![]() |
إكس بن إكس
ليس بعد الموت مصيبة , هكذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم , لكن مصائب قوم عند قوم فوائد , حتى أن للموت تجارته الرائجة وعصاباته المنظمة التي لا يمكن أن تخطر لكم على بال .
لطلالما كنت أعيب على خالي ــ رحمه الله ــ خروجه من البيت وتجواله في المدينة دون أن يحمل معه بطاقته الثبوتية , فكان يجيب ضاحكا : أنا رجل في السبعين , لا خوف مني ولا خوف علي . لولا أنه خرج يوما من مدينته بقصد السفر لزيارتي حيث كنت أعمل وقتئذ على طريق العاصمة الرباط . وعند وصوله إلى مدينة مكناس , إنتابته أزمة قلبية مفاجئة لم تمهله , فلم يتمكن حتى من التعريف بنفسه , أو الإرشاد على اسم دوائه . نقلته سيارة الإسعاف إلى المستشفى الرئيسي للمدينة , لكنه كان جثة هامدة حين دخل مصالح المستعجلات . كان خالي قد أخبر والدتي ــ التي تعيش معي ــ بقدومه , فبقينا ننتظر وصوله , ثم بدأت الوساوس تساورنا بعد مرور ثلاثة أيام على الموعد المحدد وانقطاع الإتصال به . رافقني صديق لي إلى مدينة مكناس لأجل البحث والتحري , فكانت البداية من مديرية الأمن , وبعد مراجعة السجلات أخبرونا بتسجيل حالة أزمة قلبية حادة بمحطة الحافلات قبل ثلاثة أيام . إنتقلنا على الفور إلى المستشفى لتبدأ رحلة العذاب . كان علينا دفع مبلغ مائة درهم لمجرد السؤال ومعاينة السجلات الخاصة بالمستعجلات , دون الوصول إلى نتيجة . في هذا المستشفى مجرد طلب نصيحة يستوجب مائة درهم , أما طلب خدمة فيحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير , لذلك استدار إلي صديقي قائلا فيما يشبه التحذير : إسمع , إريدك أن تنسى مثاليتك , وأن تنسى أن الرشوة حرام , وتدعني أتولى هذا الأمر , وإلا فيمكنك الخروج وانتظاري في البهو إن كنت لاتستطيع صبرا . فوضت أمري إلى الله ووعدت صاحبي بالصبر والسكوت على المنكر , ثم اتجهنا صوب مستودع الأموات . أخرج صاحبي ورقة من فئة مائة درهم , دسها في يد ممرض يجلس إلى مكتب عند بوابة المستودع . بالكاد رفع الممرض عينيه من تحت نظارته , وأدار لنا سجل الأموات لنبحث فيه عن الأسماء الواردة منذ ثلاثة أيام . إستعرضنا الأسماء مرات ومرات , لولا أن الممرض اللئيم قال إنه يمكننا أن ندخل بأنفسنا إلى المستودع لنتحقق , مقابل وجبة غذاء , لأنه مازال لم يتناول غذاءه بعد . فهم صديقي الإشارة , فهرع نحو المقصف وجاءه بوجبة كاملة , ومعها مشروب وعلبة سجائر , ليفتح لنا الممرض بوابة الموت الرهيب . دلفنا إلى الداخل نتفحص الجثث , ورائحة الموت تملأ المكان , كانت الثلاجات ملأى عن آخرها , والباقي ملقى على الأرض كما لو أن الأمر يتعلق بساحة معركة . وعند زاوية شبه مظلمة , تبينت خالي منذ النظرة الأولى . كان رحمه الله مكبوبا على وجهه , حافي القدمين وقد ربطت إلى أصبع قدمه اليسرى بطاقة صفراء مكتوب عليها : " إكس بن إكس " أي مجهول الهوية . إنتابني شعور بالقهر والإحباط , وانحبست الدموع في مقلتي وأنا أرى رجلا عاش عيشة العز والرفاه يموت بهذا الشكل المهين . سرقوا حذاءه , ونزعوا عنه خاتمه الذهبي وساعته اليدوية , واستولوا على حافظة نقوده , ثم كتبوا على ورقة في أصبع قدمه أنه مجهول الهوية . ... وبدأ مشوار جديد من العذاب , كان علي أن أثبت هوية خالي قبل أن يسمحوا لي باستلام الجثمان . دفعت للممرضين , دفعت للأدارة , دفعت للطبيب المشرف , دفعت حتى للحراس , وسافرت أكثر من خمس مرات كي أجلب وثاق كانوا يطلبونها في كل مرة . وبعد مرور يومين كاملين , حصلت أخيرا على إذن بالإستلام . إفتح محفظة نقودك ياسي حسن , وسيكون كل شيءعلى مايرام , هكذا قال سائق سيارة نقل الأموات بعد أن أخذ مبلغا خياليا لنقل المرحوم لمسافة لا تتعدى الخمسين كيلومترا , ولم يدر بخلدي أن الميت لا يمكنك تسلمه إلا بعد أن يقوموا بغسله وتكفينه , وأن ثمن دلو من الماء الساخن هو مائة درهم , وثمن الكفن والحنوط أربعمائة درهم , وثمن الفقيه الذي سيغسل الميت ثلاثمائة درهم , وما عليك سوى أن تدفع , لأن كل شيئ جاهز ومتوفر في الحين , وعصابة الموت متربصة بك , غير عابئة بآلامك ولا بأحزانك . إنطلقت أخيرا سيارة نقل الأموات تحمل النعش , لكن كان علينا التوقف عند مقر ولاية الأمن للحصول على ترخيص بالمرور . دفعت مرة أخرى للموظف الذي وضع خاتم الولاية على الترخيص , ودفعت لموظف جاء لمعاينة الصندوق وختمه بالشمع الأحمر . دفعت لشرطة المرور عند مخرج المدينة . دفعت لرجال الدرك المتربصين على الطريق . دفعت لرجل حفر القبر وأهال التراب . دفعت لفقهاء قرأوا سورة يسن عند رأس الفقيد ودعوا له بدخول الجنة . دفعت فاتورة المأتم وثمن الذبيحة وخيمة العزاء . دفعت للطباخة التي أعدت الطعام , وللنادلين الذين خدما المعزين . وحدهم أولادي وأمي وزوجتي لم أدفع لهم , لأنهم كانوا يبكون في صدق وحرارة . |
رد: إكس بن إكس
[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]قصة صادقة مؤثرة أعرف أن هناك آخرين عايشوها. في حوار دار بيني و بين صديقة لي يوم أمس قلت لها: 'إن أردت أن تقيسي الإنسانية و الإيمان، يجب الدخول لمستشفى وليس إلى مسجد '. وهاأنت تثبت أنني كنت على حق.
مظاهر كثيرة لم تعد إلا پروتوكولات إجتماعية أما الجشع والاستغلال والركض خلف المادة فهم السائدون وهم من يظهرون جليا حين تسقط الأقنعة وحين تضطر الحاجة المرء إلى طرق الأبواب. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح الجنان ونرجو من الله الهداية لأناس سكن الطمع نفوسهم،فخسروا من إنسانيتهم الكثير. تحياتي[/align][/cell][/table1][/align] |
رد: إكس بن إكس
اخي العزيز حسن الحاجبي
ذكرتني بما كنت أحاول أن أنساه الموت .. قبل وبعد أيهما أقسى ؟ رحم الله الفقيد ورحم الله أمي وأبي ورحم الله جميع أمواتنا والله يلطف بنا ويحسن خاتمتنا كل شيء بثمن هذه الأيام حتى دموع العين .. كان الله في العون أخي حسن .. كان الله في العون . |
رد: إكس بن إكس
ما كنت أظن أن الفساد وصل عندكم لهذه الدرجة , إنا لله و إنا إليه راجعون , رحم الله فقيدكم و أحسن عزاءكم .
|
رد: إكس بن إكس
ونحن ماضون في طريق المجهول
ننتظر على قارعة الطريق أن نتحول إلى أرقام تحت الصفر ربما أو يزيد شكرا لك أخي العزيز حسن الحاجبي وكن بألف خير |
الساعة الآن 13 : 02 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية