![]() |
عباءة أمي
عباءة أمي 1 عشتُ مع (يجوز) و(لايجوز)، ويصح ولا يصح ،وانتبهْ وحاذِرْ،واجتنِبْ ! بخطى محسوبة، كما يريد قانون عائلتي عائلة سليم النطفجي ، لا كما أنا أريد أو أصبو إليه ! زيف مقيت، يتحكم بأنفاسي ويحاصرها: يبتدئ بطريقة الطعام وشكل اللباس ، وينتهي بنُظُم العلاقات الاجتماعية ! وعندما صرتُ في سنّ تسمح لي بالاعتراض على جميع ذلك ، جوبهت بالسخط الشديد علانية، والاتهام بالبََََلَه خلسة! أسكن ، أنا وأخوتي الثلاثة ، في حي أبورمانة ، وعندنا فيلا جميلة في (يعفور)،ويملك والدي معمل نسيج له اسم مميز في سوق المال ! أنهيت دراستي الجامعية ، بإكراه نفس ، إرضاء لرغبة أمي ، ليصح أن أُنادى بين الناس : باش مهندس عصام! وبالطبع لم أعمل بشهادتي أوأستفد منها،لأنني أخذت الشهادة للبريستيج ! ولم آسف لذلك أو أكترث،لأنني في الأصل لم أحب جمود قوانين الهندسة ومسائل العمارة ! وما وجدتُ نفسي ، إلا في عوالم الأدب ، وفضاءات رقيق المشاعر ، فكتبتُ ببساطة شجن الشعر ، ودفنتُ أشواقي وآلامي وصور عوالمي في أبياته ،حاصراً جلَّ اهتمامي بهمِّ الطبقات البسيطة ،وأسلوب حياتهم وتطلعاتهم! وظننتُ أنني بذلك أحقق ذاتي ، وأرضي كياني ، وما اعتقدت يوماً أن للزيف صور أخرى وأساليب أخرى ! قد يأتي من عتمة مكان ما ، أو زمن ما ، أو عمر ما ! ** ** ** 2 ذهبت ظهراً إلى البنك المجاور لمعمل والدي لإجراء بعض الترتيبات المصرفية . ولما اتجهت نحو غرفة المدير ، فوجئت بموظفة الاستقبال تقول لي :- الأستاذ المدير بانتظارك .. أهلا وسهلا . كان بيدها رزم أوراق ، وبعفوية قلتُ :- كأنني أراكِ هنا لأول مرة ! ( وشدّتني سمرتها وشعرها الفاحم الطويل ):- نعم ! توظفتُ في هذا الفرع قبل شهرين ! ( وبأدب) أعرف اسمك ! وشرف لي أن أتعرّف عليك شخصيا ! :- شكراً ! ٍسأنهي معاملتي وآتي لأشرب معك فنجان قهوة ..سكر قليل لو سمحتِ ! وتكلمتُ معها طويلا.. وكانتْ غاية في الأدب والاحتشام والتهذيب! وعرفتُ من مجمل حديثها أن أصولها من مدينة ديرالزور ،ويغلب علي أهلها اليوم تواضع الحال ! فتجرأتُ أكثر وقلتُ لها وأناأحدق في ليل عينيها:- أحب أن أتعرف بالوالد الكريم ! فأخفت ارتباكها بابتسامة ساحرة ، شابها خَفَر ملحوظ : - البيت بيتك ! لكن ما سبب الزيارة أستاذ عصام ؟! :- أبداً .. أحب أن يعمل والدك معي ! :- هذا وسام رفيع لنا ! شكراً كثيراً أستاذ عصام ! شكراً على هذه الثقة! ولم أدر لماذا جُررتُ إلى ذلك ! إلا أنني عددتُها هفوة محببة ! وأعرف، يقيناً،في خفايا نفسي، أن شيئاً ما جذبني إليها ! ربما طريقتها في الكلام ! ربما طيب حديثها ! ربما طرف نعومة عنقها،وملاحة أناملها ! ربما ليل شعرها الطويل ! ربما كلها ! فهل أنا أحببتها ؟! هل أنا أحببتها حقا ؟! وكيف يحصل ذلك ، ومئات الفاتنات ينتظرن إشارة من طرف إصبعي ؟! لا أعرف ! لا أعرف ! ** ** ** 3 طوال الوقت لم تغب عن ذهني! اختلقتُ الأعذار لأذهب يومياً إلي البنك لأراها ،رغم أنني أنتظر بحماس موعود اجتماعي مع والدها! كنت أشعر بالفرح والدهشة والشوق ولفح حب المراهقين! وقلت لها اليوم وأنا أشدّعلى يدها، وأضغط على جَمْع كفها ضغطاً خفيفاً :- اليوم عندكم إن شاء الله ! وطربتُ وهي تقول لي :- كلنا في انتظارك ! ** ** * 4 :- يا ويلي ! ابني فَقَدَ عقله تماماً ! ابني مجنون لايفهم أبداً !وبكت أمي ، وضجّ صوتها زعيقاً ، ثم انتحبتْ وجسمها كله يرتعش..ثم علا نحيبها صاخباً بمرارة :- تُناسِب في آخر عمرنا الناس الدون؟! ابن سليم النطفجي يتزوج من بنات النواطير ؟! ووقعتْ على الأرض مغمى عليها ! فظننتُ بداية ، أنها تصطنع ذلك بحركة تمثيلية لتثير مشاعر عاطفتي تجاهها ، فاقتربتُ منها ، ومسحتُ وجهها البارد :- أمي ..طولي بالك .. طولي بالك ! كانت على الأرض قطعة لحم بلا حَََوْل ، تتنفس بمنتهى الصعوبة . ولم أدر ماذا أفعل! فحملتُها إلى الأريكة ، وأنا على غاية الانزعاج والقلق ، ولساني لا يألو يردد آلياً دون أي تفكير:- لاحول ولاقوة إلا بالله ! لاحول ولاقوة إلا بالله ! أستغفر الله العظيم ! لاحول ولاقوة إلا بالله ! ولما فتحتْ عينيها قالت بإنهاك :- ابتعد عني يامجنون ! أنت لست ابني! أنا لاأعرفك ! كان دمعها قد امتزج بكحل عينيها ، باصفرار وجهها ، فتشوهت ملامحها تماماً ! ولأول مرة أحس أنني أكره أمي ! وماهي إلا إحدى مومياءات متحف القاهرة ! :- صلّ على النبي .. صلّ على النبي ! :- اخرسْ يا قليل الأدب واتركْ النبي في مكانه! سيأتي أبوك وسنرى ماذا سيفعل مع هذا الجنون العجيب ! ( ثم وهي تستجمع قواها ) أنا لن أسمح بهذه الكارثة ، ولو كان ذلك على جثتي ! وأقسم بالله العظيم إن حدث شئ ، فلن تكون ابني أبداً أبداً ! ** ** ** 5 كان الوقت مساء .. وحركة السير في مخيم اليرموك على أوجها !ضجيج ،وزحام سيارات ،وحركة مشاة ،وصراخ باعة متجولين،ودخان ،وصخب، فشعرت أنني أخطأت الوقت وأنني لا أزال في وَضَحِ النهار ! ركنتُ سيارتي الفارهة ، بعد جهد ، في زقاق ضيق رطب ، فيه سطوع رائحة ما ! ربما بالوعة ! فتجمهر أولاد حولي وقال لي كبيرهم : - عن أيّ بيت تسأل يا عم ؟! :- صبحي طعمة ! :- ثالث بيت على اليمين ! :- شكراً .. شكراً .. الله يعطيكم العافية ! كان البيت ضيقاً وبسيطاً وغاية في النظافة والترتيب، ويوحي بالألفة والحميمية ! وجلستُ على أريكة متآكلة اللون والنسج، فقال لي الأب : - تحدثتْ عنك ( سمر) كثيراً ، فبتنا نعرفك تماماً ، كأنك بيننا منذ زمن طويل! كان ستيني العمر . أقرب إلى القصر والنحول ، شديد السمرة ، وعيناه ذكيتان فيهما شبه خمول وشبه توفّز : - شكراً ياعمي ! لكنني لا أعرف من أين سأبدأ ! في الواقع وضعي حرج جداً وأشعر بالضيق الشديد ! وقطع كلامي مجيء الأم تحمل فناجين القهوة : - هذه قهوة أهلا وسهلا ! شرّفت يابني ! كانت ممتلئة ، ضخمة العجيزة ، ودودة القسمات ، على ذقنها آثار وشم قديم ، وترتدي غطاء صلاة ناصع البياض : - تفضل .. تفضل ! البيت بيتك ! ورشفتُ قليلا من القهوة :- شكراً شكراً ، أنا في غاية السرور الآن ! ( والتفتّ إلى الأب ) عائلتي ،كما تعرف، مجموعة تقاليد وعادات وركام أفكار ! ليس من السهل تجاوزها دفعة واحدة ! لكن لكل منها مفتاح ! والبدايات دائما صعبة وعسرة ، إنما دواؤها المتابعة والصبر وصدق النيّة ! :- لم أفهم تماماً ! ما مشكلتك يابني ؟! :- مشكلتي أهلي ! :- عيني عليك يا بني(ودقت الأم صدرها وعيناها تفيضان حناناً ورحمة ) أمك لها عليك واجبات وحقوق ! وكذلك والدك ! :- أنا لن أفعل ما يغضب الله! لكنني مع أهلي أمشي في طريق مسدود! ( وعلا صوتي ) حياتي أنا أشكلها كيفما أريد ، متى أريد ! ولست آلة وأزرار جهاز تحكّم ! أحاول ألا أؤذي أحداً ،لكن لابد من ساعة المواجهة وتحمّل المسؤولية ! ** ** ** 6 عجباً كيف نتغير !عجباً كيف نرى نفس الأشياء بمنظار آخر يختلف تماما عن الأول ! لم يتغير أهل ( سمر ) في شئ ! لكن عيني صارت ترى بعين غير العين الأولى ،وتلاحظ دقائق كانت غير ذات بال ،وأصبحت اليوم ذات شأن كبير ! أو أنها ربما لاحظتْ فتجاهلتْ ولم تعد تحتمل اليوم ! هل هذا ما حلمتُ به ؟! وهل هذه هي البساطة التي كنتُ آملها ؟! هل استطعتُ حقّا كسر طوق التقاليد ، التي كرهتها ذات يوم ، فإذا هي ،بصورة أو بأخرى ، قوام نسغ أفكاري ؟! ما الصح وما الخطأ ؟! وكيف تمشي عجلة الحياة ؟! تزوجتُ سرّاً قبل شهرين ، وما استطعتُ مصارحة أهلي بالزواج ! لأن مجرد طرح الفكرة ، أدَّى من قبل ، إلى كارثة حقيقية: مرضتْ أمي مرضاً عضالا ! وتجهمني أبي ، فلا يكلمني إلا النزر اليسير والمقتضب من القول ! وعافني إخوتي وعمومي وأخوالي وجميع أولادهم ، ونظروا إليّ أنني(عاهة ) تمشي على الأرض، ومجرد(مجرم)حقيقي سيسبب، متعمداً ،كارثة آتية لا محالة ! وهذا سيعني ، بكل بساطة ، أنني سأفقد كلياً روابط الأسرة ، ومعه كل ارتياح مالي ، أو امتياز رفاهية أعيشها ! وتساءلتُ : هل أستطيع الوقوف في طوابير انتظار معونة الخبز،وطوابير معونة استهلاك الغاز والمحروقات المنزلية، إذا فقدت امتيازاتي عند والدي ؟! هل أستطيع أن أنحشر في وسائل النقل العامة ( باص ، أو ميكروباص) بعد انتظار وتعب وعرق مزعج ،إذا استُرجِعت سيارتي؟! ولماذا لم أشعر بنعمة الله ، ونعمته تعني مزيد شكر ومزيد حمد ومزيد تقرب إليه ؟! هل رَفْض أسلوب أمي في معاملتها لأبي ، وهو ابن عمها ، وجدتي من طبقة بسيطة،فأثّر ذلك في نمط تفكيره، يعني كَسْركل تقليد وكل عرف ؟! لماذا لا أصحح خطأ أمي في أسرة ، يكون اختياري لها مقبولا ، ليس ردة فعل ، فأفعل ببساطة ما أقتنع به وأرنو إليه ؟! ثم (سمر ) هل أحبتني وأهلها حبّاً لذاتي ، أم لأنني ابن النطفجي ؟! وبكيت .. كالأطفال بكيت . كنت في مكتبي في معمل والدي لا أزال، وشعرت أنني أكاد أختنق ! بل أنا أختنق فعلا ! عرقتْ جبهتي ! وشعرت بخدر في يدي اليمنى ! وتماوج المكان في عينيّ ! ثم ارتميت على الأرض ! وفقدتُ كل إحساس أو رغبة في أيّ شئ! |
رد: عباءة أمي
وأعود اليكَ وإلى نصوصك أقرأ وأتأمل لأغرق في صورها المرسومة بدقة وإتقان فأجدنى والدهشة تغمرني
أكتب لك تقديري / مودتى .. وأضرب لكَ موعدا على أمل اللقاء صباحك النور أستاذ |
رد: عباءة أمي
المرهفة الأحاسيس ، المتألقة فتحية عبد الرحمن :
لقدومك معنى جميل .. وأنا أنتظر . |
رد: عباءة أمي
أخي الغالي منذر..
الدخول إلى مدينتك يكون محفوفا بالتشويق والخروج منها (مؤقتا) يكون ممتزجا بالمتعة .. حقا ، تشدني نصوصك إلى آخر كلمة منه فأجد فيها تقنية الفن القصصي إلى جانب ما أشعر فيها بحميمية المكان (دير الزور ، مخيم اليرموك) فتسرح بي بعيدا إلى هناك .. بورك لك في مدينتك وفي يراعك الخصب . محبتي . |
رد: عباءة أمي
فعلا كما قال أخي رشيد نشعُر بحميمية لا تشرحها الكلمات هنا ، في عالمك أغوص ليسَ فقط بين الحروف بل وفي أعماق أعماقي تستيقض في دهاليز الروح وفي خباياها بقايا من حنين وأخرى من ألم وما أكثر شجوننا نحن البشر
كل خطوة خطوتها في شوارع هذه القصة وفي ساحاتها كنت أشعر الغصة تزيد والحرف يشدني رغم الألم مؤلم جدا أن تجد نفسك بين خارين كلاهما إجباري نعم إجباري ... فحتى إختيار البطل لعروسه كان هروبا من إطارٍ رسمته له أمه أراد أن يُثبت حريته وقدرته على القرار في حين هو يعلم أن قرارات أهله لم تكن إلا لصالحه مشيتُ وكل تفاصيل مغامرته حتى لامسَ خيبته...وهنا أدركَ كما أدركتُ أن النِعم بين أيدينا وقلما نراها أو ربما نراها بعد فوات الأوان مدينتك / عالمك يتسع لأكتب حتى مالانهاية / شكرا لسعة صدرك لروحك السلام |
رد: عباءة أمي
المبدع الأستاذ رشيد ميموني :
برفقتك يزهر الدرب ، وتتواصل الأفكار ، وتثمر باقة خير لكل غد . وطيبة صحبتك،ويتواصل اللقاء ان شاء الله . |
رد: عباءة أمي
المتألقة دائما الآنسة فتحية عبد الرحمن :
اللقاء معك يثمر كل الخير وكل البركة ، ويفتح طاقات أمل غد . وكل الشكر لك ، ومباركة أيامك كلها ، وهانئة دائما . |
رد: عباءة أمي
عباءة أمي تكون رائعة عندما تتفهمني ، وتربيني لزماني .... راقتني قصتك كثيراً أبتِ دمت بحب وسعادة وكل عام وأنت بخير ودي ووردي |
رد: عباءة أمي
ابنتي الغالية فاطمة ِالبشر:
قد نحب، فيأخذنا الحب الى أماكن لا نرضناها ، فتكون ساعتئذ الكارثة ! التؤدة في كل أمر ، هو شعار العقلاء . وكل الخير المثمر لك ، وأيامك هانئة . |
الساعة الآن 10 : 11 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية