منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   مدينة د. منذر أبو شعر (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=489)
-   -   بداية ونهاية لنجيب محفوظ (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=25845)

د. منذر أبوشعر 28 / 08 / 2013 41 : 09 PM

بداية ونهاية لنجيب محفوظ
 
تدور أحداث رواية (بداية ونهاية) سنة 1936م،أي قبيل الحرب العالمية الثانية
(1939م- 1945م) فترة الأزمة الاقتصادية العالمية، ومحاولة الطبقة الشعبية والطبقة المتوسطة في مصر الصعود إلى الطبقة الأرقى.وكتبت عام 1949م وكان عمر نجيب محفوظ 38 عاماً،وأخرجها سينمائياً سنة 1960م صلاح أبوسيف (1915م- 1996م) مخرج الواقعية في السينما المصرية، من بطولة: عمر الشريف، وفريد شوقي، وأمينة رزق.
والبداية: هي وفاة الأب كامل أفندي علي،الموظف البسيط في وزارة المعارف، الفقير، المهاجر من دمياط (أقصى شمال مصر)، القاطن في حي شبرا الشعبي شمال القاهرة. يتركهم براتب محدود لايتجاوز خمسة جنيهات في الشهر،المورد الوحيد لرزق عائلته، ويُستنفد في ضرورات الأسرة.
وفي غيبة التأمينات الاجتماعية،وبسبب انتشار الفساد والاستغلال، تتعقد الأمور أمام الأسرة، ويعاني أفرادها من وطأة الحرمان وأوضاع المجتمع القاسية.
فينتهي حسن الابن الأكبر إلى حياة الرذيلة تاجراً للمخدرات والنساء. ويضطر أخوه الأوسط حسين إلى العمل بشهادته المتوسطة لإتاحة الفرصة أمام أخيه حسنين لإتمام دراسته والالتحاق بالكلية الحربية. أما الابنة نفيسة الأدنى إلى الدمامة، فيطردها سلمان جابر سلمان صبي البقالة التي تقع قبل عمارتهم بقليل من حياته بعد أن زلت معه، فتحس أنها انتهت،وأنها كانت شيئاً وليست الآن شيئاً على الإطلاق: عدمٌ مخيفٌ ويأسٌ قاتلٌ، ويبدو لها الأمر كحلم، أو هذيان مرض، أو حالة لا تمتُّ بصلة إلى عالم الحقيقة.
ثم تستمريء طريق الرذيلة، دون علم أحد، وتساعد أخاها حسنين وأمها بالمبالغ القليلة التى تحصل عليها.
ولمَّا يتخرج حسنين ضابطاً،يتنكر لأسرته وخطيبته ووسطه الإجتماعي ويتطلع إلى الارتباط بالطبقة الثرية، عن طريق الزواج من ابنة الأرستقراطي أحمد بك يسري، فيُجابه بالرفض لسلوك أخيه الشائن ووضاعة عمل أخته،ويقال له: أخوك قاطع طريق، وأختك خيَّاطة، وتريد بعد هذا أن تتزوج من كريمة بك قد الدنيا !
ويعود حسن جريحاً مطارداً من البوليس إلى أسرته.
ويستدعى حسنين فى نفس الوقت إلى قسم البوليس ليجد أخته متهمة بالدعارة، فيدفعها للانتحار غرقاً تخلصاً من الفضيحة،ويُلقي بنفسه في النيل وراءها.
(فالبداية) موت الأب، و(النهاية) تفسخ الأسرة وانهيارها.
وسنسرد وصف الشخصيات ،بعبارة نجيب محفوظ على الغالب،إلا ما اقتضاه السياق من تغيير جزئي لا يُخلُّ إن شاء الله بجمال روعة التعبير:
1 الأم: محور البيت الأول. ظاهرها يدل على الحزم والقوة، وباطنها يندى رحمة وعطفاً. كانت تقوم بدور الأب، على حين كان الأب أوتي حنان الأمهات وضعفهن. وجهها نحيل بيضاوي، وبأنفها القصير الغليظ، وذقنها المدبَّب، وجسمها النحيل القصير، توحي أنها وهبتْ الأسرة خير ما فيها، فلم يبق من حيويَّتها إلا نظرة قوية تنمُّ عن الصبر والعزم.
وكان التغيُّر الطاريء عليها من العمق بحيث يتعذر تصوُّر ما كانت عليه أيام شبابها. فهرمت في عامين كما تهرم في نصف قرن من الزمان، فنحلت وهزلت حتى استحالت جلداً وعظاماً. لكنها لم تعرف الشكوى، ولم تتخلَّ عن سجاياها الجوهرية من الصبر والحزم والقوة، لائذة بإيمان لا يتزعزع، متشبثة بأهداب أمل لا بد أن يتحقق وإن طال انتظاره.
2 حسن،ابن الشارع كما يسميه أبوه في ساعات الغضب،وأبو علي كما يسميه أصحابه، والروسي كما يسميه الفتوَّات لأنه صرع أحدهم برأسه: فتوَّة درب طيَّاب في حي القلعة جنوب القاهرة، الابن الأكبر، في الخامسة والعشرين من العمر. كان كبير الثقة بنفسه،وفي طبعه تفاؤل لا يدري من أين يأتيه.
يشبه أخواه إلى حد كبير،فوجهه حسنٌ كشقيقيه،إلى جسم طويل مفتول العضلات عريض العظام. بيد أنه اختلف عنهما في نظرة عينيه التي تنمُّ عن جرأة واستهتار، فضلا عن أنَّ طريقته في ترجيل شعره الكثيف المنفوخ ولبس البدلة، دلَّت على عنايته بنفسه من ناحية، وعلى قدر غير قليل من الابتذال من ناحية أخرى.
ويقول محفوظ: كانت البدلة حسنة وإن لم تخل من بقع باهتة عند ثنية الركبة.ابتاعها له أبوه لمَّا هدَّده أنه سيمشي في الطرق باللباس والفانلة ويقتحم عليه مجلسه بقصر أحمد بك يسري شبه عار، فأذعن على مضض وكلَّف الخيَّاط بأنْ يفصِّلها له. كان يربط رقبته ببابيون فبدا القميص في حال لا يُحسد عليها.وكان شعره أعجب مافيه: فقد تركه حتى غزر واسترسل وتصاعد في جعودة، جعلت منه رأساً مستقلا فوق الرأس الأصلي.
وكان في البدء ضحية لفقر أبيه وتدليله، فلم يُبعث إلى المدرسة إلا في سن متأخرة. وسرعان ما ظهر تمرُّده على الحياة المدرسيَّة، وتكرر هروبة منها. وتوالى سقوطه عاماً بعد عام،حتى انقطع عنها ولم يجاوز السنة الثالثة. واستحال ما بينه وبين أبيه إلى نقار وشجار ثم إلى ما يشبه العداوة الحقة، فكان يطرده أحياناً من البيت فيقضي أياماً متسكعاً، ثم يعود إلى البيت وقد اكتسب شروراً جديدة من مخادنة الأشقياء والغوص في الإثم وهو دون العشرين.
ولمَّا بلغ اليأس من أبيه مداه ألحقه بحانوت بقال فمكث به شهراً ثم طرده صاحبه بعد معركة كاد يذهب الحانوت ضحية لها. ثم عمل في شركة سيارات وطُرد منها إثر عراك أيضاً. ولم يعد يأبه لا بغضب أبيه ولا بحزم أمه، ففرض نفسه على البيت فرضاً، يلقى سخطهم باستهانة أو بدعابة أو بشجار،ولكنه لا يتزحزح ولا يبحث جاداًّ عن عمل.وبدا وكأنه لا يعمل للمستقبل حساباً،وظل سارداً مستهتراً حتى فاجأه موت أبيه.
وكان وثنياًّ بالفطرة، لم يتأثر بأي نوع من التربية أو التهذيب. وقد طُبع على العبث، فلم يعد قلبه تربة صالحة لبذور العقيدة، وما انفك يتخذ منها مادة لمزاحه ودعابته، وحتى الأثر الخفيف الذي علق بقلبه من وحي أمه ضاع في خضم الحياة التي اكتوى بنارها.
إلا أنَّ شعوره برابطة الأسرة كان ولا يزال قوياًّ بفضل الأم مثل كل شيء، ولم يبغض أباه قط، رغم ما كان يقع بينه وبين والديه من شقاق وملاحاة بسبب حياته المضطربة المستهترة..كان حب أسرته العاطفة الشريفة الوحيدة التي يخفق بها قلبه، ولعلها الأثر الوحيد الذي تركته أمه في خلقه.
ولمَّا أتى لعنده أخوه حسنين وطالبه بتغيير نمط حياته إلى حياة شريفة، قال له هازئاً:- حياة شريفة، حياة شريفة ! لا تعد هذه العبارة على سمعي فقد أسقمتني ! حياتك أنتَ غير شريفة ! أنتَ لتلك المومس التي هي في حكم زوجتي ! جعلتْ منكَ ضابطاً بنقود مُحرَّمة مصدرها منها ومن تجارة المخدرات ! فمن العدل إذا كنتَ ترغب حقاًّ في أن أقلع عن حياتي الملوَّثة، أن تهجر أنتَ أيضاً حياتك الملوَّثة، فاخلع هذه البدلة ولنبدأ حياة شريفة معاً !
ويصفه محفوظ عندما عندما تربص له بعض أعدائه في بعض الأماكن التي يقطنها مستخفياً، فانقضوا عليه غدراً وسلبوه ماله ولاذوا بالفرار، فيأتي إلى منزل أهله جريحاً، بعِصابة قذرة تطوِّق رأسه وتنزُّ دماً:
ولما انحسرت العِصابة من وجهه بدتْ بشرة شاحبة يشوبها زرقة تثير من الأعماق ذكرى الموت، وتعلوها فوضى مخيفة من شعر نابت وآثار التهاب، ولكن العينين المغمضتين رمشتا في إعياء فلاحت خلال أهدابهما نظرة واهنة. وألقى عليه حسنين نظرة متفحصة، فرأى العِصابة المخضَّبة بالدم تخفي رأسه وجبهته وجانباً من صفحتي وجهه فلا تبدو إلا عيناه المثقلتان بالإعياء والذبول وذقنه النابتة الشعر، وقد فغر فماً تتردد فيه انفاس ثقيلة محشرجة، على حين تمزق رباط رقبته وجيب الجاكتة وانتثرت خيوط الأزرار، وراحت يمناه تنقبض وتنبسط ،ويئن بين آونة وأخرى. وكانت الأم تردِّد بين الراقد وبين حسنين نظرة حائرة زائغة فزعة، ومع أنها كانت مطبقة الفم إلا أنه سمع لنظرتها تلك صرخة مدوِّية تمزِّق نياط القلب.
3 حسين: الابن الأوسط، في التاسعة عشرة من العمر. يشبه أخاه حسنين لدرجة كبيرة، فكلاهما له هذا الوجه المستطيل، وعينان عسليتان واسعتان، وبشرة سمراء ضاربة إلى العمق، لكنه دون أخيه طولا.
وهو شاهد على حزم الأم وحسن تربيتها.
ويضطر إلى العمل كاتباً بمدرسة طنطا الثانوية بشهادته المتوسطة ليُكمل أخوه حسنين دراسته. ولمَّا يعود من طنطا لزيارة عائلته، كان قد ازداد وزنه، وربَّى شاربه بطول شفتيه وعرض فمه، مما أكسبه مظهر رجولة وقور جعله أكبر من سنه. ويقول محفوظ: ابتسم ابتسامة عريضة فرطحت أنفه الذي بدا في تلك اللحظة شبيهاً بأنف أمه الغليظ.
4 حسنين: آخر العنقود،شاهد على حزم الأم وحسن تربيتها.في السابعة عشرة من العمر. يشبه أخاه حسين كثيراً، لكنه أطول من أخيه ،ويمتاز بدقَّة في قسمات وجهه أكسبته وضاءة ووسامة.
كان يُسلِّم بالإيمان تسليماً وراثياًّ لا شأن فيه للفكر، وقد حملته أمه يوماً على أداء الفرائض فأدَّاها دون وعي، ثم هجرها في شيء من التردد دون تكذيب أو زيغ.
ولم تتسلَّط العقيدة على فكره، ولم تشغل باله كثيراً، ولم يجد نفسه خارجاً على حقائقها قط.
انتسب إلى الكلية الحربية، فخُيِّل إليه لدى خروجه منها بالملابس الرسمية لزيارة أهله، أنه حقق حلماً بديعاً بتصديه للعالم بالبدلة الملونة.
كان ينطلق كالعامود في استقامته، كالطاووس في خيلائه، ملقياً على صورته التي تعكسها مرايا الحوانيت والمقاهي نظرات ارتياح تشمل الشريط الأحمر والطربوش الطويل والحذاء اللامع ،ملوِّحاً بعصاه القصيرة ذات الرأس الفضي ، قابضاً على قفازه كأنه يتحدى العالم. ولمَّا دخل منزله استقبلته أخته، وشدَّتْ على يده في انفعال وجعلتْ تهزها بقوة وفرح. وجاءت الأم مهرولة على صوت ابنتها ،فاستسلم لذراعيها النحيلتين وهي تضمه إلى صدرها، وقبل جبينها في سرور شابه شيء من القلق على سترته التي طوَّقتها ذراعاها، ثم خلع طربوشه ووضع عصاه وقفازه على المكتب، ولبث واقفاً وهو ينظر إلى سترته ليرى ما فعل العناق بها. وجلست أمه على الفراش وهي تقول له:- اجلس يا بني !
فتردد لحظة ثم قال:- أخاف أن ينكسر البنطلون !
فتساءلت الأم بدهشة:- هل تظل واقفاً طالما أنت لابس البدلة ؟!
فابتسم في ارتباك ثم جلس على الكرسي في حذر، ومدَّ ساقيه وهو يفحص بنطلونه باهتمام.
وقال محفوظ: كان يعتمد وجهه بيده غائباً في أفكاره، تنمُّ نظراته وقضمه لأظافره من آن لآخر على قلقه وتوتر أعصابه.
5 نفيسة: في الثالثة والعشرين من عمرها، بلا مال ولا جمال ولا أب.لم تحظ طوال حياتها بقلب يحبها ويعطف عليها، ولم تجد من متنفس عن توتر أعصابها إلا في الضحك والسخرية من نفسها وإخوتها والناس، فاشتهرت بالعبث الضاحك الذي تتوارى خلفه مرارة في الأعماق.
وكانت تعيد حياة الأم وصورتها بدقة كبيرة: كان لها هذا الوجه البيضاوي النحيل، والأنف القصير الغليظ، والذقن المدبَّب، إلى شحوب في البشرة، واحديداب قليل في أعلى الظهر. فلم تكن تختلف عن أمها إلا في طولها المماثل لطول شقيقها حسنين.
كانت بعيدة عن الوسامة وأدنى إلى الدمامة، وكان من سوء الحظ أن خُلقت على مثال أمها، على حين ورث الإخوة خلقة أبيهم، وكان الحزن على أبيها قد أتى عليها فبدت في صورة بشعة.
وعندما تُضبط بالدعارة في بيت بالسكاكيني تستأجره ستٌّ روميَّة وتؤجِّر حجراته بالساعة للعُشاق، ويُطلب إلى القسم أخوها حسنين، يقول محفوظ:
أنصتَ حسنين إلى الضابط وهو لا يزال يحملق في وجهه، تمتليء عيناه بوجهه تارة فلا يرى سواه، ويغيب عنهما أخرى فيسمع الصوت ولا يرى شيئاً، وثالثة لا يرى إلا شفتين تنطبقان وتنفرجان فينثال من بينهما كلام هو الفزع واليأس والغرابة، وبين هذا وذاك ترمش عيناه في حركة عصبية فتلتقطان منظراً غريباً هنا وهناك: بندقية مثبتة في جدار أو صفاًّ من البنادق أو محبرة، وربما امتلأ أنفه برائحة دخان محبوس أو رائحة جلود غريبة.
ولمَّا أخذه الضابط إلى أخته، رآها قد ارتمت على أريكة قد ألقت برأسها إلى الحائط ، عيناها نصف مفتوحتين، ولكنهما مظلمتان لا تريان شيئاً:ميتة أو مغمى عليها،أو لعلها في ذهول الإفاقة الأول. وقد التصقت بجبهتها شعيرات مبتلة وعلت بشرتها صفرة الموت، ولم تبد حراكاً، كأنها لم تحس للقادمين وجوداً، أو أنها لم تستطع أن تبدي حراكاً.وغمغمت في نبرات مرتعشة متهدجة، وهما يغادران نقطة البوليس في خطوات ثقيلة تتبعه على بعد ذراع منكسة الوجه، يسمع وقع قدميها كأنه رصاص في ظهره:- لقد أجرمتُ أعلم هذا..ولن أسألك غفراناً لستُ جديرة به.
فأحدث صوتها ،على ضعفه، زوبعة من الهياج في صدره، زوبعة عمياء طاغية صبَّت الغضب في أطرافه صباًّ، فتوقف عن السير، والتفت نحوها في سرعة غريبة، وارتفع ذراعه في الهواء وهوى على وجهها كالقذيفة، فتراجعت مترنحة دون أن تنبس ثم سقطت على ظهرها واصطدم مؤخر رأسها بالأرض.ثم لمَّت نفسها ووقفت وهي تقول:- لا ينبغي أن يمسَّك عقاب وإن هان..دعني أقم أنا بهذه المهمة فلا يكدرك مكدر ولا يدري أحد.
فتساءل فيما يشبه الذهول:- تقتلين نفسك ؟
فقالت وهي تلهث:- نعم..
قال:- النيل..
كان المكان مقفراً إلا من مارٍّ مسرع هنا أو هناك، وقد تناوحت الغصون بأنين ريح باردة كلما كفَّ هبوبها تعالى هسيس النبات كالهمس. وألقت بنفسها، أو تركت نفسها تهوي، وقد انطلقت من حنجرتها صرخة طويلة كالعواء، فجاوبها بصرخة فزع ولكنها ضاعت في صرختها،ثم صكَّ سمعه اصطدامها بالماء فندَّت عنه صرخة أخرى. وركَّز انتباهه في الجثة الراقدة غير بعيد، وجرى بصره عليها وقد تبعثر شعرها والتصقت خصلات منه بخدِّها وجبينها، وران على الوجه جمود صامت لا يبشِّر بيقظة وعلته زرقة مروِّعة، وخيِّل إليه أنه يرى أخاديد دقيقة حول الفم
الفاغر والعينين كأنها تقلصات العذاب الذي كان آخر عهده بالدنيا. أما الفستان المشبع بالماء فقد لزق بالجسد وتلوثت أهدابه بتراب الأرض فتطيَّنت، وبدت قدم ما تزال ممسكة بفردة حذائها والأخرى في جوربها.
وألقى ببصره إلى الماء تتدافع أمواجه في هياج واصطخاب، فارتفق السور وقال:- لن أصرخ، لأكن شجاعاً ولو مرة واحدة.
6 فريد أفندي صاحب البيت، وابنته بهية:
أ- فريد أفندي: كان بديناً مفرطاً في البدانة، ذو كرش عظيمة، ووجه مستدير مكتنز لاحت فيه قسماته دقيقة صغيرة. على أن بدانته وكهولته وأناقته أيضاً أضفت عليه وقاراً مما يعتز به موظفو الحكومة والكتبة منهم خاصة.
كان في جلباب فضفاض، جعل منه كهيئة المنطاد.
ب- ابنته بهية: كان حسنين يراها كثيراً وهي تحجل في فناء العمارة، ولكنها اختفت منذ الثالثة عشرة، وانقطعتْ عن المدرسة أيضاً قبل أن تلتحق بالمدرسة الثانوية.
ويصفها محفوظ عندما صعد حسنين إليها لإعطاء دروس تقوية في الإنجليزي لأخيها ،فيقول: اقترب حسنين من الباب، ورفع يده لينقر عليه،ولكنْ يده جمدت في الهواء ورنتْ عيناه إلى الداخل على رغمه: رأى فتاة مولية الباب ظهرها ومنحنية على شيء بين يديها، لعلها تبحث في درج من أدراج البوفيه، وقد برز ردفاها اللطيفان، وانحسر الفستان عن ساقيها وباطن ركبتيها، ساقان مدمجتان يكسوهما بياض ضاحك تكاد العين تحسُّ طراوتهما.
ثم فُتح الباب عن وجه جميل، مستدير، ممتليء، أبيض مشوب بشحوب خفيف،تزينه عينان زرقاوان صافيتان.
ولمَّا وقف حسنين في الشرفة مرتفقاً حافتها، كان المنظر الذي أثاره لا يزال ناشباً في مخيلته: الساقان البديعتان، والوجه البدري ذو العينين الزرقاوين. نظرة هادئة رزينة توحي بالثبات لا بالخفة. جمال يبهر، وإن شابه شيء من ثقل الدم ولكنه لا يترك أثراً سيئاً في النفس. وقال: أجمل منظر حقاً هو بطن ركبتها، في وسطه عضلة رقيقة مشدودة تشفُّ بشرتها عن زرقة العروق. لو انحسر الفستان قليلا لرأيت مطلع الفخذ.. بل أجمل منظر في الدنيا منظر امرأة على ثيابها، أجمل من المرأة العارية نفسها.
ويقول: كانت ترتدي فستاناً بُنياًّ تكاد تمسُّ أهدابه أعلى القدم ،فأضفى طوله على قامتها المائلة للقصر ملاحة.. جسم لدن، عينان جذابتان، هيهات أنْ يخفي هذا الفستان الطويل ما انطبع في حسِّي من صورة الساقين وبطن الركبة خاصة.
ولمَّا رآها على السطح: كانت ملتفة في معطفها الأحمر. ينحسر جيبه في أعلى الصدر عن فستان رمادي ،وتنهدل على ظهره ضفيرتان مكتنزتان. وكان عمق حمرته يضفي على بشرتها البيضاء وعينيها الزرقاوين نقاء وبهاء.
وقال: هي ميَّالة إلى القصر، فلو التصقتُ بها لمسَّ مفرق شعرها ذقني.ولكنها بضَّة ريَّانة، فتباً للمعطف الذي يخفي قسمات هذا الجسم وثناياه. حريصة ،محافظة ، تعجبني بقدر ما تغيظني.
وجرى بصره مع عنقها الرقيق، وتخيَّل أصله المتواري تحت الفستان والمنكبين والصدر الناهد، فركبته عاطفة جامحة حارَّة.
وقال: وأصغى إليها حسنين على شفتيه ابتسامة حائرة، وعيناه تلتهمان جسمها البض بارتياح: فستان مؤدَّب محتشم، ولكنه على تحفظه يكشف عن الساعدين وأسفل الساقين والعنق الرقيق الشفاف، ويشي بقسمات الجسم اللدن المدملج. ثم علق بصره بالمشربية الدقيقة المكوَّرة فوق الصدر صوَّرتها الخيَّاطة حقاً لثدين ناهدين يكادان لشدة نهوضهما يطيران لولا ما يمسكهما من صدر أبيض صاف. تخيل أنه يدغدغهما بأنامله، وأنه يشدُّ عليهما وأنهما يقاومان الشدَّ بصلابتهما فازدرد ريقه في ظمأ..يا لها من شابة رزينة هادئة: عينان زرقاوان صافيتان، ليس فيهما ذرَّة من شيطنة أو خفة ولا حرارة، باردتان. ومن عجيب أن يكون لهذا الجسم الفتان
لصاحبة هاتين العينين الهادئتين الباردتين.
لكن حسنين يفتر حبه لها ،وقتما أخذ يقارن بينها وبين ابنة أحمد بك يسري الارستقراطية ،ويصفها محفوظ عندما أخذها حسنين للسينما:كانت ترتدي المعطف الأحمر الذي يجلو نقاء بشرتها، فبدت كالقطة الجميلة.
ويقول: بدت في فستان بني تنبسط على أعلى صدره شبه مروحة من الحرير المزركش، ينغرز مقبضها أسفل البنيقة وتنتشر أهدابها فوق الثديين.
ولمَّا رآه زملاؤه بالكلية معها، قالوا عنها: يغلب عليها الطابع البلدي، وممتلئة أكثر مما ينبغي، وقصيرة أكثر مما يستحب، ودمها ثقيل من رتبة لواء !
فلا يجد الشجاعة للظهور معها مرة أخرى أمام زملائه، ويتحاشى الظهور معها أمام الناس، بل بات يخجل منها وهو لا يدري !
فتقول له في لحظة يأس:- لقد خطبتني ثلاثة أعوام ثم بدا لك أن تتخلص مني !
فساد صمت ثقيل الوطأة كالمرض ملأ الحجرة بأنفاس اليأس الخانقة، ولكن وجد حسنين على حرجه وألمه صوتاً من الراحة، فمهما يطل هذا العذاب فلا بد أن ينتهي، وهنالك يجد نفسه حراًّ طليقاً..وهكذا انتهى كل شيء.
7 سلمان جابر سلمان صبي البقالة: غرَّر بنفيسة وتركها ! وكانت اعتادت التردد عليه بعد طرد الخادم من البيت لتقليص المصروف، لابتياع ما يلزمهم، فأحبته !
كان طويلا، مائلا للامتلاء. ووجهه بيضاوي أسمر، وعيناه ضيقتان.
نظر إلى نفيسة متهلل الوجه وقد لمعت عيناه الضيقتان.وكانت قسماته تشي بالغباء والحيوانية والجبن. وكان شاربه الصغير الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتصف بالجمال في وجهه.
كان يبدو لها دائماً، على دمامته وحقارته، فتى رائعاً لحرارة عاطفته وشدة انكبابه عليها، وكانت لهذا تحبه من أعماقها، بل كانت مجنونة به، واعتقدت أنه الحبيب الأول والأخير، ليس لها سواه، ولن يكون لها سواه ، فتعلَّقت به بقوة الأمل، وبقوة اليأس، وأحبته بأعصابها ولحمها ودمها، ووجدت فيه غرائزها المشبوبة العارمة أداة نجاة تنتشلها من الأعماق. كان أول رجل بعث فيها الثقة, وطمأنها إلى أنها امرأة كبقية النساء.
8 أحمد بك يسري: مفتش بالداخلية. جاء للعزاء بسيارة فخمة نطقت بالعزّ والجاه،ووقفت على بعد يسير من البيت وغادرها ساعٍ ،ففتح بابها ثم نزل منها رجل ينمُّ مظهره على الألقاب والرتب.
تقدَّم بجسمه الطويل العريض،وشاربه المفتول بعناية بالغة، وكان شاربه وسوالفه مصبوغة، يغالي في العناية بمظهره،إلى ما تطيَّب به من روائح زكيَّة عميقة الأثر. وعقدت عليه الخمسون هالة وقار، ولم يجدوا ما يقدِّمونه له إلا كرسياً خيزراناً على قارعة الطريق، فشعروا بحرج غير قليل.
كان يحب الوالد ويقرِّبه ويودُّ سمره وفنه دون أن يعدَّه نداًّ له أو صديقاً كسائر البكوات والباشوات.
9 علي صبري: من أصدقاء حسن، في منتصف عقده الثالث. متوسط القامة، نحيل العود، صغير القسمات. أما شعره فأشبه ما يكون بشعر حسن، إلى سوالف تزحف حتى منتصف خده. مغن في المحطات الأهلية، ولمَّا أنشئت محطة الإذاعة الرسمية في مايو/ أيار 1934م حيل بينه وبين الحفلات.
كان مظهره بوجه عام يدل على سوء الحال، ولكنه يغطيه بنفخة كاذبة وغرور غير محدود. وضحك ضحكة قصيرة كشفت عن أسنانه الصفر.
يتزوج من زينب الخنفاء، وهي فوق الأربعين على أحسن الفروض، وليس من جمال فيما عدا جسمها البقري، لكنها لقية ذات ساعدين مثقلتين بالذهب،فيحوِّل قهوتها إلى ملهى صغير بما تحفل به مساء من غناء ورقص وخمر، يُغني حسن في تخته وينبري للعراك إذا دعا الداعي، ويتجر بالمخدرات.

محمد الصالح الجزائري 28 / 08 / 2013 14 : 11 PM

رد: بداية ونهاية لنجيب محفوظ
 
..وتستمرّ المتعة مع الأستاذ الفذمنذر...أرجو أن تكون البداية وفقط !!! الحمد لله على صداقة تُمتع وتُقنع!!! شكرا لك أخي الأستاذ القدير منذر...
(مقعدي المفضل)
في انتظار بقية الطالبات والطلاب وخاصة (الطالبة المدللة ميساء) ..ابتسامة..

ميساء البشيتي 29 / 08 / 2013 17 : 02 AM

رد: بداية ونهاية لنجيب محفوظ
 
حضرت أخي محمد .. بقدر ما أحضر ؟ ابتسامة على قول الطالب النجيب
أخي رشيد حفظه الله ..
المهم يا أخي منذر أنت فعلت بنا الأعاجيب أنت ونجيب محفوظ .. تخيل ما حدث
معي مساء الأمس .. ذهبت إلى مكتبتي وقلبتها أبحث عن رواية لنجيب محفوظ ..
هذا اسمه التأثير في الآخرين .. ووجدت يا سيدي العزيز قصة " شهر العسل "
قصة صغيرة جداً قلت في نفسي لن تحتاج وقتاً طويلاً .. سأقرؤها سريعاً
وقد أجري عليها دراسة كتلك التي يقدمها لنا أخي منذر وبدأت في أحلام اليقظة ..
ما أن بدأت في قراءة القصة حتى توافدت عليَّ بناتي واحدة تلو الأخرى ..
ماذا تقرأين يا ميساء ؟ .. " شهر العسل " يا خطيرة يا ماما وبقرأي رومانس
وبدأت التعليقات وحاولت أن أفهمن بالعقل والمنطق أن هذا " عمو نجيب محفوظ "
و"عمو منذر" يكتب عنه كثيراً .. لكن عبث .. الضحكات تتوالى في المنزل
وأنا أصبحت مصدر شبهة للبنات ومع ذلك عكفت على القراءة .. أريد أن أقرأ
قصة " شهر العسل " لنجيب محفوظ ..
بعد أن قرأت عدد بسيط من الصفحات .. ألقيت القصة بعد أن تأكدت أنني أغلقتها جيداً ..
وتكومت في مكاني ..
كانت الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل .. وكل شيء حولي ساكن وهادىء ..
ولكني أرتجف من الخوف فلقد سقطت الجثة من الثلاجة ..
جثة الخادمة مدبرة المنزل في القصة ..
وأنا ارتعدت مفاصلي من الخوف .. وتوقعت أن يُقتل العرسان خاصة بعد أن علا صراخ العروس
بعد أن ظهر لها ....
لن أكمل القصة لكم ... وليبقَ التشويق حليفكم هذا المساء ..
أما أنا فتناولت قصة أخرى لمحمد عبد الحليم عبدالله بعد أن فتشتها جيداً إن كان فيها جثث أم لا ..
أطلت عليكم ولكني أردت أن أظهر تأثير الأديب الكبير الرائع منذر أبو شعر علينا
وكيف أعادنا تلاميذاً نتتلمذ على يديه .. ولكن بحب وشوق ورغبة بالاستفادة ..
فألف ألف شكر لك أخي منذر ولجميع الأحبة هنا محمد ورشيد سلمان وكل من يمر بإذن الله
ودمتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــم

محمد الصالح الجزائري 29 / 08 / 2013 12 : 03 AM

رد: بداية ونهاية لنجيب محفوظ
 
وأين بقية الطلاب؟؟؟

ميساء البشيتي 29 / 08 / 2013 27 : 01 PM

رد: بداية ونهاية لنجيب محفوظ
 
المهم أين الأستاذ ؟
ربي يحمي سوريا وأهلها وأستاذنا الغالي منذر
ربي يحمييكم كلكم
بالانتظار

د. منذر أبوشعر 31 / 08 / 2013 51 : 04 PM

رد: بداية ونهاية لنجيب محفوظ
 
حكوا في الروايات، أنَّ شاباًّ باراًّ أحب إكرام أبيه، فأهداه سترة أنيقة ، فلمَّا ارتداها الأب كانت طويلة جداً، فقالت الأم: لا ضير، سأقوم بأخذ قطعة منها إن شاء الله.
وذهبتْ إلى أشغالها.
ولمَّا جاء الشاب من عمله ورأى السترة كما هي، أحب أن يفاجيء أباه، فأخذ من السترة شيئاً، وتركها مكانها وذهب إلى أعماله.
ولمَّا جاءت الفتاة ورأت السترة كما هي،ولم تنتبه إلى ما أخذ منها أخوها، أحبت أن تفاجيء أباها فأنقصت من السترة شيئاً، وتركتها مكانها وذهبت إلى أعمالها.
ولمَّا جاءت الأم ورأت السترة كما هي،ولم تنبه إلى ما أخذ منها ولداها، أحبت أن تفاجيء زوجها فأنقصت منها شيئاً، وتركتها مكانها وذهبت إلى عملها.
فلمَّا اجتمعت الأسرة، ورأوا صنيعهم، ضحكوا طويلا طويلا.
.. .. ..
وهذه الحكاية، إنما سقتها، لأنني ارتديت ثوب المعلّم ! الثوب الذي أخشاه لثقل مسؤوليته ! وهو في الأصل طويلٌ عليَّ، فما بالكم إن أخذ منه شيئاً !
وفي الواقع، وليس مجرد كلام، فما أكتبه عن نجيب محفوظ، رسالة غفت في مكتبي سنيناً طوالا وعمراً منصرماً، فلمَّا رأت النور، اكتملت ببديع تواجدكم، وجميل حضوركم.
فالشكر كله لكم، وأيدينا على قلوبنا ننتظر رهان بلدي في إشفاق وجميعنا يقول: اللهم احم سورية واحفظها واسترها، واختر لنا فلا خيار إلا أنت.

محمد الصالح الجزائري 31 / 08 / 2013 21 : 11 PM

رد: بداية ونهاية لنجيب محفوظ
 
ومعك ندعو الله ولا نملّ...اللهم احم سورية وشعبها الأبي الصامد...

ليلى مرجان 03 / 09 / 2013 37 : 04 AM

رد: بداية ونهاية لنجيب محفوظ
 

حضرت للاستمتاع هنا بما تجود به قريحة أستاذنا الفاضل منذر
و الذي استعدت معه ذكريات عطش القراءة و الارتواء من صبيب يراع كبار الأدباء.
فشكرا لمجهوداتكم و التي بفضلها سأعيد قراءة التحف المختارة
وسأبقى إن شاء الله وفية لهذا الفصل مع من حضر من الطلاب.


و معكم أدعو الله أن يحمي سوريا و يحفظها و أهلها من كل عدوان

د. منذر أبوشعر 03 / 09 / 2013 43 : 06 AM

رد: بداية ونهاية لنجيب محفوظ
 
الشاعر الحر أخي محمد الصالح الجزائري صوت الجزائر:
وردة جمال الأدب،صوت شباب المغرب الواعي،ابنتي ليلى مرجان:
كبرت الصحبة وازدادت جمالا وألق حضور..سعيد بتواجدكم وصدق بهجة زيارتكم، ودامت رفقتكم إن شاء الله، وحمى الله سورية من الحاقدين والموتورين وأصحاب الغايات ودنيء المصالح.

سلمان الراجحي 03 / 09 / 2013 07 : 07 PM

رد: بداية ونهاية لنجيب محفوظ
 
الله يحمي سوريا...أ.منذر يامعلمنا الكبير...

هذه المرة فاتني القطار...ولكي أحضر في الموعد

جئت جريا على الاقدام...لشدة نهمي الى قراءة ما تجود به علينا

من متعة القراءة الى نجيب محفوظ لسان مصر الناطق بعاداتها

وتقاليدها وتصوير حياة أسرها...شكرا لأخي محمد الصالح الجزائري

على دعوتنا للدرس وسنكون دائما حريصين على حضوره...

دام لك الالق/أخي وأستاذي د.منذر أبو شعر


الساعة الآن 20 : 05 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية