![]() |
كلّ ربيع وأنت بخير
أشعر بأنّني قد عدت إلى الحياة مجددًا بعد انتهاء كلّ شتاء! في الوقت الذي ينتحر الربيع والخريف، يتقلّص يفقد قوّة حضوره، يهدي الكثير من أيّامه للشتاء وللصيف. أنا لا أرغب بالقفز من الشتاء إلى الصيف، لديّ رغبة عارمة بتذوّق مرحلة انتقالية تحمي القلب تمنع انفجاره، تخفف من وقع غربتي وعدم قدرتي على تذوق معنى العودة إلى قريتي! ليس إلى مدائني بل إلى قريتي المحكومة بالبقاء قبل حافة النسيان بقليل!. أشعر بأن الربيع قد ملّني، رغب بتمزيق دفاتري، لأنّها مليئة بالوجع بناءً على آخر التصريحات التي أدلت بها رياح الخماسين. اختفى الحنّون من حواكير البلد، لأنّ الحنّون خجل يخشى مداعبة النسيم. كانوا يتعللون، يتسامرون، يتحابّون، يتعاتبون. يميل أحدهم إلى الآخر قائلا ((إسمع يا "أبو" العبد، اللي راح راح، خلينا نفتح صفحة جديدة منشان الله يا رجل، كرمال عشرة العمر الطويلة!)) وينصاع أبو العبد للنداء، لأن القلب العربي قادرٌ على الغفران. أنا يا ربيع تعبت من البوح، أرغب بإنهاء إحدى القصص التي بدأت كتابتها في أثناء تساقط الأمطار والثلوج، حتى حسبتني رجل الثلج. قصّة ما أسميتُها جدلا "حكايتي مع الذئب" الذي حلّ ضيفي، لكنّي لم أتمكّن من إنهائها لأنّ البوح خنقني، أمسك بتلابيبي وقذف بي عند حدود البلد مجددًا. البوح غالبًا ما يهاجم المهجّرين حتى في مواطنهم، ليتمكنوا من البقاء والعودة للمشاريع الإبداعية، للانتهاء من القفز على حواجز القهر والنسيان. هذه هي ضريبة الإبداع والعودة إلى البوح لا تنتهي، تبقى تلاحقنا حتى بعد صدور المجّلد الأول والثاني وملحقاته، وآهاته، وكلّ العتب المتراكم منذ اللقاء الأخير، الذي يفصلنا عن بدايته ثلاثة عقود قصيرة تقاس بطول اللحى وبعدد الشعر الأبيض الوقح، الذي لا يرحم الرؤوس فيشعلها رجالا ونساءً. هل لك أن تنفلق شعرًا؟ أن توصل الماضي المتوقف في لحظة الغياب مع القافية التي تحررت من عوامل الجذب والضغط، لتصنع أغنيتك أنت دون غيرك!، يتحلّق المتآمرون الأصدقاء، يشعلون النار لشواء الذرة والكستناء بانتظار هطول المطر. ما أشبهنا بالهنود الحمر - أجدادي في المعاناة، أجدادي المقتلعون من الأرض ليعيشوا عمرًا آخر في المحميّات بحثًا عمّا تبقّى من رموزهم وآلهتهم. أين؟ أداة الاستفهام التي تؤرق فلسطينيتي. لا "أين" أبدًا. عودتي محفوفة بكلّ علامات الاستفهام الممكنة. ما تعني هذه الأداة وهذا السؤال المحفوف بالمخاطر؟. عودتي مرهونة بحسن نوايا الاحتلال المعدومة. مرهونة بموافقتي على استخدام جواز سفري لأعود زائرًا لوطني، الأمر الذي فشلت بالقيام به بالرغم من توطئة الربيع، ووعود الصيف بالحصول على بدرٍ لم أحلم به بعد! أكره الأين لأنّها تحيّرني، تربكني، تدخلني إلى مفارق طرق لا تنتهي، معظمها لأسباب ما زلت أجهلها حتى اللحظة التالية. ألجأ للبوح لأنه المخرج شبه الأخير نحو الشواطئ الآمنة. إنّه الكلامُ الحرّ الخارج من سياق الحديث المحكوم بالقواعد. البوح لا ينصاع لقافية أو لمقدّمة قبل الولوج في صلب الألم. البوح حالة من التوحّد مع الزمن لا المكان. لأن المكان بالنسبة للفلسطينيّ وللمهجّرين عنوة متوقّف عند حدود الاحتلال الدامية. المكان هو بقعة الضوء الذي أضعنا في ظلمته أسماءنا وألقابنا وبريق العينين العسليتين لابنة الجيران، التي ربّما أصبحت أمًا أو جدّة شابّة! البوح هو محاولة للقفز فوق حواجز التفتيش وإلغاء قدسيّة المكان. البوح هو الفوّهة التي تسمح للبركان لقذف حممه عاليًا نحو مراكز السفر المؤقتة. كلّنا مشروع سفر حين نفقد مفاتيح الوطن التي اعتدناها. أعرف بأن المسافة لبروكسل وفيينا وباريس ولندن والمغرب وتونس والقاهرة وعمّان وبيروت لا تستغرق سوى ساعات بالطائرة. يسهّل المهمّة الحصول على جواز سفر أوروبي يفتح مداخل ومخارج الشنغن. لكن كلّ هذه الأولويات تصبح مقيتة لأن في الانتظار دومًا غرفة فندق لا نملك من مقتنياتها شيئًا يخصّنا. وجودنا هناك مؤقت، حضورنا مرهون بقضاء الحاجة لقراءة القصيدة في المهرجان، ثمّ الانتقال إلى حالة مؤقتة أخرى. ما معنى الوطن؟ ولماذا الآن كلّ هذا الإلحاح لاستجداء الوطن والبحث عن بقاياه في الذاكرة؟ الجواب يعرفه الكثيرون، الذين ذاقوا طعم الجلوس لساعات طويلة في مقاعد الانتظار في المطارات وأروقة الانتظار. في أثينا وقبل عقد من الزمان، أزالت السلطات الأرائك المريحة والمناسبة للنوم، لأن المسافر العربي يضطرّ للبقاء لأيام في صالة الانتظار إذا تصادف وتأخّر عن الصعود إلى الطائرة لأنّه وبكلّ بساطة قد غفا ونام. في الوقت نفسه تصل عدد الرحلات المغادرة إلى ألمانيا خلال اليوم الواحد حوالي 15 طائرة خلال موسم السياحة، لكن الطائرات المتوجهة لأوطاننا محدودة، وعلى المسافر أن ينتظر أيامًا للصعود إلى الرحلة التالية!. هذا الشرق يبدو صعب المنال، وجهة غير مفضّلة وعصيّة. لا تناموا حين تجدون أنفسكم تجلسون في أريكة مريحة بانتظار الطائر الميمون. ما معنى الوطن لملايين المهجّرين من العراقيين والسوريين، وللمغاربة الذين يصل تعدادهم في بلجيكا قرابة المليون وللجزائريين في بريطانيا وللبلغار الباحثين عن فرص عمل وحياة أفضل في تشيكاغو، حيث يصل تعدادهم إلى قرابة 300 ألف مواطن، وللغجر الرومان الذين توجّهوا إلى باريس بحثًا عن أجدادهم! يبدو الوطن مشروع سفر متواصل في عصر العولمة، القابع فوق العجلات. لكن هناك دائمًا متّسع للحبّ ولكأس من النبيذ أو عصير الجزر والموز. هناك دائمًا متّسع لقبلة ولهمسة ولأمنية بعودة سريعة ميمونة، قبل أن يتوفّى معظم الأصدقاء والأقرباء وقبل أن تنسى القرى والمدائن، وقع أقدامنا وصدى أصواتنا وبقع الحنّاء على أكفّ العذارى والعرائس. |
رد: كلّ ربيع وأنت بخير
أستاذي خيري مساء الورد
غصب عن الوقت وبالزور سأمرُّ لمصافحة هذا البوح الشجي ورفعه للتثبيت ثم أمر لاحقاً لأمتع عيوني بقراءة وأخرى على مهل انتظرني لن أغيب |
رد: كلّ ربيع وأنت بخير
[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]ما معنى الوطن لملايين المهجّرين من العراقيين والسوريين، وللمغاربة الذين يصل تعدادهم في بلجيكا قرابة المليون ..
الوطن هو الوطن أظن ،أستاذ خيري. مع اختلاف بسيط بين أي مواطن يستطيع زيارة بلده وآخر ممنوع من الزيارة لسبب ما. المهاجرون يعتادون على أوطانهم الجديدة أو بلدان هجرتهم ويصير لها في القلب مكان و في الذاكرة أرشيف لكن الوطن الأصل مكانه يظل ثابتا ومحفوظا وحين نكون فيه ننتبه لما نفتقد له وللاغتراب الذي اجتاحنا. لك تحيتي وربيع دائم أتمناه لك و كثير من الخير.[/align][/cell][/table1][/align] |
رد: كلّ ربيع وأنت بخير
أشعر بأن الربيع قد ملّني، رغب بتمزيق دفاتري، لأنّها مليئة بالوجع بناءً على آخر التصريحات التي أدلت بها رياح الخماسين. اختفى الحنّون من حواكير البلد، لأنّ الحنّون خجل يخشى مداعبة النسيم. كانوا يتعللون، يتسامرون، يتحابّون، يتعاتبون. يميل أحدهم إلى الآخر قائلا ((إسمع يا "أبو" العبد، اللي راح راح، خلينا نفتح صفحة جديدة منشان الله يا رجل، كرمال عشرة العمر الطويلة!)) وينصاع أبو العبد للنداء، لأن القلب العربي قادرٌ على الغفران.
باختصار قراءة لا تكفي ورد واحد ظالم لكل هذا البوح مشاعر مشتركة أستاذي خيري بيني وبينك وربما بين الكثير ممن يحملون نفس الوجع .. أصبحنا نشعر أننا عبء على أنفاس الآخر بالماضي كان الوضع مختلفاً .. كان سيئاً لكنه اليوم الأسوأ ما فعله الأسرى يبدو أن سيكون طريقنا الوحيد للعودة يبدو أن القدس ودير شرف لن تعودا إلا بالأمعاء الخاوية وإلا سنبقى كالهنود الحمر وربما أشد سوءاً ولعنة آن الأوان أن ننهي هذه المهزلة .. العالم يتمزق ويتبعثر ولن نجد غدا موطىء قدم لنا ولن ينصب أحدهم لنا خيمة بعد الآن هي معركتنا نحن ويكفينا سفر وشتات وغربة هل أقول أكثر ؟؟؟؟ ربما أبوح في خاطرة منفصلة شكرا لك على كل حرف وأنت بالتأكيد تكتب عنك وعني وعن كل من يشتهي أن يقول ولا يقدر دمت لنا بكل الخير والسعادة أستاذي خيري |
رد: كلّ ربيع وأنت بخير
أين؟ أداة الاستفهام التي تؤرق فلسطينيتي. لا "أين" أبدًا. عودتي محفوفة بكلّ علامات الاستفهام الممكنة. ما تعني هذه الأداة وهذا السؤال المحفوف بالمخاطر؟. عودتي مرهونة بحسن نوايا الاحتلال المعدومة. مرهونة بموافقتي على استخدام جواز سفري لأعود زائرًا لوطني، الأمر الذي فشلت بالقيام به بالرغم من توطئة الربيع، ووعود الصيف بالحصول على بدرٍ لم أحلم به بعد! أكره الأين لأنّها تحيّرني، تربكني، تدخلني إلى مفارق طرق لا تنتهي، معظمها لأسباب ما زلت أجهلها حتى اللحظة التالية.
أين ومتى وكيف كلها علامات استفهام محفوفة بالمخاطر والظروف الصعبة التي نعيشها في هذه الأيام والأصعب كثيراً من سنوات خلت كانت تحمل النفس القومي والوطني ونعيش الأمل , ربما ما حققه اسرانا الأبطال بالأمس هو بريق أمل وبذرة ستنبت بتحقيق الحلم والأمل بالعودة رغم أنوف المحتلين . أشكرك أخي العزيز الأستاذ خيري حمدان على هذا البوح الذي هو لسان حالنا جميعاً أبناء فلسطين الحبيبة . مودتي وتقديري . |
رد: كلّ ربيع وأنت بخير
اقتباس:
لا شكّ بأن الربيع ينقلنا إلى أجواء ألفناها طويلا، حيث زرع الوطن لدينا ذكريات لا تُنسى ولا يمكن التأثير عليها أو الإنقاص من حضورها الدائم في ذاكرتنا. الحنين مستمرّ ما دام هناك ربيع وصيف، وحتى الشتاء يعيدنا إلى الكوانين والبحث عن نار الدفء في بلادنا. لعلنا نعود ذات خريف. شكرًا لحضورك ولكلماتك العبقة. |
رد: كلّ ربيع وأنت بخير
اقتباس:
البوح محاولة للانتقال روحيًا إلى عالم حرمنا منه. أشاهد في برامج التلفزة بين الحين والآخر، زيارات لقنوات تلفزيونية عالمية، تقوم بإلقاء الأضواء على المستعمرات باعتبارها نهجًا وإنجازًا حضاريًا. لكنّهم ينسون الحبل السرّيّ الذي لا ينقطع ما بين الفلسطيني (وليس الهندي الأحمر الذي نفهم معاناته)، وما بين الوطن الكبير بحجم الكون فلسطين. الوجع واحد والهدف أكبر من خاطرة. أتمنى ان نعود إلى هناك ذات يوم، مهما تكاثرت الغربان فوق أراضينا فهي تحمل ذكرانا ونحن نعيش ونحيا من أجلها. شكرًا لك ولحضورك الرائع دومًا أستاذنا العزيزة ميساء. |
رد: كلّ ربيع وأنت بخير
اقتباس:
تتكاثر الأسئلة حين تزداد وتائر الحنين إلى الوطن، لكن الآليات لا تنتهي. آليات العمل من أجل العودة وفكّ قيود الأسرى والتماهي مع التراب الفلسطيني. أسئلة تمتزج بحلم العودة الذي يبدو قريبًا بإذن الله. أشكرك على هذا التفاؤل. مودّتي |
رد: كلّ ربيع وأنت بخير
لربما كان الوطن كلمة كأي كلمة عندما يكون من السهل الوصول إليه ! هذا لا ينطبق على الفلسطيني ، الذي يحتاج - في بعض الأحيان - إلى معجزة لزيارة وطنه ، و القليل منهم يدخل الوطن على أنه سائح ! هنا يكون للوطن ثقل وأي ثقل ؟ أ. خيري حمدان ؛ نصك أصاب جرحنا وفتحه من جديد ، علّ المستقبل يكون خيرا لنا .. تحياتي لك أستاذي ولقلمك الرائع . ودي ووردي |
رد: كلّ ربيع وأنت بخير
اقتباس:
نحن من دون الشعوب، يعيش الوطن بدلا من أن نعيش في أوطاننا. لهذا يأتي البوح صادقًا والعلاقة غير قابلة على الانقطاع شكرًا لحضورك دمت بخير |
الساعة الآن 18 : 10 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية