![]() |
يأتي بعد غد الفجر / د.منذر أبوشعر
1 فتح خزانة ملابسه ، ثم أغلقها دون أن يأخذ شيئاً .نظر إلى زوجته النائمة بسكينة ، وابتسم . أقبل نحوها ، ثم انحنى فوقها ، فلامست شفتاه الباردتان جبينها المورد . فتحت عينيها الناعستين وقالت : - صباح الخير يا فايز. ( ومدت يديها على طولهما وهي تتثاءب ). جلس على طرف السرير ، وهو يحدق بوجهها الجميل شبه النائم : - أنا ذاهب يا أمل . هل تريدين شيئاً ؟ نهضت نصف نهوض لوقع حديثه الجاد ، ثم فركت عينيها العسليتين وقالت باندهاش :- ماذا تقول ؟ (وبحيرة وبصوت قلق ) إلى أين ستذهب ؟! الوقت مبكر جداً ! بهدوء ثلجي قال :- أنا ذاهب إلى البادية . زحفت نحوه بغنج ، وطوَقت عنقه ، ثم وضعت خدَها على صفحة وجهه : - البادية في هذا الوقت ؟! وتتركني وحدي ؟! أبعد يديها برفق : - لن أغيب طويلا . ثلاثة أيام ، وربما أسبوعاً . عاودت عناقه . أراحت رأسها على كتفه :- البادية يا فايز ؟! تقرر وتنفِذ ، وتنسى أن لك زوجة لها عليك حقوق. ( وباستحياء ) وتحبك . أنزل يديها ونهض . ابتعد عن حافة السرير قليلا :- كلها يومان أو ثلاثة ! لم تخرب الدنيا ! :- لكنك لم تخبرني قبلا ! :- والآن أخبرتك ! ماذا حصل ؟! تغيرت ملامحها . حبست دمعة متمردة . تماسكت . زجرت مشاعرها . وعن غير إرادة ، فرَت حمرة قانية من مسامها غسلت وجهها الشاكي . :- كما تريد ..(ثم وهي تنسحب متخاذلة أمام تصميم عينيه ) أرجو لك التوفيق. ** ** * غادر البيت بملابسه المعتادة : قميصه السماوي ، وبنطاله الأسود . المدينة ما تزال نائمة . والجو خريفي بارد . والدنيا هادئة ، بل قل ميتة .. وهو مع حلمه وحيداً يسير . البادية ؟! الجوع والعطش والبرد ؟! (وتذكَر أنه لم يأخذ من بيته زاداً ). البادية ؟! رمال . مدى أصفر موحش . وغبار . ووجوه قاسية . وبرد . لا .. سأرجع ! لا أريد ذلك ! بيتي ، والدفء ، والأكل الشهي ، والملبس النظيف ، وبوجه أمل الصبوح ، وعملي ، وعلاقاتي مع الناس ، والوجوه التي أحبها ، وحكايات الأصدقاء ، والعادات ، والزيف ، والأقنعة الملونة الفارغة ،والملل الموحش،والألم المزمن واللاجدوى ، والضياع .(وابتسم . انفرجت أساريره ) سأرحل .. بلى ٍ سأرحل ! وغذَ السير. البساطة والفطرة . بدء الأشياء . الحب والطهر والصدق والعفاف . الليل الممتد بلا انتهاء .والنجوم المضيئة على كل الجوانب . والفجر الهادي الندي . والرمل الصافي .. بحر الهدوء والسكينة وولادة الأحلام . ** ** ** وجلس في الباص المتجه إلى تدمر . أمال رأسه إلى الوراء ، وأغمض عينيه . كانت البيوت تمر من أمامه مسرعة . تذكَر أهله : أباه وأمه وإخوته . سوف تخبرهم أمل بكل شئ . وعندما سيعلمون، سيعزون تصرفه إلى الطيش ، بل إلى الجنون ..وستبكي أمه كثيراً ،وتقول : ابني خرب العقل ، لكنه حساس ووديع ! الناس حسدوه ! لايتركون أحداً بحاله ! وستبكي زوجته معها ، وستنزل دموعها غزيرة غزيرة . إنه يبكي أيضاً . داخله يحتدم . يثور . ودموعه دفقٌ لا ينقطع. تذكَر الله ، والعقاب ، والراحة ، والنار ، وأحلام الطفولة . شئ في داخله يلذعه . يكويه . يحرقه . يسمه دونما رحمة . وتأوَه . فرك عينيه . لن يتذكر شيئاً ، وسيستمتع بكل لحظة آتية . أنا أحب أهلي وأسرتي وناسي . أحب مدينتي : بيوتها وأزقتها وحواريها . وأحب زوجتي أمل . لكن هذا الفراغ في داخلي ، لما لا يفارقني ؟!..انه يواكبني ، ويصر أن يبقى تابعي في أموري كلها !. اللعنة ،متى أصل ؟! وهرش رأسه وهو يتابع صرصاراً يتمايل في سقف الباص المهترئ . ابتسم . عاود الهرش . تحولت ابتسامته إلى تقطيب خفيف . البادية وجه بلا زيف . وجه أوَل بلا أصباغ . كل ما فيها متساو متضاد . الحب والكره صريحان ، بل ندان . والليل والصبح حقيقيان: قاسيان ، وواضحان . الشمس والبرد : أتون وعذاب .. خير وشر . عدل وظلم . نهار وعتمة . إله وعبد . سجن وفضاء . قيد وحرية . آه ، ومدينتي تشتكي الخوف والقلق المدمر ، وتبحث عن الخير والحق والعدل . مدينتي جلدتْها المادة ، عبدتها المادة ،أسرتْها المادة ، أذلَتها المادة . وانتفت منها القيم الحلوة والأشياء الأولى . في البادية سأغفو بهدوء . سأغمض عيني مليَاً . أسكب إصباحات البدء ، وأوازن وأوازي وأميز ، وأتلمس الخطأ فأجتنبه .وبفرح دائم سأضم العالم كله في قلبي ، فأعمر نفسي ، ويعمر كل من حولي . شعر بنشوة طارئة . فرك يديه بحبور . ثم نظر إلى ساعته في معصمه يستحث الزمن . بقي ساعتان وأصل . في البيت فُرض عليه نظام دقيق : نظام يبدأ بالملبس وكيفية الطعام ، وينتهي بالأفكار والعادات وطرق السلوك . قيود كثيرة تمنع أشواقه ، وتضع لآماله أشواك التقاليد . لقد فقد ذاته . صيَروه رقماً . صفراً . عدداً . عدماً . اللعنة . كل ما في المدينة تافه مقيت .. حتى الله صار تجارة وصورة ، بل صار في أفضل الحالات متوارثاً بلا معنى . الله ، وحلم التوازن ، وعالم المُُُثُل .. التقاء الأكوان والألوان والأحلام . الله ، ومفهوم الرحمة ، ودفء المحبة ، وبرد اليقين ،ومعنى الماضي ، ومفهوم الزمن والمستقبل . أغفى قليلا . صوت الباص يتصاعد إلى أذنيه بخاراً بطيئاً . قرعاً وانياً يلامس مسمعه . شعر أنه في قارب كبير يبحر في مفازة بلا أعلام ، وأن الشمس سيوف نارية تذيب أحزانه وتذكي أشواق السنين. بل شعر أنه حصان أصيل يجري نحو الشمس ، قارحاً ، تاماً . وأن صهيله يرتفع .. يرتفع بقوة وشباب . :- يا أخ ! يا أخ ! وانتبه :- آه ه.. نعم! ابتسم جاره :- وصلنا .. الحمد لله على السلامة . نزل من الباص . سار بخطى ثابتة.اتجه نحو البيوت الطينية . غادرها .. تجاوزها إلى الصحراء. تقدم أكثر .. لفَه المدى والبعد . صار نقطة . اختفى في الخيام السود المنتشرة على طول الأفق . ** ** ** 2 رائحة العطن تزكم أنفه .شئ غريب ينفذ إلى حلقه ، كرائحة جبن متعفن ، أو كرائحة جورب قذر .شعر أن أمعاءه بدأت تتحرك ، وأنه سيتقيأ . تذكَر زوجه ، وحرصها على نظافة منزله . وبسذاجة تبادرت إلى مخيلته ورود الشام وعطر الياسمين , وماء بردى ، و.. وجه أمل ! شعر بالعطش . حلقه جاف ، صدئ . والماء مغبر ، والآنية طين ، والرائحة الغريبة تفوح باستمرار ، وأمعاؤه لا تني تتحرك . نهض بهدوء من فراشه الأرضي ، وغادر الخيمة . كان الوقت مساء . والمساء في البادية يأتي مبكرا مع غبش الغروب . وقال بحرقة وهو يواصل المسير : - ما الحب الأول ؟ وما معنى الحلم ؟ هل الحب الأول شظف وقسوة ؟ وهل الشظف يعني الجهل والمرض والبدع والبدائية ؟ هل البدء بدائية ؟ وإذا كان بدائية فلم الحنين ، والشوق ، والتوق ، والأحلام المتمردة؟ ما الأصل والثابت والمتغير في طبيعة الأشياء ؟ ثم لما أتيت ؟ ولما بكيت ؟ ولما تمردت ؟! وتدثر بعباءته الفضفاضة ، وركل الرمال بقدمه . كان الليل ما يزال ساكناً شجناً ، والنجوم عيوناً كثيرة ساخرة ترمقه باستمرار . وتمنى لو يصرخ . يركض . يصيح . يقفز. يعوي . ينبح . يقوقي . بل ليته يبكي .. يبكي باستمرار . هنا الهدوء والراحة والتحدي ، .. والعزلة . أنت هربت ، والهروب عزلة . وأردت نفسك ، ولم تدر أن الحياة نفسٌ وآخرون . الهدوء والراحة مع الآخرين ، لا مع الذات . والمدينة زيف ، بل وحش مخيف له قلب طفل وعيون سلام . والبادية طفل وعيون سلام وزيف ووحش مخيف . سأعود.. سأبقى . سأرجع .. سأواصل الهدوء . سأعود .. سأبقى . سأعود .. بل سأعود . بلى سأعود . 12 / 10 /1987م |
رد: يأتي بعد غد الفجر / د.منذر أبوشعر
صدقوا عندما قالوا :" القناعة كنز لا يفنى " هرب من واقعه ليجد ما هو أظلم ؛ راقتني كلماتك الجميلة أبتِ دمت بخير وسعاده ودي ووردي |
رد: يأتي بعد غد الفجر / د.منذر أبوشعر
ابنتي الآنسة فاطمة البشر :
القوة ليست في الهروب .. فالهرب ضعف وتخاذل وهزيمة نفس ومرارة . معك ، نأمل ، ونسعى ، ونبني ، ونتوق الى غد . كل الشكر لك ، وتستمر صحبة جميل اللقاء . |
رد: يأتي بعد غد الفجر / د.منذر أبوشعر
تحياتي لك دكتور منذر أتمنى الانتهاء من العمل والعودة للقراءة المتأنية أرجو فتح رسائلك الخاصة للأهمية عميق تقديري |
رد: يأتي بعد غد الفجر / د.منذر أبوشعر
الحمدلله أنني وصلت إلى هنا
أكافىء نفسي بعد صيام يوم أن أقرأ بعد الإفطار مادة دسمة مادة شهية .. مادة غنية .. وصدق حدسي فعند المنذر كل ما هو شهي ودسم وغني بكل شيء .. الصراع .. كل منا في داخله صراع يكاد يأكله .. هل يبقى .. أم يعود .. المشكلة أين .. حين تتساوى الأمور في السوء .. يعني لا العودة مجدية .. ولا البقاء مجدي .. "ومن نفسه بغير جمال لا يرى ما في الوجود جميلاً " .. نحن من أعماقنا قتل فينا الإحساس بالجمال .. أينما نولي وجوهنا لا نجد ما يسعدنا .. العودة يجب أن تكون إلى الداخل .. إلى الأعماق .. أن نعود إلى أنفسنا .. هذه هي العودة الحقيقية لكن من أين طريقها أخي المنذر ...؟؟؟؟ قصة رائعة جدا .. لا يُملُّ من تكرار قرائتها .. دمت وسلمت أيها الأديب المتميز . |
الساعة الآن 21 : 01 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية