجني وتعذيبي، وبهذا أزيد في غيظهم مني أكثر.
-هل أنت مجنون؟
-كلا.
-إذن، تفضل معي إلى قسم التحقيق، فأنا أحد زبانيته ولست ملك الموت، وإن كنت أشبهه إلى حد كبير كما ترى. لقد كنا نراقبك ونرصد نواياك الخبيثة هذه، منذ زمن طويل، عن طريق آلاتنا المتطورة جداً، فعرفنا ما يدور بخلدك ضدنا، ولذا قررنا القبض عليك بهذه الطريقة، ليكون بيدنا دليل ملموس ضدك، يؤكد أنك إرهابي بن إرهابي، وهكذا، نستطيع أن ندينك من فمك، فإذا ما ساءلتنا إحدى منظمات حقوق الإنسان عن سبب اعتقالك وتعذيبك، قدمنا لها عذرنا الذي سيكون عنوانه عداوتك لإسرائيل وعملائها، وبهذا نضمن أنها لن تستطيع اتهامنا بمعاداة حقوق الإنسان والاعتداء عليها.

عزة عامر 28 / 09 / 2016 49 : 02 AM

رد: الخوف
 
أخذ فرصة عظيمة في التعبير عما يدور بخلده !! لم يأخذها سواه.. من الذين تلفق لهم التهم ..والبلايا..ويمضون على ..إعترافاتهم الغير معترفة ..مقرين بكامل وعيهم ..أنهم أصحابها..إلى هذه الدرجة ! تمارس وحشية الكبت.. والقمع !! من أبناء القردة والخنازير ..على حفدة الأنبياء والرسل !! ما بقي سوى إجراء تحليل دم لكل عربي.. بمحاليل خاصة تكشف عن مشاعر الكراهيه نحو إسرائيل من قبل العرب..ونسبتها المئوية في الدم ..وكل يحاسب ..ويلق من التعذيب بقدر النسبة المئوية التي تكشف عنها نتيجة التحليل .. شكرا لك.. أستاذنا الفاضل ..دمج الواقع بالخيال بتلك الصورة الرائعة ..بسلاسة ..وبراعة قلمك.. نقلتني من هذا إلى ذاك ..من ملك الموت رسول السماء ..ببراءة إنصاته..إلى ملك الهلاك طاغية الأرض . بخبث فخه ..الذي أوقع به المقهور أعلاه ..دون شعور وبكل إقناع..
تحيتي..ووافر تقديري لإبداعك.

محمد الصالح الجزائري 28 / 09 / 2016 26 : 03 AM

رد: الخوف
 
[align=justify]الأستاذة عزّة تقدّمت الرّكب..ننتظر البقية !! ولي عودة إن شاء الله ..لقد بدأ الخوف يزول تدريجيا (ابتسامة)..[/align]

Arouba Shankan 28 / 09 / 2016 37 : 10 PM

رد: الخوف
 
كسر الخوف.. أمانة في يدنا.. تكلموا.. كأنكم ستموتون بعد لحظات
وإن طرق ملك الموت بابكم.. لا تفتحوا.. إنه خبير بالمرور من نوافذ الروح

تحيتي لمُبدع الفكرة

محمد توفيق الصواف 29 / 09 / 2016 46 : 12 AM

رد: الخوف
 
[align=justify]الابنة الغالية عزة..
كم يروق لي أن يشهد انفعالُك هذا البادي في تعليقك على القصة، بأنَّ مضمونها قد وصلَ إليك، وأثَّر فيك..
شكراً لمرورك، وشكراً لانفعالك..
وأتمنى لو أرى أثراً لمشرطك النقدي في قصصي.. تَدَرَّبي على استخدامه في نصوصي ولا تخافي..، لأنَّني لا أزعل.. (ابتسامة)..
محبتي وتحياتي...[/align]

محمد توفيق الصواف 29 / 09 / 2016 47 : 12 AM

رد: الخوف
 
[align=justify]أخي الصالح..
أسعد الله أوقاتك..
أنتظر عودتك مع غيري من المنتظرين، فلا تتأخر علينا..
دمتَ بخير..[/align]

محمد توفيق الصواف 29 / 09 / 2016 53 : 12 AM

رد: الخوف
 
[align=justify]تحيتي لك أستاذة عروبة.. وأسعد الله أوقاتك..
كم أسعد بقراءة تعليقاتك على نصوصي وغيرها مما يُنشَر في الموقع.. لأنَّك مُفاجِئة في إبداعك، سواء أبدعتِ نصاً أدبياً أو عَلَّقْتِ على نصٍّ لغيرك..
وبصراحة..، أحزنُ حين لا أجدُ لكِ تعليقاً على نصٍّ نشرتُه...
محبتي وتقديري..[/align]


الساعة الآن 40 : 05 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية