![]() |
النحاتة الفلسطينية منى السعودي
النحاتة الفلسطينية منى السعودي
.. تحول قطع الرخام الصماء إلى مخلوقات تسافر في دمنا بأناقة و رفق .. فتحي صـــالح E.Mail : <font color="red"> ( تم حذف البريد ل...نتدى ) </font> تجربة الفنانة منى السعودي لها أهمية خاصة من حيث أنها المرأة العربية الوحيدة التي اختارت النحت المباشر على الحجر كخط أساسي لإنتاجها الإبداعي بعيداً عن التشكيلات بالطين و صب القوالب .. ليس بالحجم الصغير أو العادي فحسب ، و إنما كنصب بأحجام كبيرة ، و من حيث أنها من النساء القلائل اللواتي وصلن إلى مرحلة الريادة في الفن ... و قد مرت تجربتها بمراحل تطورت تباعاً ، فكانت الكتلة النحتية لديها في البدايات تعبيرية واضحة الملامح ، نستشف من خلالها حركة العناصر و تفاصيلها العامة ، ثم بدأت تتطور باتجاه تعبيرية تجريدية ، إلى تجريدية هندسية ، الأمر الذي شكل بعداً جديداً سيطر فيه عالمها الداخلي بما يحتويه من دافعية و إحساس تجاه التداعيات الفكرية المجردة لكن بهندسة روحية طورتها التجربة و الخبرة و التقانة و الثقافة و القلب المتبصر .. في أواخر القرن التاسع عشر عندما هاجرت عائلتها - الفلسطينية الأصل - من دمشق إليها كانت العاصمة الأردنية عمّان ما تزال مدينة صغيرة بين مجموعة من الينابيع المائية المتفجرة في مواقع أثرية و جبال تحتضن الكثير من الكهوف الطبيعية التي يقطنها الرعاة . سكنت عائلات الأب و الأعمام منزلاً واسعاً يبعد حوالي المئة متر عن أطلال المدرج الروماني و قلعة عمان الرابضة بقاياها فوق تل مرتفع .. في العام 1945 ولدت الفنانة منى السعودي لتكبر و تترعرع في عالم ساحر من التماثيل و الأعمدة المنقوشة و بقايا الآثار المترامية ، الخالدة ، شعرت أن هذه الأوابد حية دافئة فصادقتها و منحتها حبها و مشاعرها الطفولية النبيلة ، بدأت تنمو بداخلها أحلام و رؤى عظيمة لم تدرك أنها يوماً ستقودها إلى أن تغامر في عالم الإبداع الفني لتصبح من أبرز النحاتين العرب ، و تمد شهرتها إلى العالم .. لقد ساعدها شقيقها فتحي الذي كان زوادتها الثقافية و هي لا تزال طفلة في التعرف إلى جلجامش ، و إلى الكثير من المفاصل الثقافية في التاريخ الإنساني .. توفي و هي عند العاشرة ، نظرت إلى وجهه للمرة الأخيرة فرأته يبتسم و هو يغط في نومه الأبدي فأدركت – أن الموت تحول و ليس فاجعة - .. تجولت بين الآثار و هي تقرأ الشعر الذي يسمو بها إلى آفاق جديدة و رحبة ، تشحن رغبتها في تجسيد أحلامها و خواطرها في أشكال مجسمة ، فعلت ذلك مرة تلو الأخرى مستخدمة الجص في تكويناتها لرؤوس بشرية ، عدم الخبرة أعاقها .. فبدأت مغامرتها الأولى لاكتساب التقنيات الفنية حين التحقت بمحترف الفنان - مهنا الدّرة - سراً كون والدها محافظاً .. كانت قد أنهت مرحلة الدراسة الثانوية عندما اتسع شغفها الفني و لم تجد في عمّان ما يلبي هذا الشغف و هذا الولع ، تحت رغبتها الجامحة ، و دون علم والدها حملت رسوماتها و سافرت إلى بيروت حيث يعيش أخوها الكبير - هاني – الذي تفهمها و ساندها .. في مقهى الصحافة في بيروت تعرفت إلى مجموعة من المثقفين المبدعين منهم يوسف الخال ، أنسي الحاج ، أدونيس ، بول غيراغوسيان .. فأصبحوا أصدقاء مقربين و شكلوا لها حافزاً و دافعاً إضافياً على مواصلة مغامراتها في طريق الفن و الإبداع .. فما كان منها إلاّ أن حملت حقائبها و سافرت إلى باريس .. أخذت نماذجاً من رسوماتها و توجهت إلى المدرسة العليا للفنون الجميلة ، في البدء تم قبولها كطالبة حرة ، و بعد عدة أشهر أصبحت طالبة رسمية بعد أن نجحت في المسابقة الرسمية التي تقدمت لها و كان ترتيبها الرابع .. في باريس عالم آخر ، نقلة جديدة ، حيث الفن و الحدائق و صالات الفنون و متحف اللوفر الذي يظم أعظم تراثنا من المنحوتات النبطية و السومرية و الفرعونية .. في مدرسة الفنون العليا تعلمت الفنانة منى التشريح و مبادئ الرسم ، لكن في محترف الفنان – كولاماريني – كانت البداية مع النحت حيث أنتجت أول منحوتة حقيقية لها عام 1965 أسمتها ( أمومة الأرض ) ... لم تتسع باريس لطموحاتها و رغبتها في اكتشاف عوالم النحت و تقنياته ، سافرت هذه المرة إلى إيطاليا بلد الفنان العالمي – ميكل آنجلو - نحات النهضة الفنية في القرن الخامس عشر ، قصدت مقالع / كرارا - أفضل الرخام الإيطالي / حيث أبدع آنجلو منحوتاته الخالدة .. تعلمت هناك أسرار استعمال الأزاميل ، و المطرقة الهوائية ، و صقل الرخام ، و تركيب المنحوتات ، و ربطها بالروافع الآلية ، و حملها ... كما أنها تعرفت إلى العديد من النحاتين الذين يقصدون مقالع كرارا من مختلف أنحاء العالم .. كانت باريس متفجرة بأحداث الثورة الطلابية عندما عادت إليها و قد تعمقت ثقافتها و نضج وعيها السياسي ، بدأت تتلمس لفنها هويته الوطنية مما دفعها إلى العودة إلى الأردن مجدداً بتشجيع من الفنان التشيلي / مات / فعملت مع أطفال المخيمات الفلسطينية و أصدرت عام 1968 كتاباً بعنوان ( شهادة الأطفال في زمن الحرب ) ، لكن سرعان ما غادرت إلى بيروت لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها الفنية فأقامت المعارض المتتالية .. و تابعت عملها في دعم المقاومة الفلسطينية من خلال إدارتها لقسم الفنون التشكيلية في الإعلام الموحد لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1977 .. الفنانة منى السعودي التي أقامت معارض و لها أعمال منتشرة في أنحاء العالم ، و لها نصب تذكارية ضخمة في باريس و بيروت ، و التي جُمعت أعمالها في متاحف واشنطن و باريس عادت إلى الأردن في العام 1983 بعد أن نالت شهرة عربية و عالمية ، و هي تحلم بأن تملأ منحوتاتها ساحات و شوارع العاصمة ، نصبين أو ثلاثة هو ما تحقق من حلمها لكنها لم تيأس و ظلت تنجز عشرات التماثيل الصغيرة كمشاريع لمنحوتات كبيرة .. تستطيع الفنانة من خلال تطويعها للرخام و كأنه قطعة من الحرير تغزلها برفق و إحساس مفعم بالعذوبة ، أن تظهر الحياة بعفويتها و بساطتها ، و طبيعتها البكر بتعبيرية يتماوج فيها الرخام كتماوج الحرير .. الإمكانية المدهشة لتليين الخطوط في تكويناتها التي يتماهى فيها الموضوع بطاقة خلاقة يبرر موسيقى الجسد البشري المتحور بتماوجات تندغم في كثير من الأحيان بالعلاقات ذات الطبيعة الانسجامية في المتحولات المتخلقة من حالة إبداعية مرتكزة على الذخيرة الغنية للفكر الذي نعاينه من خلال مجموعات بصرية تتمايز بقيمتها الحسية و الإنسانية ، لذلك نشعر و نحن نراقب أعمالها بالانبعاثات الروحانية من قطع الرخام تلك التي لم تعد صماء بعد أن حولتها إلى مخلوقات تسافر في دمنا بأناقة و رفق ... إن استخدامها لأنواع مختلفة من الرخام – الحجر – و بألوان مختلفة جعلها تبتكر فلسفة جمالية خاصة من خلال خلق التناغم بين المادة و الكتلة و اللون .. و من خلال هذه العلاقات التكاملية أنشأت ركيزة أساسية لعملها ، و فعّلت المقومات الأصيلة للحالة الإبداعية ، بعد أن كشفت عن الحضور الأنثوي في حلبة الترويض للحجر المعاند الذي جعلت منه حريراً مطواعاً ، فأصبحت قامة . لقد جعلت من الحجر صفحة بصرية تعكس إشراقة التعبير بإيجابياته المحاكة بلذة الإبداع ، و توحي بالانعتاق من الضوابط الخرقاء للآليات التقليدية التي تحاصر الفكر الخلاق .. الأرض و الإنسان ، ثنائية تتلازم و ترتكز إلى عنصر ثالث – خامة – تمنحها التوازن المنعتق ، و بتفاعل ينبع من القلب ، و وجهة نظر ثاقبة صادرة عن امرأة ذات عزيمة و إرادة نادرة بطاقتها يتشكل الموضوع بحضوره الذي يسبغ عملها بهوية وطنية – إنسانية ، متخلِّقة من الانتماء الواعي( ابتداء من :عملها الأول أمومة الأرض – خصب الأرض – شروق – ولادة – وردة الحجر .. إلى : – نمو – نهر – هندسة الروح .. ) .. و بتجرد تعبيري شذبت انفعالاته بجمالية الخلق المثالي من أنواع مختلفة و ألوان غنية تشكلت البنية لابتداع الفكرة ( ابتداء من : المرمر – الحجر الأبيض – الرخام الوردي – الرخام الأسود النبيل – الحجر الأصفر ... إلى : - الحجر البيجي ، و الجر الأردني ذو اللون الزمردي .. ) .. سواء أنها قامت بدراسات خطية تمهيدية للعمل ، أو أنها اشتغلت مجموعتها من الرسوم على هامش النحت فهي متممات تفضي إلى صوفية متوارية خلف التجريدات الهندسية المتكونة من حواريات الورق و الحجر التي لا تكتفي بتمريرها عبر رسوم أو مجسمات ، بل و من خلال النصوص الشعرية التي قدمتها بتأثير الجدل الأدبي التشكيلي الذي نما بداخلها منذ نعومة أظفارها .. أفرغت شيئاً مما يختلج في صدرها شعراً في ديوانين : ( رؤية أولى عام 1970 ، و محيط الحلم عام 1993 ) ، و هذا يفسر الصياغة الشعرية الحالمة لتكويناتها النحتية ، الحجر الذي يترقرق بعذوبة متناهية حاملاً موسيقى الشعر ، و في أحيان بعض كلماته كما في عملها – يوم الأرض - : ( .. أنا الأرض و الأرض أنت .. أسمي التراب امتداداً لروحي اسمي يدي رصيف الجروح أسمي الحصى أجنحة أسمي ضلوعي شجر .. ) و قد تدخل الكلمة في صياغة العمل النحتي الذي يعتمد التجريد أو الترميز بصورة تعبيرية ، مع الاحتفاظ بالفرادة .. E.Mail : <font color="red"> ( تم حذف البريد ل...نتدى ) </font> ************* |
الساعة الآن 48 : 01 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية