منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   يافلسطيني قامتك الأشجار انتصبتْ (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=313)
-   -   عظام أمي بقلم / الدكتور عدنان جابر (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=27502)

بوران شما 26 / 06 / 2014 58 : 04 PM

عظام أمي بقلم / الدكتور عدنان جابر
 

أعجبتني جدا وأحببت أن أنقلها لكم وهي تعبر عن تعلق الفلسطيني
بوطنه مهما أبعدته السنين والأيام ، فحلم العودة يداعب خياله حتى
ولو كان عظام ،،،،،،


عظام أمي
بقلم: د. عدنان جابر

مر العمر بسرعة. في ذلك اليوم، في 5 حزيران عام 1969، عندما رأتني أمي في مستشفى عالية في الخليل ورصاص المحتلين قد أصابني في رقبتي وقدمي، كنتُ في السابعة عشر من عمري. كان سلاحي "سيخ كباب" صنعتُه في مدرسة الأمير محمد الإعدادية، وطعنتُ به ثلاثة جنود إسرائيليين أمام الحرم الإبراهيمي.

في ذلك اليوم، وأنا بين الصحو واليقظة، نظرتْ أمي إلى وجهي المشوه الدامي، وقالت: "معلش يما، المهم إنك عايش". كانت قوية، مثلما عرفتها دائماً. أنعشتني كلماتها وأنفاسها المشبعة بالحنان.

أخذني الجنود في عربة عسكرية من طرف شارع "السهلة" أمام الحرم الإبراهيمي حيث اشتبكت معهم إلى الثكنة العسكرية "العمارة" المتواجدة على تلة مرتفعة، وهي مسافة طويلة بالنسبة لجريح ينزف من فمه ورقبته وقدمه. ويبدو أنهم اعتقدوا بأنني على وشك الموت، لذلك قفلوا عائدين بي وأدخلوني إلى "مستشفى عالية" كي أموت هناك، ولكن تحت حراسة من قبل شرطة الخليل المحلية، ومداهمة مفاجئة متكررة من جنود الاحتلال للتأكد من عدم هروبي أو تهريبي. لم تطل إقامتي هناك، إذ عندما عرفوا بأنني لم أمت سرعان ما تم نقلي إلى مستشفى سجن الرملة.

طوال سنوات أسرى، كانت أمي تطارد ورائي من سجن إلى سجن، وكانت أكثر حيوية ومعنوياتها أقوى مقارنة بوالدي الطيب. كانت تتمتع بصوت جميل، قالت لي قريبتنا "أم العبد" : " أمك كانت تحيي كل عرس تَحْضُره " .

قبل الاحتلال، كان غناؤها يشي بالفرح والقوة، مع مجيء الاحتلال وتكرس الفراق وتشتت الأسرة بين الوطن ومنافي الغربة صار غناؤها مفعماً بالحزن والأسى، لكن لم يخل من القوة والصبر. أدركنا أن أمنا تغني كي لا تبكي، وإن بكت فبعيداً عن أنظار الآخرين.. كانت تغني لأنها اعتادت صناعة الأمل.

كنتُ أعرف أن لي مكانة أثيرة في قلبها، بسب كوني أسيراً وجريحاً. وأنا خلف القضبان خصصت لي بعض قصائدها الزجلية، وبعد خروجي من السجن، أثناء وجودي في رومانيا للعلاج تلقيت منها رسالة تقول فيها: " ليتني قطعة شاش أبيض، ألتف بها على قدمك يا ولدي الحبيب".

في صوفيا، أثناء دراستي هناك، أسمعتُ بعض الزملاء والأصدقاء شريطاً لها كنت قد سجلته لها أثناء زيارتها لي في سوريا . أثناء استماعهم لصوتها، سألتهم مازحاً: " هل تعرفون مغنية في فلسطين اسمها سعاد صلاح "، فأجابوا: " لا، ولكن صوتها حلو " . فقلت: "هي أمي" .

امتد زمن الفراق، صَعُبَ على الحاجة سعاد أن يكون أولادها مشتتين في فلسطين والأردن والكويت وسورية والعراق والصين وبلغاريا، فعانت من عنت الزيارة وعبء السفر. مرة، تطلعتْ إلى شجرة التوت أمام بيتنا في الخليل، ورأت عصفوراً ينطنط على أغصانها فأنشدتْ تقول: " عصفور يا كتكوت.. يا مغرد فوق التوت.. أيام عم بتفوت.. وحبابي ما عادوا لَيِّ". وعلى جسر الأردن، طلعت معها: "مقساك يا دهر.. وما أصعبك يا جسر".

كانت تأتي لزيارتنا مجتمعين أو فرادى. في البداية، وهي في صحتها، كانت تأتي لوحدها، ثم صارت تأتي برفقة أحد أبنائها أو إحدى بناتها، وأخيراً، لم تعد تأتي.. تعبت عظام أمي!

انتظرتني في عمان سنتين كي تراني، لكن ذلك لم يحصل. فلا هي قادرة على السفر إلى سوريا بسبب عظامها المتعبة، ولا أنا كنت قادراً على السفر إلى الأردن لأنني مبعد عن البلاد.

بسبب وضعها الصحي، ارتأى إخوتي وأخواتي في الأردن أن يُبقوا الوالدة لديهم، وأن "تدور" على بيوتهم، أسبوع في كل بيت، إلى أن يأخذ الله الوديعة. كانت تلح للعودة إلى الخليل، وهم يراهنون على "النسيان" الذي بدأ يفعل فعله في ذاكرتها، ويقولوا لها : "يا حاجة لسه امبارح جيتي!". لكن ذلك لم يعد يفلح معها، صارت تبكي كالأطفال كي تعود إلى الخليل. وعادت وماتت ودفنت هناك.

.. حققت أمي "حق العودة" بأن يكون لها قبر في الوطن!

حُلْمُنا الغال "حق العودة" سيشمل الأحياء، فهل سيشمل الشهداء، والأموات، والعظام، وكيف ؟!

ربما سيكتفي الشهداء بالنصر، فهو العودة.. ويكفي أن نقرأ الفاتحة، كلٌّ من مكانه، على أعزائنا الذين تضمهم القبور.. في أربع رياح الأرض.

يحزنني تشتت قبورنا.. يقلقني شتات العظام. أبي وأمي مدفونان في الخليل، أخي الأكبر غازي مدفون في الكويت، وابني مارسيل مدفون في صوفيا: اختار في بلغاريا، صوفيا، الساعة الواحدة ظهراً، يوم السبت الموافق 26 تموز 2008، وهو في الرابعةِ والعشرين من العمر، أن يُتوِّج نجاحه في السنة الرابعة والأخيرة في الجامعة، بالقفز من الطابق السادس. كان على وشك التخرج من الجامعة.. لكنه فضَّل أن يخرجَ من الحياة !
وأنا.. أين سيكون قبري؟! لقد قالها محمود درويش: أرى الجنازة ولا أرى القبر..

كما حصل مع عظام أمي، لم تعد عظامي تحملني بيسر، مع أنني أتوكأ على عصا، فالشظايا ترافق قدمي منذ 5 حزيران 1969 وحتى الآن، والجرح لا يلتئم.
عندما زارني والدي المسكين في بغداد قال لي بألم: "يابا، إذا بتتعبك كتير، وما بتشفى، اقطعها وارتاح " ! لكنني قررت التمسك بها، وعندما يسألني إخوتي وأخواتي على الهاتف من فلسطين أو الأردن أو الصين: "كيف وضع رجلك؟"، أجيبهم: أفضل من الوضع السياسي!
صمدت رجلي أكثر من 40 عاماً، وهناك دول لا تصمد 40 يوماً. بعد أن رافقتني كل هذه السنوات، وتحملتني في السراء والضراء، وبعد 14 عملية جراحية، وبفضلها رأيت عدة دول في العالم، هل أتخلى عنها؟! وإذا تم بترها، كيف سأنزل إلى البحر، أو أنزل إلى الدبكة وأدْبِكُ مع من يدبِكون؟!

تخيلتها وهم يبتروها ويرموها في حاوية النفايات، تخيلتها بعد هذا الصمود وهذه "العِشْرة"، تخيلتها تقول بأسى: يا عيب الشوم!
رِجلي جاءت إلى الدنيا معي، وستغادرها معي، لن أتخلى عنها.. جئنا معاً، وسنذهب إلى القبر معاً، أحتفظ بها مثلما أحتفظ بـ (البنطلون) المثقَّب بالرصاص.. الحمد لله أنه رصاص الأعداء!

عندما رأتني أمي في مستشفى عالية كنت في السابعة عشر من عمري، أما الآن فأقترب من الستين. كان سلاحي "سيخ كباب"، وأصبح سلاحي القلم، أحمل شهادتين: دكتوراه في الفلسفة ودكتوراه في القهر، القهر من جهتين: من الغربة والمنافي، ومن وجود مفارقة باهظة ودامية: شعبنا الفلسطيني شعب عظيم مبدع معطاء، وزعماؤنا يتقنون الفشل والتبديد والخواء.. زعماء يرون الكرسي.. ولا يرون زيتون البلاد!

أصابني مرض الضغط بعد الاقتتال في غزة بين حماس وفتح.. و"انتصار" ثورتنا.. وبعد أن "رزقنا" الله "دولتين" بدل دولة واحدة، واحدة في رام الله والأخرى في غزة !

كنت أعرف أن الدواء والحمية لا يكفيان، بل لا بد من إطعام الروح. لذلك، من أجل تعزيز الأمل ومحاربة الكآبة، قمت بشراء "سيديات" مختارة لفيروز، أم كلثوم، عبد الوهاب، خوليو اغليسيس، ياني، فلاديمير فيسوتسكي، بافاروتي ، أندريا بوتشيلي ، وموسيقى كلاسيكية لموسيقيين مختلفين من عدة قرون.

لا أملك ما أُوَرِّثُهُ لأولادي سوى بنطلوني المصاب وبعض المؤلفات، لا أملك بيتاً أُوَرِّثُهُ لهم كي أريحهم وأريح فاطمة من هَمِّ الإيجار و"شحشطة البيوت" ، لا أملك شيئاً سوى حُلْمٍ بامتلاك قبر.. قبر في الوطن !

ولي حُلْمٌ بسيط: ابني عُمَر (8 سنوات) وابنتي دالية (10 سنوات) أن يعيشا طويلاً وان لا ينقصف عمرهما كما انقصفَ عُمْرُ أخيهما مارسيل، ألا تموت فاطمة قبلي بل أن أموت أنا قبلها، وأن تعيش هي وأولادي بكرامة، لا أريدها أن تصطف في طابور الأرامل أمام باب أي مسؤول تافه، أو سافل !

وأريدُ كبوةً أخيرة
كبوةً ترافقها السلامة
قبراً جميلاً
أُعَلِّقُ عليه التعب
وأنامُ فيه إلى القيامة

لا أريده في وحشة الغربة وفي صقيع المنافي، أريد قبراً هناك في تراب الخليل، قرب كروم العنب، بجانب عظام أمي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فازت بجائزة تقديرية في مجال "القصة الصحفية" في "مسابقة العودة" 2011
التي نظمها "مركز بديل" في بيت لحم ـــ فلسطين.

**كاتب فلسطيني من مدينة الخليل
أسير سابق ومبعد، مقيم في بلغاريا

د. رجاء بنحيدا 26 / 06 / 2014 14 : 06 PM

رد: عظام أمي بقلم / الدكتور عدنان جابر
 
يحزنني تشتت قبورنا.. يقلقني شتات العظام))
كلمات مؤثرة حقاً ، حزينة وعميقة ، تحمل دلالات البعد والافتراق
وحق العودة (( حققت أمي "حق العودة" بأن يكون لها قبر في الوطن!))
الرجوع إلى تربة الوطن ، ولو بعد الموت ، انتصار بطريقة أخرى ،
شكرًا لك الأستاذة الأديبة بوران على مشاركتك لنا هذه القصة الصحفية الواقعية المؤثرة
للدكتور عدنان جابر .
محبتي وتقديري لك غاليتي .

ميساء البشيتي 26 / 06 / 2014 55 : 06 PM

رد: عظام أمي بقلم / الدكتور عدنان جابر
 
عادة حين أقرأ مقال أو قصة مؤثرة أنخرط دونما إرادة مني
في بكاء طويل أو متقطع .. لكن هنا قررت ألا أبكي .. وأن أتعلم الصمود ..
الأيام القادمة صعبة جداً ولا تقارن بكل ما فات ..
نحتاج الصمود كثيراً لأن الجرح تفتق إلى ألف جرح
ولم نعد نجد شبراً خالٍ من الجراح ..
اصمد دكتور عدنان .. معركة الصمود لم تبدأ بعد ..
وألف شكر للغالية بوران على هذا الانتقاء الرائع

بوران شما 28 / 06 / 2014 14 : 12 AM

رد: عظام أمي بقلم / الدكتور عدنان جابر
 
الأستاذة ] الدكتورة رجاء بنحيدا

أشكرك جزيل الشكر على مرورك الرائع على هذه القصة المؤثرة
وإعجابك بها ،
نعم كلنا نحلم بالعودة ولو حتى بقبر يضم رفاتنا فيه تراب
فلسطين الحبيبة ، وهذا بحد ذاته انتصار كبير لنا ولاولادنا من
بعدنا ،
سعدتُ بوجودك ، محبتي وتقديري. ودمت بألف خير ،

بوران شما 28 / 06 / 2014 25 : 12 AM

رد: عظام أمي بقلم / الدكتور عدنان جابر
 
عزيزتي الأستاذة ميساء

أنا بصراحة لم أتمالك نفسي من البكاء عند قراءة هذه القصة
لأنها عبرت عن جروح وآلام كبيرة بنفسي ونفس كل فلسطيني
والله دبحتنا الغربة يا ميساء ، ولكن كما قلتِ سأصمد وسنصمد
جميعا حتى يتحقق حلمنا بالعودة. لفلسطين الغالية
محبتي لك ودمت بألف خير ،


الساعة الآن 40 : 08 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية