![]() |
نظرات في العصر الجاهلي
كثر الحديث عن ( العصر الجاهلي) واستفاض جداً بما بين مغالٍ شديد المغالاة، قذف العصر بأبشع المثالب، وبين مسرف في المديح غاية الإسراف، وبالتالي ظهرت كتب كثيرة، فتخبط الكلام بين مد وجزر . وأهم الكتب المحدثة التي تحدثت عن تلك الفترة: 1المراجع الأجنبية - حسب وفيات المؤلفين -: 1- المغازي الأول ومؤلفوها:يوسف هوروفتس (1874 م- 1931 م)، ترجمة: حسين نصار . ط، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1949 م . 2- تاريخ الآداب العربية: كارلو نللينو (1872م- 1938 م).ط، دار المعارف .القاهرة 1970 م، الطبعة الثانية. 3- تاريخ العرب الأدبي: رينولد نكلسون (1868 م- 1945 م)، صدر سنة 1907 م بالإنكليزية، وترجمه:محمد حسن حبشي في مجلة الرسالة، العدد 189 . 4- تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان (1868 م- 1956 م) . ط، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993 م . 5- تاريخ الأدب العربي: ريجيس بلاشير (1900 م- 1973 م) . ترجمة:إبراهيم الكيلاني . ط، الجامعة السورية . دمشق 1956 م . 6- تاريخ اللغات السامية: إسرائيل ولفنستون (1899 م- 1980 م) . ط، مطبعة الاعتماد . القاهرة 1939 م . الطبعة الأولى . 7- تاريخ اليهود في بلاد العرب:إسرائيل ولفنستون (1899م -1980 م) . ط، مكتبة النافذة . الطبعة الأولى 2006 م . 8- تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين . ترجمة: فهمي أبو الفضل . ط، الهيئة المصرية العامة للكتاب . القاهرة 1977 م . و ترجمة: محمود فهمي حجازي . ط، جامعة الأمام محمد بن سعود . الرياض 1991 م 2 المراجع العربية - حسب وفيات المؤلفين-: 9- تاريخ الشعر العربي: نجيب محمد البهبيتي (ت: 1884 م) . ط، دار الثقافة، المغرب 1985 م . 10- تاريخ العرب قبل الإسلام: جرجي زيدان ( 1861 م- 1914 م) . ط، مصر 1908 م . 11- تاريخ آداب العرب: مصطفى صادق الرافعي (1880 م- 1937 م) . ط، مكتبة الإيمان 1997 م (مصورة عن ط، القاهرة 1916 م). 12- تاريخ الأدب العربي: أحمد حسن الزيات (1885 م- 1968 م) . ط، دار المعرفة للطباعة والنشر 2000م (مصورة عن طبعة مصر 1930م). 13- النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي: محمد أحمد الغمراوي (1893 م- 1971 م) . ط، المطبعة السلفية . القاهرة 1929 م . 14- في الشعر الجاهلي: طه حسين ( 1889 م- 1973 م) . ط، دار الكتب المصرية 1926 م . 15- حديث الأربعاء: طه حسين (1889 م- 1973 م) . ط، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1997 م . 16 - تاريخ العرب: فيليب حتي (1868م -1978 م) . ط، دار الكشاف . بيروت 1961 م، الطبعة الثالثة . 17- تاريخ الأدب العربي: عمر فروخ (1906 م- 1987 م) . ط، دار العلم للملايين 2009 م . 18- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام:جواد علي ( 1907 م- 1987 م) . ط، دار الساقي 2001 م (مصورة عن ط،المجمع العلمي العراقي 1950 م- 1956 م). 19- الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي: يوسف خليف ( 1922 م- 1994 م) ط، دار المعارف . القاهرة 1966 م . 20- أسواق العرب في الجاهلية والإسلام: سعيد الأفغاني (1909 م- 1997 م) . ط، دار الفكر . دمشق 1960 م، الطبعة الثانية . 21 - قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلاَّم: محمود محمد شاكر(1909 م- 1997 م).ط، مطبعة المدني. القاهرة 1997م. 22- معلقات العرب:بدوي طبانة (1914 م- 2000 م) . ط، دار الثقافة . بيروت 1974 م، الطبعة الثالثة . 23- العصر الجاهلي: شوقي ضيف (1910 م- 2005 م) . ط، دار المعارف . القاهرة 1996 م . 24- مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية: ناصر الدين الأسد . ط، دار المعارف القاهرة 1956 م . 25- الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية: سيد حنفي حسنين . ط، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر . القاهرة 1971 م . 26- افتراءات فيليب حتي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي: عبد الكريم باز . ط، دار تهامة . 1983 م، الطبعة الأولى . فإذا أردنا دراسة العصر الجاهلي بصورة أقرب للصحة، فلابد من دراسة نصوص مجموع مصادره، واستقصائها، ومقابلة بعضها ببعض، ومناقشتها، وفي رواية هذه المصادر وتسلسلها، ومعرفة عدالة رواتها ومدى الثقة بهم، وتتبع المصادر الأولى التي استقى منها أولئك الرواة حتى تصل بين هؤلاء الرواة والعصر الجاهلي نفسه، بحيث ينتهي كل ذلك إلى تغليب نص على آخر، أو ترجيح رواية على غيرها، أو تفصيل خبر على سائر الأخبار، في صيغ ترجيحية غالبة . ** ** ** وقد يتبادر إلى الأذهان أن (العصر الجاهلي) يشمل كل ما سبق الإسلام من حقب وأزمنة، لكن الباحثين في الأدب الجاهلي لا يتسعون في هذا الزمن هذا الاتساع، ويكتفون بالحقبة الزمنية التي تكاملت فيها خصائصُ اللغة العربية، وتكامل فيها نشوء الخط العربي وتشكله تشكلاً تاماً. يقول الجاحظ (عمرو بن بحر 109 هجرية- 255 هجرية): "أما الشعر فحديث الميلاد صغير السن، أول من نَهَج سبيله وسَهَّل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة.. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له - إلى أن جاء الله بالإسلام - خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام" ( الحيوان 1/74 ) .يعني بذلك القصائد الطوال المقصَّدة دون ما نسميه المقطَّعات أو الأبيات ذوات العدد التي بلغتنا من قديم شعر الجاهلية. وقال ابن سلاَّم (محمد سلاَّم الجمحي 150 هجرية - 255 هجرية): إن أوائل العرب لم يكن لهم الشعر إلاَّ الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قُصِّدت القصائد وطُوِّل الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف (طبقات فحول الشعراء 26 ). وكلمة (الجاهلية) التي أطلقت على هذا العصر ليست مشتقة من "الجهل" الذي هو ضد "العلم "ونقيضه، إنما هي مشتقة من "الجهل" بمعنى: الغضب والطيش والنزق، فلها علاقة في الاعتقاد والتصور، بمعنى عدم الانضباط بحكم الله والالتزام بشرعه، وتقابل كلمة (الإسلام)التي تدل على الخضوع والطاعة لله. قال تعالى: (قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) - البقرة: 67 - . وفي الحديث الصحيح، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر الغفاري وقد عَيَّر بلالاً الحبشي بأمه واسمها حمامة: " إنك امرؤ فيك جاهلية" . فأطلقت (الجاهلية)على العصر السابق للإسلام لما فشا فيه من وثنية، وبعدٍ عن شرع الله . كما لا يصح أن يكون الكلام عن المجتمع الجاهلي واحداً في الحكم عليه، لتفاوت مجتمعات القبائل في تأثُّرها بأساليب الحضارة من حولها: فقد نجد قبيلة ماهي إلاَّ جماعات من الأعراب، يسكنون الخيام، ويقطنون الصحراء، لا هَمَّ لهم إلاَّ الغزو وانتجاع الكلأ، وقبائل أخرى كثيرة تسكن فيالحواضر والقرى، بل كثيراً ما نجد قبيلة واحدة تحيا حياتين مختلفتين: قسم منها يتحضر ويستقر ويسكن المدر، وقسم منها يبقى في أهل الوَبَر، كجُهَينة ونَهْد ومُزَينة وهُذيل. وفي حديث السيدة عائشة، قالت: لما قدمنا المدينة نهانا رسول الله صلى عليه وسلم أن نقبل هدية من أعرابي، فجاءت أم سنبلة الأسلمية بلبن، فدخلت به علينا فأبينا أن نقبله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:" خذوها، فإنَّ أسْلَم ليسوا بأعراب، هم أهل باديتنا"( رواه ابن حنبل في مسنده،وأبي يعلى،والحاكم في المستدرك،وإسناده صحيح) . وذلك أن أعرابياً أهدى الرسول صلى عليه وسلم هدية ،فعوَّضه الرسول عنها ناقة ،فتسخطها الأعرابي،فزاده الرسول صلى الله عليه وسلم،وقال له:أرضيت ؟قال: لا.فزاده ،حتى عوَّضه ست بكرات ،والبكرة:التي اكتمل نموها من الإبل فصلحت للقاح وللركوب. وهذا يعني أن المجتمع الجاهلي ثلاث فئات متباينة: أهل حَضَر، وهم أهل المَدَر، يحيون حياة مستقرة ثابتة (كانت في شمال الجزيرة إمارة المناذرة وإمارة الغساسنة، وإمارة كندة في وسطها، وعاش أهل مكة على التجارة، وكانت مكة مدينة تجارية عظيمة،فطبيعي أن تكثر عندهم الصكوك ،يحفظون حقوقهم أن تضيع. وعُرفت واحات الحجاز مثل يثرب وخيبر والطائف ووادي القرى. وأقيمت بالقرب منها الأسواق: كسوق عكاظ، وسوق ذو المجاز، وسوق خيبر، وسوق دومة الجندل.. جميعها لها وقت معلوم تُعقد فيه). وأهل بدو: استوطنوا مشارف المدن والقرى في ظواهرها وضواحيها، (اعتمادهم على رعي الأغنام والأنعام). وأعراب: وصفهم القرآن بشدة الكفر والنفاق، موغلين في الصحراء. وكانت القبيلة أيضاً على ثلاث طبقات: أبناؤها: وهم الذين يربط بينهم الدم والنسب . والعبيد: وقد يُجلب من البلاد الأجنبية المجاورة، خاصة الحبشة (وكان بعضهم يكاتب عبده لقاء مبلغ من المال يؤديه له على أجَل،فيسترد العبد حريته بعد أدائه). والموالي: وهم عُتقاؤها، ويدخل فيهم الخلعاء الذين خلعتهم قبائلهم ونفتهم عنها لكثرة جناياتهم . ومن هؤلاء الخلعاء: طائفة الصعاليك، وكانوا يتخذون النهب وقطع الطريق، واشتهر منهم: تأبط شرًّا، والسُّلَيك بن السلكة، والشَّنْفرى، وعروة بن الورد العبسي (وبقي في قبليته لفضلٍ فيه: كان يجمع فقراء عبس ومعوزيها ومرضاها، قاسماً بينه وبينهم مغانمه) . وجميع العرب إنما يندرجون من جِذمين كبيرين: قحطان، وعدنان . فمن قحطان: قضاعة وبَهْراء وبَلي نزلت في مساكن ثمود . وجذام وكلب وعاملة نزلت في حدود فلسطين . وعذرة نزلت بالقرب من تيماء ووادي القرى . ونزلت خزاعة في منطقة مكة . ونزلت بَجيلة جنوب الطائف . ومن عدنان: قريش في مكة، وثقيف في الطائف، وعبد القيس في البحرين، وبنو حنيفة في اليمامة، وتميم وضبَّة في صحراء الدهناء، وبكر وعشائرها الكثيرة في البلاد الممتدة من الشمال الشرقي للجزيرة إلى اليمامة والبحرين . وتغلب في شمال شرق الجزيرة، يجاورها بنو النمر بن قاسط . وأسد شمال نجد وتمتد عشائرها إلى تيماء . وكنانة وهُذيل قرب مكة.. ولذلك لم تكن معيشتهم واحدة، والحكم عليهم متفاوت . كما يلاحظ أن (الحضارة) عند أهل المدن ظاهرية تأثرية (سلبية)، لم تبلغ من العمق ومن القوة ما يجعل لها طابعها الخاص الذي تتسم به فتؤثر بالحضارات الأخرى أو تتفاعل معها. فحضارات اليمن: مَعين وسبأ وحِمْيَر، وفي الحِجْر: لحيان وثمود، وبترا:الأنباط، لم يحسنوا الانتفاع بميراثها، وما استطاعوا أن يبعثوا فيها الحياة كما كانت، وبقيت ظلالاً باهتة تشوبها الأساطير، يرون معالمها حيث كانوا يجوسون خلال ديارهم، ولم تطق حالتهم أن تبعث فيها الحياة: ففي السيرة، أشار سلمان الفارسي (ت:34 هجرية) على الرسول صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، حين جمعت قريش حلفاءها لغزو المدينة سنة 5 هجرية، حتى لا يستطيعوا اقتحام المدينة. وكان النضر بن الحارث وهو من بني عبد الدار (وقُتل في غزوة بدر سنة 2 هجرية)، قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، فإذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان لا يزال في مكة - مجلساً فذكر الله فيه وحذر قومه ما أصاب مَنْ قبلهم من الأمم من نقمه، قال: أنا والله أحسن حديثاً منه ! فيحدثهم عن ملوك فارس وأبطالهمالأسطوريين ( السيرة النبوية 1 /321 ) . كما عرفوا الضروب الأولية من المعرفة، التي تقوم على التجربة الناقصة: قال الجاحظ (عمرو بن بحر109 هجرية - 255 هجرية): "وعرفوا الأنواء ونجوم الاهتداء.. وسئلت أعرابية فقيل لها: أتعرفين النجوم؟ قالت: سبحان الله ! أما أعرف أشباحاً وقوفاً عليَّ كلَّ ليلة" (الحيوان 6/30) . وقال صاعد بن أحمد (ت: 435 هجرية): "كان للعرب معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغايبها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم" (طبقات الأمم 45 ). ونحو ذلك أيضاً هجرة المسلمين الهجرة الأولى إلى الحبشة سنة 2 هجرية عن طريق البحر، مما يعني معرفتهم بالطرق البحرية والأنواء . يضاف إلى ذلك إلمام العرب بالمعارف الطبية الأولية والمعارف الأولية في علم الحيوان (أفاد منها الجاحظ في كتاب الحيوان).. يبنون ذلك كله من تجربة متوارثة عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض، إلاَّ أنه ليس على قانون (مقدمة ابن خلدون 346 ) . ** ** ** وهذه القبائل جميعها، المتبدية منها والمستقرة، كانت تتخذ (الأحلاف) في نُظُمها. قال البكري (عبد الله بن عبد العزيز 401 هجرية - 487 هجرية): "فلما رأت القبائل ما وقع فيها من الاختلاف والفرقة وتنافس الناس في الماء والكلأ.. انضم الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير" (معجم ما استعجم 1 /53 ) . ومن أشهر الأحلاف في مكة "حلف المُطيَّبين"، تعاقَدَ فيه بنو عبد مناف وبنو زهرة وبنو تَيْم وبنو أسد ضد بني عبد الدار وأحلافهم . و"حلف الفضول" تحالفت فيه قبائل من قريش على ألاَّ يجدوا بمكة مظلوماً إلاَّ نصروه.. وغيرها كثير. وكانوا يكتبون الأحلاف والعهود والمواثيق. قال الجاحظ (عمرو بن بحر 109 هجرية - 255 هجرية): " كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة تعظيماً للأمر، وتبعيداً من النسيان" . ومن أشهر هذه العهود والمواثيق: صحيفة قريش التي تعاقدوا فيها على بني هاشم وبني عبد المطلب على ألاَّ ينكحوا إليهم ولا يُنْكحوهم.. ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم (السيرة لابن هشام 1 /375 ) . وبسبب ذلك كانوا يقدرون الوفاء، ويشيدون بحماية الجار لأنه استجار بهم وأعطوه عهداً أن ينصروه، وجعلهم ذلك يعظمون الأحلاف فلا ينقضوها . ولأن أفراد القبيلة جميعاً كانوا يضعون أنفسهم في خدمة قبيلتهم، كان على رأس مهامهم حق الأخذ بالثأر، بدافع عصيبة قبلية سيطرت على نفوسهم . قال دريد بن الصمة: وما أنا إلاَّ من غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ غَوَيتُ وإنْ تَرْشُدْ غزية أرشدِ فأدى ذلك إلى تعدد القتل فيما بينهم وفشا، وكثرت بينهم الحروب والوقائع . وكانوا يسمون تلك الحروب والوقائع (أياماً)، لأنهم كانوا يتحاربون نهاراً، فإذا جنَّ الليل أوقفوا القتال حتى الصباح. ووقائعهم وأيامهم كثيرة الدوران في كتب الأدب والتاريخ، جمعها أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت: 213 هجرية) ولم يصلنا كتابه، إنما وصلنا شرحه لنقائض جرير والفرزدق وفيه طائفة كبيرة منها . وتسمى هذه الحروب غالباً بأسماء البقاع والآبار التي نشبت بجانبها مثل يوم عَيْن أباغ وكان بين المناذرة والغساسنة، ويوم ذي قار وكان بين بكر والفرس، ويوم شِعْب جبلة وكان بين عبس وأحلافها من بني عامر وذبيان وأحلافها من تميم. وقد تسمى بأسماء ما أحدث اشتعالها مثل حرب البسوس بين قبليتي بكر وتغلب أواخر القرن الخامس الميلادي قبل الإسلام بنحو مائة عام ،وظلت أربعين سنة، (وكانت "سراب" وهي ناقة البسوس بنت منقذ التميمية ،خالة جساس بن مرة الشيباني من بني بكر بن وائل ، رعت في حمى أخيه كليب ،فرماها كليب فقتلها ،فهاجت الحرب بين الأخوين طويلاً. ونمتْ أساطير في العصور الإسلامية حول هذه الحرب، بطلها المهلهل أخو كليب سيد تغلب، عُرفت باسم "الزير سالم" . ومثل ذلك، حرب داحس والغبراء، وكانت في أواخر العصر الجاهلي بين عبس وذبيان، و"داحس"حصان قيس بن زهير العبسي، و"الغبراء"فرس حمل بن بدر الذبياني ،وكلاهما أبناء عمومة، فتراهنا على مائة ناقة أيَّ الفرسين أسرع. فنصب حَمْل لداحس كميناً عاقها عن الفوز، فنشبت الحرب بينهما أربعين عاماً ،وألفت عن عنترة شاعر عبس الأسطورة الشعبية المشهورة) . (فالنسب) هو العمود الرئيس الذي يجمعهم.وبدراسة علم (الأنساب) نعرف نمط التحالفات بين القبائل، أو أسباب العداوات فيما بينها، ونعرف خيط التناسل في القبائل والبطون والشعوب،كما نعرف الأيام والحروب التي دارت بينهم، بما حفلت به من أشعار ولغة وعادات وحتى علوم . (وبالتالي، نعرف، من باب آخر، لماذا احتفى العرب بتوثيق أنساب الخيل - عدة الحرب الرئيسة عندهم-). ** ** ** وكان أفراد القبيلة تجمعهم خلال كريمة تُعد من مناقب العرب، مثل :الحلم والوفاء وحماية الجار وسعة الصدر والإعراض عن شتم اللئيم والغضُّ عن العوراء، وما شيء عندهم كان يعادل خصلة الكرم، واشتهر بها منهم كثيرون، أشهرهم حاتم الطائي. وكان سادتهم يمثلون هذه الخصال، مضيفين إليها حنكة وحكمة، واشتهر منهم: عامر بن الظرب العدواني (وهو من المعمرين، وممن حرَّم الخمر على نفسه)، وأكثم بن صيفي التميمي ( وهو معمر أيضاً، توفي سنة 10 هجرية عن 190 عاماً). فشاعت عندهم الحكمة، بمعنى الخبرة، لا بمعناها الفلسفي، كما استقي بعضها من الديانات التي نستطيع معرفتها من خلال القرآن الكريم: قال تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) - الحج: 17- قال ابن حزم (علي بن أحمد الأندلسي 384 هجرية - 456 هجرية): "كانت قبائل عربية كاملة كثيرة العدد قد تهودت أوتنصرت" (جمهرة الأنساب 457). وفي حديث سويد بن الصامت (وهو ابن خالة عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خرج من المدينة إلى مكة قبل الإسلام)، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، فقال له: لعل الذي معك مثل الذي معي. فقال: وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان (سيرة ابن هشام 2 /68 بإسناد ضعيف، فيه مجاهيل)، فلم يلبث أن قتلته الخزرج يوم بعاث، وكان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قد قُتل مسلماً. فبعيد قول أبي عمر (يوسف بن عبد الله ابن عبد البر 368 هجرية - 463 هجرية) في الاستيعاب في معرفة الأصحاب: "أنا أشك في إسلامه كما شكَّ فيه غيري ممن ألَّف في هذا"، فقوم الرجل أدرى بأحواله. وفي القرآن الكريم آيات أخرى تشير إلى أن بعض العرب عَبَد الجن والملائكة لتشفع لهم عند الله: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) - سبأ: 40،41 - . وقال تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجِنة نسباً) - الصافات:158 - . وطائفة أخرى التمسوا دين إبراهيم عليه السلام، وعُرفوا بالأحناف أو الحنفاء. وكان دين إبراهيم عليه السلام اندثر وبقيت منه أمور: كالختان، وحج البيت، والإهلال بالحج والعمرة، وعُرف منهم: قس بن أبي ساعدة الإيادي، وكان دعا إلى التوحيد، وحضَّ على ترك مفاسد عصره، وقال من خطبة له: "أين المعروف الذي لم يُشْكَر، والظلم الذي لم يُنْكَر. أقْسَم قسٌّ قَسَماً بالله إن لله لدينٌ هو أرضى من دينكم هذا" (البيان والتبيين 1 /308 ). وصرمة بن أبي أنس الأنصاري، وكان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، واعتزل الحُيَّض من النساء، وأسلم وهو شيخ كبير، وعاش نحواً من مائة وعشرين عاماً. وأمية بن أبي الصلت الثقفي (ت:2 هجرية أعقاب غزوة بدر)، وكان يطمح إلى النبوة. وفي حديث أبي سفيان (صخر بن حرب القرشي 30 هجرية) أنه قال له كالمستهزيء: يا أمية، قد خرج النبي الذي كنت تنعته، فما يمنعك من اتباعه؟ قال: يمنعني الاستيحاء من نساء ثقيف، إنني كنت أحدثهن أني هو، ثم يرينني تابعاً لغلام من بني عبد مناف (كان عمر الرسول صلى الله عليه وسلم أربعين عاماً، وأمية شيخ في السبعين أو الثمانين). إلاَّ أن الأحناف لم تكن طائفة دينية لها مبادؤها فتسير على شريعة ثابتة، ولم يكن لها كتاب محدد تسيرعلى نهجه، لكنها كانت تمثل بحق الطبقة المثقفة في عصرها. وبذلك نفهم قول أبي الفرج الأصفهاني (علي بن الحسين 284 هجرية - 356 هجرية): "ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمرة استحياء بما فيها من الدنس" (الأغاني8/5). كما عدَّد محمد بن حبيب البغدادي (ت:245 هجرية) أسماء من ترك الخمرة في الجاهلية من أشراف قريش (المحبر237، وانظر نهاية الأرب للنويري 4 /111). ووراء ذلك كانت الأعراب والدهماء والمشركين وأهل الأصنام من الناس، لبعضهم عقائد انتقلت إليهم من الأمم البائدة، لكن التأثر شيء والإيمان بالعقيدة شيء آخر. وهم طوائف: فمنهم من أنكر الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني، قال تعالى: (وقالوا إن هي إلاَّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) - الأنعام: 29 - ، وقال تعالى : (وقالوا إن هي إلاَّ حياتنا الدنيا وما يهلكنا إلاَّ الدهر)- الجاثية: 24 - . وصنف أقر بالخالق وأثبت حدوث العالم وأنكر البعث والإعادة، قال تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) - يس: 78 - . وصنف أنكر الرسل وعبد الأصنام تقرباً من الله، قال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى)- الزمر: 3 - . ** ** ** وعرب الجاهلية كانوا يكتبون في جاهليتهم، ثلاثة قرون على أقل تقدير، بهذا الخط الذي عرفه بعد ذلك المسلمون. لكن الكتابة لم تعرف النقط والإعجام حتى زمن عبد الملك بن مروان (ولي سنة 65 هجرية - 86 هجرية)، قال الأصفهاني حمزة بن الحسين الأصفهاني (280 هجرية - 360 هجرية)، في كتاب "التنبيه على حدوث التصحيف والتحريف" إنَّ الحجاج بن يوسف الثقفي (41 هجرية - 95 هجرية) أمر كُتَّابه أن يضعوا الحروف المشتبهة (مثل الياء والتاء والثاء والنون) علامات تميزها. لكن يعكر هذا قول ابن الجزري (محمد بن محمد الدمشقي 751 هجرية- 833 هجرية) في خبر كتابة مصحف عثمان: " أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين". وهذا نظرٌ خاص ليس على إطلاقه. فإهمال النقط كان شائعاً في العهود الإسلامية قروناً متوالية، بل عدَّ بعضهم الإعجام والتنقيط مما لا يليق في الكتب والرسائل، لأنه يدل على أن الكاتب يتوهم فيمن يكتب إليه الجهل وسوء الفهم. قال أبو بكر الصولي (محمد بن يحيى ، ت: 335 هجرية) في أدب الكاتب: كره الكُتَّاب الشكل والإعجام إلاَّ في المواضع الملتبسة من كتب العظماء إلى من دونهم، فإذا كانت الكتب ممن دونهم إليهم تُرك ذلك في الملتبس وغيره، إجلالاً لهم عن أن يتوهم عنهم الشك وسوء الفهم ،وتنزيهاً لعلومهم وعلو معرفتهم عن تقييد الحروف. وحقاً كان يوجد معلمون، لكن ذاك ليس فاشياً. قال ابن فارس (أحمد بن فارس القزويني 329 هجرية - 395 هجرية): وما العرب في قديم الزمان إلاَّ كنحن اليوم: فما كلُّ يعرف الكتابة والخط والقراءة (الصاحبي 8 /11 ). وقد أثبت ابن حبيب (محمد بن حبيب البغدادي، ت:245 هجرية) في"المحبر" 475، وابن رستة(أحمد بن عمر ،ت:301 هجرية) في "الأعلاق النفيسة" 416 جريدة بأسماء المعلمين في الجاهلية. وقالوا: كل من كان يُحسن العوم والرمي والكتابة يسمى كاملاً ( طبقات ابن سعد 3 /2 ). لكن لا يعني ذلك أن كل عربي كان كاتباً، ولا الكثرة الغالبة كانت كاتبة، إنما نقصد أن الكتابة أمراًمعروفاً مألوفاً شائعاً، كما كانت الأمية شائعة منتشرة. ** ** ** وأصل العلم عندهم أن ينقل حفظاً وسماعاً ،فلا يُقبل من صحفي ،وهو الذي ينقل من صحيفة، لأنه يوقع في الوهم والتصحيف.وتقييد المسموع كان لمجرد التذكر والحفظ ،فكل امريء يكتب لنفسه لا للناس.قال الجاحظ (عمرو بن بحر 109 هجرية- 255 هجرية):ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حَوْلاً كريتاً وزمناً طويلاً يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلِّب فيها رأيه..وكانوا يسمُّون تلك القصائد :الحوْليات والمقلَّدات والمنقَّحات والمُحكمات (البيان والتبيين 2 /9 ). وقال ابن جني (عثمان بن جني الموصلي 322 هجرية- 392 هجرية):ليس جميع الشعر القديم مرتجلاً.بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه ،والملاطفة له،والتلُّوم على رياضته ،وإحكام صنعته نحوٌ مما يعرض لكثير من المولَّدين. ألا ترى إلى ما يُروى عن زهير، من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين ،فكانت تُسمى حوليات زهير،لأنه كان يحوك القصيدة في سنة( الخصائص 1/330 ). ** ** ** لكن معرفة أهل الجاهلية بالكتابة وشيوعها عندهم ، لا يعني أنهم اتخذوها وسيلةً أساس في حفظ أشعارهم ،لأن اعتمادهم إنما كان على (الرواية الشفوية) الأداة الطبيعية في نشر الشعر وذيوعه. فكان ضربٌ من الشعراء يلزم شاعراً فحلاً يروي عنه ،فتكوَّنت عن ذلك مدرسة شعرية،لها طابع خاص: فأوس بن حجر التميمي ،أخذ عنه زهير بن أبي سُلْمى المزني، وأخذ عن زهير ابنه كعب والحُطيئة العبسي ،وعن الحُطيئة أخذ هُدْبة بن الخَشْرم العذري، وعن هُدبة أخذ جميل بن مَعْمر العذري صاحب بثينة ،وعن جميل أخذ كُثَيِّر بن عبد الرحمن الخزاعي صاحب عزة (الأغاني 8 /91 ). والأعشى البكري كان راوية خاله المسيَّب بن عَلَس وهو من ربيعة (الشعروالشعراء 1 /127 الموشح 51 ). كما كان أفراد القبيلة يهتمون برواية شعر شعرائهم ،لأنه يسجل مناقبهم وانتصاراتهم ويسجل مثالب أعدائهم ،حتى هجا بعض "بني بكر" قبيلة تغلب لكثرة تردادها قصيدة شاعرها عمرو بن كلثوم ، فقال: ألْهى بني تَغْلبِ عن كلِّ مكرمةٍ قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومِ ولما جاء الإسلام استمر الصحابة في رواية الشعر الجاهلي ،وكانوا جميعاً ممن شهد الجاهلية وعاش فيها دهراً طويلاً، ففي حديث جابر جابر بن سَمُرة ،وإسناده صحيح ،أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتذاكرون الشعر وحديث الجاهلية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وربما تبسَّم. وكان أبوبكر الصديق عالماً بأنساب العرب وأشعارها ،وكان عمر بن الخطاب قلَّ أمرٌ إلا ذكر فيه شعراً. وهذه المرحلة تعني مجرد حفظ الشعر ونقله وإنشاده ، ولاتتجاوز إلى ضبطه وتحقيقه والنظر فيه وتمحيصه . ولما اتسعت الدولة الإسلامية ، كانت قواعد العلم الكبرى قائمة في الكوفة وفي البصرة،(لكثرة من سكنهما من الصحابة)، وهما المدينتان اللتان تمَّ تمصيرهما على عهد عمر بن الخطاب ما بين سنة 14 - 17 هجرية . وما جاء منتصف القرن الثاني من الهجرة ،إلا وفيهما وفرة من جبال العلم ،لكن كان علمهم أقلُّه ما قيدوه كتابة ، وأكثره ما كانوا يتحدثون به،إذ قلَّ اهتمامهم بتأليف الكتب ،وأكثرهم سار علمه في الناس بكثرة من أخذ عنه وسأله. قال ابن النديم ( محمد بن إسحق البغدادي ،ت :385 هجرية):لم يُرَ لحماد ( الراوية ،وهو حماد بن سابور الديلمي 75هجرية - 160 هجرية) كتاب ،وإنما روى عنه الناس وصُنفت الكتب بعده (الفهرست 135 ). وسنضرب مثالا يبين ذلك: الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 هجرية-170 هجرية) كان أحد ورثة العلم الكبار، ومع ذلك فإنه لم يؤلِّف إلا كتباً صغاراً ضاع جميعها ،مع أنه أول رجل في الأرض وضع الأساس الكامل لتأليف معاجم اللغة "معجم العين"( أخذه عنه الليث بن نصر بن يسار فحشَّى الكتاب وتبعه الناس) . وضبط نغم الكلام باختراعه علم العروض، (فأخذه عنه الأخفش سعيد بن مسعدة ،ت: 215 هجرية فبسَّط العلم ومدَّه واستوعبه وتبعه الناس ،وضاع قليل ما كتب الخليل) واهتدى بفضله إمام الموسيقى إسحق بن إبراهيم الموصلي (150هجرية - 235 هجرية) إلى ضبط الموسيقى ،بما نعرفه اليوم "بالنوتة الموسيقية".وأرسى قواعد علم النحو والعربية (فحملها عنه سيبويه ت: 180هجرية في كتابه "الكتاب"ولولا الخليل لما كان "الكتاب"). والرواية إنما انتقلت إلي الخليل،عن طريق أبي الأسود الدؤلي ،وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام (ت:سنة 69هجرية)،عن طريق قتادة بن دعامة السدوسي (60 هجرية- 118 هجرية) وغيره من جبال العلم الثقات. فأولئك هم نقلة الشعر بالبصرة ،يتوارثونه خلفاً عن سلف،استمراراً للرواية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يتلقفونها عمن تقدمهم ويورثونها لمن خَلفهم ،رواية متصلة ،مسلسلة محكمة،حريصين عليها ،معنيين بها. ** ** ** قال ابن سلام (محمد بن سلام الجُمحي 139 - 231 هجرية):"وفي الشعر مفتعل موضوع كثير لا خير فيه..وقد تداولَه قوم من كتاب إلى كتاب ،لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء،وليس لأحد..أن يقبل عن صحيفة أو يروي عن صحفي..وقد وجدنا رواة العلم يغلطون في الشعر، ولا يضبط الشعرَ إلا أهله". فهو ينهى عن قبول شعر العرب من كتاب مكتوب،ويقتصرعلى الأخذ سماعاً من أهل العلم والرواية الصحيحة. لأن في ذاك الشعرموضوع كثير لاخير فيه ،بل ليس قِسماً من الشعر ـ إنما هو كلامٌ موَّلد مفتعل مؤلف معقود بقواف . ** ** ** ولعل مرجليوث (ديفيد صمويل 1858 م- 1940 م) هو من أوائل من أثار الشك في الشعر الجاهلي من المحدثين ،في مقالة نشرتها مجلة الجمعية الملكية الأسيوية /عدد يوليو سنة 1925 م ،صفحة 417 - 449 بعنوان "أصول الشعر العربي" رجح فيها أن هذا الشعر الذي نقرأه على أنه شعر جاهلي ،إنما نُظم في العصور الإسلامية، ونحله هؤلاء الواضعون لشعراء جاهليين. ثم تلقف طه حسين(1889 م- 1973 م) ذلك ووسَّع الكلام، فكاد يُلغي كل الشعر الجاهلي برمته.وحجته الواهنة تتلخص في أن الشعر الجاهلي إنما وصلنا بصيغة واحدة (قُرشية) انتفت منها خصائص لغات القبائل الأخرى ،رغم أنها لم تتوحد إلا في الإسلام. متناسياً أن الشعراء على اختلاف قبائلهم وتباعدها وتقاربها إنما ينظمون شعرهم بلهجة أدبية عامة واحدة ،ومن ثم اختفت جملة الخصائص التي تميزت بها كل قبيلة في لهجتها ،ولم تتضح في شعر شعرائها إلا قليلاً جداً.( اليوم توجد على امتداد الوطن العربي لهجات متعددة ،تنتظمها الصحافة ووسائل الأعلام بلهجة واحدة فصيحة غير معقدة). كما تناسى السبب الديني ( وجود الكعبة)في مكة ،والسبب الاقتصادي ( الأسواق التجارية) اللذان عززا مكانة قريش فسادت بالتالي لهجة أهل مكة منذ أوائل القرن السادس الميلادي.قال أبو الفرج الأصفهاني (علي بن الحسين 284 هجرية- 356 هجرية):كانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه كان مقبولاً ،وما ردوه منها كان مردوداً ( الأغاني 21 /112 ط، ساسي). وقال: إن الشعر بعيد عن حياتهم الدينية وعن الشعور الديني القوي والعاطفة المتسلطة على النفس.كما أنه لا يصوِّر حياة الجاهليين العقلية والسياسية والاقتصادية . فغاب عنه أشعار أهل الديانات والأحناف والعباديين أهل الحيرة ،وفاته أن كتاب "الأصنام" لابن الكلبي (هشام بن محمد ،ت: 204 هجرية) فيه وفرة تصوِّر حياتهم الوثنية تصويراً دقيقاً. وأن الحياة العقلية غير المعقدة ،ماثلة بوضوح في أشعارهم. وأن شعراء نجد والحجاز كانوا يتصلون بالغساسنة أتباع الروم ،وبالمناذرة أتباع الفرس، يمدحونهم ويهجونهم.(في يوم ذي قار هددت قبيلة بكر فارس وانتصفت منها). كما عبَّرت أشعار الصعاليك عن أحوالهم وظروف معيشتهم. وذهب الأستاذ محمود محمد شاكر(1909 م- 1997 م) إلى أن (التذوق) وحده هو الفيصل الحكم في صحة الشعر الجاهلي ، وواجبنا اليوم أن يكون هو أساس عملنا في جميع آثار أسلافنا..وإلا يكن هذا حقاًّ محضاً فكيف يمكن أن يقع التمييز بين شعر امريء القيس، وشعر طرفة،وشعر زهير، وشعر النابغة ،وشعر أبي تمام ،وشعر البحتري، ومن شئت من الشعراء؟ إلا بهذا العمل الدائب في ممارسة الكلمات ، واستنباط الخفيَّ من أسرارها، وتذوِّق أساليبها. وضرب على ذلك مثلاً: فإن الله سبحانه حين ابتعث نبيه صلى الله عليه وسلم ،لم يجعل للناس دليلاً على صدق نبوته يطالبهم بالإيمان به ،سوى ما نُزِّل عليه منجَّماً على ثلاث وعشرين سنة. وطالب عبادَه من عرب الجاهلية أن يتبيَّنوا أن ما نُزِّل إليه هو كلام الله المفارق لكلام البشر على اختلاف ألسنتهم..وفوَّض أن يحكُموا على قليله منذ بُعث ،بأنه وحْي أوحاه الله لايُطيق أن يأتي بمثله أحد،إلا عن طريق التذوق..لا في تمييز كلام رب العالمين من كلام البشر،بل في تمييز كلام رسول الله من كلامه هو نفسه قبل البعثة ،ومن كلام سائر العرب في زمانه وبعد زمانه..وهذا دال على أن هذا القدر من التذوق كان عاماًّ ،وأنه كان كائناً فيهم من قبل نزول القرآن: ففي صحيح مسلم، من حديث ابن عباس، أن "ضماداً" قدم مكة ،وكان من أزد شنوءة ،فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون :إن محمداً مجنون ! وكان يَرقي من الجنون ومسِّ الجن ،فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي ! فلقيه ،فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنَّ الحمدَ لله، نَحمده ونستعينه ،من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمداً عبده ورسوله. فقال " ضماد": أعِد عليَّ كلماتك هؤلاء. فأعادهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ،فقال" ضماد": لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء ،فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء.هات يدك أبايعك على الإسلام. فاستدل على صدق النبوة بقدرته على التمييز بين كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمس في الجاهلية وكلامه اليوم ،قبل أن يسمع كلام الله ! والتذوق إنما نشأ فيهم نتيجة دهور متطاولة من تذوّق البيان في أوسع نطاق وأشمله..وكان شاملا حتى من مواليهم من غير العرب ( كان سُحيم عبد بني الجسحاس ،عبداً حبشياً مُغلَّظاً ،أعجمياً ألكن ،يقلب الشين سيناً ،وهو حلو الشعر عبد من عبيد الشعر( طبقات فحول الشعراء 187 ). ** ** ** وبقي الحديث عن (المرأة)، وقد جعلته آخراً لأن فيه فضل كلام. ** ** ** |
رد: نظرات في العصر الجاهلي
مبحث ثري ، وسياحة رائعة رائقة..استفدتُ كثيرا من هذا العرض القيم أستاذنا الجليل..شكرا لك ثم شكرا..مودتي..
|
رد: نظرات في العصر الجاهلي
شكرا أستاذي الجليل منذر أبو شعر
على هذا السرد الثري لماضينا الذي استفدنا منه كثيرا...ونحن دائما معك قلبا ولسانا بما ذهبت اليه تحياتي وتقديري أخي العزيز أخوكم سلمان الراجحي |
رد: نظرات في العصر الجاهلي
الأديب العزيز منذر أبو شعر
دراسة قيّمة للغاية، أعتقد بأنّ هناك ضرورة للاحتفاظ بها والعودة إليها المرّة تلو الأخرى. دراسة ليست للقراءة لمرة واحدة فقط وهي بمثابة مرجع علميّ قيّم للغاية. سلمت أديبنا العزيز ودام عطاؤك بيننا. خالص التقدير والعرفان.ِ |
رد: نظرات في العصر الجاهلي
الشاعر الحر أخي محمد الصالح صوت الجزائر:
تهيبت بداية من الإقدام على هذه الخطوة في التعريف بالعصر الجاهلي ،الذي قدَّم للإنسانية تراثاً ( معنوياً) رفيع القيمة.وخفت أكثر أن يستفيض الكلام ويتسع ،فيصبح كتاباً وليس مقالاً .. وكنتُ في غاية الامتنان ،وقتما وجدتُ عيناً مُدركة لأبعاد ما كتبت. والخير كله لك،ونبقى مع صدق الحديث. |
رد: نظرات في العصر الجاهلي
مهندس شجن الحرف ،أخي سليمان نخل عراق الخير:
وقتما نعرف صحة بداياتنا ،نستطيع تلمُّس غد ،بخطوة أوثق، ويقينٍ أكثر عمقاً ونضجاً،يتسع ثقافات الدنى ،وينتظم معها في تشكيل بديع رائع. والخير كله لك، ونبقى مع طيب صدق الحديث. |
رد: نظرات في العصر الجاهلي
الأستاذ الأديب الراقي أخي خيري ،عين جمال شاعرية الحرف:
روعة جمال وقتما تجد صدى صوتك يأخذ أبعاد رؤى ،تتلمسها وتجسها روح نبض حياة. فحضورك راقٍ دائماً، يحمل لمسات الدفء والخير والحياة. والشكر كله لك،ونبقى مع طيب صدق الحديث. |
رد: نظرات في العصر الجاهلي
[align=justify]
الغالي المثقف المستنير دكتور منذر [gdwl]كما لا يصح أن يكون الكلام عن المجتمع الجاهلي واحداً في الحكم عليه، لتفاوت مجتمعات القبائل في تأثُّرها بأساليب الحضارة من حولها: فقد نجد قبيلة ماهي إلاَّ جماعات من الأعراب، يسكنون الخيام، ويقطنون الصحراء، لا هَمَّ لهم إلاَّ الغزو وانتجاع الكلأ، وقبائل أخرى كثيرة تسكن في الحواضر والقرى، بل كثيراً ما نجد قبيلة واحدة تحيا حياتين مختلفتين: قسم منها يتحضر ويستقر ويسكن المدر، وقسم منها يبقى في أهل الوَبَر، كجُهَينة ونَهْد ومُزَينة وهُذيل[/gdwl]من دواعي فخري واعتزازي هذه الدراسة القيمة القمّة التي تفضلت بالبدء بها في نور الأدب وأعتذر جداً للتأخر عليك، فوالله أعاني من نوبة ربو حادة والتهاب الشعب الهوائية ما تقوم به عبر هذه الدراسة عمل عظيم جداً في مجال إعادة تنقيح التاريخ وبإذن الله قريباً يتم استحداث قسم مخصص أرجو من الجميع الانتباه لهذا الجانب الشديد الأهمية [/align]أعمق آيات تقديري واحترامي |
رد: نظرات في العصر الجاهلي
الأستاذة الأديبة هدى الخطيب: سلامتك.. وهل يعرف عارض المرض إلاَّ القلوب الرقيقة ؟! سلامتك ثانية وثالثة وعاشرة..ودائماً تطوقين عنقي بكرم حسن لطفك ،فأعجز عن كل كلام. والخير كله لك،ونبقى مع طيب صدق اللقاء. |
رد: نظرات في العصر الجاهلي
الفاضل الدكتور منذر مساء الخير , لعل دراسة التاريخ من أعقد الدراسات , وأصعبها لأنه العلم الموسوعي الشمولي الوحيد الذي يتناول حركة الإنسان ونشاطه سيرورة , وصيرورة بحالتي الفعل والانفعال في الزمان والمكان .
إنه الفكر واللغة , والفن والأدب والدين والاقتصاد والسياسة , والانتاج وأدواته والطبيعة والمناخ والجغرافية وعلاقة هذه الحالات مع الإنسان المجتمعي بشكلها الشمولي , والجزئي . وهو أكثر علم تعرض للتزوير , والتدليس , والتشويه , وتنازعته الأهواء والرغبات , والغايات السياسية والدينية وغيرها . فالأمر ليس بالهين واليسير , سيما بتاريخنا الذي يعتبر حالة فردة لما تعرض له من نوازع أهواء , وأمزجة , واستشراق , وتدليس. وبكونه صار مرتكزًا للاحتراب , والتقاتل بدل أن يجمعنا ويوحدنا . أخي الفاضل قرأت ماتفضلتم به وبإمكاني أن أقدر الزمن , والجهد , والتعب , ومابذلتم حتى أخرجتم هذه الصفحات .التي أشكركم عليها فهي موثوقة لأنها من حصيف أريب , وقامة وطنية أدبية معروفة . لكن دعونا نتخيل كم يلزمنا لإعادة غربلة التاريخ , وتوثيقه وكم نحتاج لوقت , وكفاءة , وموضوعية , وتجرد ... أخي الحبيب الدكتور منذر قراءة متقدمة جدًا وموضوعية استوفت حصتها من المقارنة والتحقيق والجميل فيها بأنك وصَّفت العصر بعجره وبجره واستعرضته من دون أن تطرح رأيك فيه مباشرة وهذا يحسب لك كباحث ومحقق .. وعلينا أن نقر بصعوبة البحث في العصر الجاهلي تحديدًا لأن أغلب مصادرنا تعتمد على ما تواتر من أدب جاهلي , ومراجع إسلامية ..أضفت على العصر إرهاصات دينية , استغرق بعضهم بتكريسها لتظهير الإسلام بأنه على طرفي نقيض مع العصر الجاهلي .. وأمعن في ذلك بعض المستشرقين لغايات مختلفة . وأعتقد بأننا في لحظة ما سنحتاج للجنة تحكيم حصيفة وعاقلة ربما تتمكن من الفصل بين الغث والثمين . سعيد بمروري بمتصفحكم أخي الفاضل , وأثابكم الله , ثواب الصالحين وأعتذر منكم لتأخري بالقراءة والرد لأسباب تعرفونها . حسن إبراهيم سمعون |
الساعة الآن 33 : 02 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية