منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   ملف القصة / رشيد الميموني (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=280)
-   -   النبوءة (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=28025)

رشيد الميموني 06 / 10 / 2014 16 : 12 PM

النبوءة
 
[align=justify]
النبوءة
منذ متى كان يقيم الأحلام وزنا حتى يعم نفسه هذا الشعور الغامض بالقلق والرهبة ؟ ومتى أعار النبوءة اهتماما حتى يقض مضجعه كلام أحد الشيوخ المشهود لهم بالورع والتقوى؟ وكيف يؤثر فيه هذا وهو الذي طالما استهزأ بكل حديث من هذا القبيل؟..." ستقتل خيرا ثم شريرا في آخر حياتك."
حين يخلو لنفسه في بعض الأحيان ، يستعرض كل من يكن لهم ضغينة ، ويتمثلهم سواء في يقظته أو منامه ، مشنوقين أو مبتوري الأيدي، أو مقطعين إربا إربا بيديه هاتين...أيكون ذلك المتعجرف بزيه العسكري المثقل بالنياشين ، الذي لطم أباه أمام عينيه لرفضه مغادرة الرصيف بصندوق الخضر المعروضة للبيع ، وبركلة واحدة بعثر له محتوى الصندوق لأنه لم يدفع الإتاوة إسوة بمن رام السلامة من البطش والتنكيل ؟ أم تراه ذاك الثري صاحب محل سكناهم الذي ظل يتربص حتى رحل الأب عن الدنيا فجاء يراود المرأة عن نفسها، مغريا تارة بالتنازل عن قيمة الكراء ، ومهددا تارة أخرى بالطرد ، متعللا بكون المنزل - قال ذلك متهكما- يطل على المدينة والبحر بحكم موقعه في أعلى الجبل؟... ولم لا أولئك الذين جاؤوا مبشرين بقرارات و مذكرات وإصلاحات ، ليجد نفسه في آخر المطاف يذرع الطرقات رغم طموحه وشغفه بالتحصيل ، ويضطر لعرض خدماته على الكبار الجدد المستحوذين على الحي بكل ما فيه و من فيه ؟ لقد وجد الملاذ والحمى في ظل هؤلاء الكبار ، فمن الخير بينهم وبين أولئك ، ومن الشرير؟... إنه لو أطلق العنان لخياله مطاردا كل من يضمر لهم حقدا ، متربصا بكل من يبيت لهم سوءا لعم انتقامه المدينة كلها . هذه المدينة التي تعرت شيئا فشيئا حتى انكشفت سوءتها وبانت عورتها لكل من هب ودب .
أن يقتل شريرا، فهذا حلمه . لكن ، أن تمتد يده إلى رمز طيب ، فذلك ما لا يمكن أن يكون . إذن ، فليطرد هذه الأفكار، ولينس الحلم والنبوءة... ثم ، لم كل هذا القلق وقد أكد له أحد رفاق الطفولة ممن صار لهم باع طويل وولع شديد بالتفلسف الضارب في أعماق النفس البشرية أن حلمه ما هو إلا نتيجة حتمية لتفكيره الدائم في النبوءة وما دامت النبوءة لا تعني له شيئا ، فما عليه إلا أن يعرض عن الحلم.
لا جدوى... يطارده الحلم كما تتعقبه النبوءة أينما حل وارتحل . حتى وهو في أوج ذهوله الذي صار لا يستفيق منه إلا لينغمس في أتونه رغم تضرع أمه ونحيبها المتواصل، فلا يملك إلا أن يجيب بصوت واهن :
-" دعيني يا أماه ، وادعي لي . فهذا خير لي من قتل أحد."
وهو في ذهوله ونشوته ، يتعارك بحذر. لا يندفع . يهدد ويرغي ويزبد ويلوح بقبضة يده ثم يعود أدراجه مترنحا، دامي الجبهة. وتتبعه الحشود بين مشفق متعاطف ومنتقم ثائر و متهكم شامت وفضولي متلهف لرؤية المزيد من العراك بالحي الغارق في حياته الرتيبة . ويندفع الجميع إلى داخل البيت الذي سرعان ما يمتلئ عن آخره ، حتى لتكاد الأقدام في تزاحمها تقتحم الحجرة حيث تلوذ المرأة بخلوتها ضارعة في سهوم ، ساجدة في نحيب . يختلط الحابل بالنابل ثم ينسحب الجمع خاضعا للزي والصفارة ، متهيبا من السلاح والهراوة . وينقاد هو إلى الخارج رغما عنه ، متطلعا بين الفينة والأخرى إلى الخلف، فيلمح ، آخر من يلمح ، أمه رافعة يديها فوق رأسها..." ترى ، هل تدعو لي أم علي ؟... هل ستتحمل طويلا ؟"
هذا الأصيل مختلف عن الأصائل الأخرى . شمسه أشد اصفرارا ، ولهيبها أحر من الجمر، ووجوه الناس أبشع من ذي قبل ولا تعني له شيئا . عافت نفسه كل شيء ، وعزفت عن كل شيء . حتى العراك الذي ألفه لسبب ولغير سبب . لقد آلى على نفسه ألا يرتمي في خضم شجار أو مشاحنة أو جدال ، بعد أن صار وحيدا منذ العراك الأخير.لا يدري من المشؤوم الذي أنبأه بذلك . ماذا بقي له أن يفعل؟...أن يثور ؟ أن يشتم ؟ أن يهذي ؟ أن يقتل؟ ..لا... لن يجعل الحلم حقيقة ولا النبوءة واقعا .
لينصرف إذن . فقد آن الأوان . وليكن مسك الختام تحدي هؤلاء الجبناء المتلصصين من وراء الستائر، المتفرجين عليه وهو ينصرف رويدا رويدا ، ملوحا بقنينة الجعة . هي العاشرة أو أكثر، في هذا الأصيل الشاحب القاتم ، وفي جيبه ما يكفي لينعم في دنياه الأخرى المفضلة... ترى، لم تتمنع عليه الآن ، فلا يرى منها سوى قتامة وضبابا ؟ تميد الأرض من تحت قدميه ، وتدور حوله البيوت ، ثم تبدو له السماء وتلتف حوله وجوه مبعجة ، كريهة . تحجب عنه ضوء النهار والهواء فيحس بالاختناق...وفجأة ، ينبعث وجه وقور يتأمله في صمت فتزرع فيه الروح من جديد
- أرأيت؟... لم تصدق نبوءتك... لم أقتل خيرا... ولا... شريرا .
هاله ابتسام الآخر وتناهى إليه صوته الهادئ :
- بلى... ولا حول ولا قوة إلا بالله .
جحظت عيناه مستفسرتين . تبادلا النظرات برهة ، ثم أحس بالغثيان و بالخدر يعم جسده . وبجهد جهيد قال وهو ينظر إلى الوجوه المحدقة به :
- أنا... لم أقتلها...أنتم قتلتموها... كلكم .
ثم أشار إلى حيث لا شيء ، كأنه يستمهل أحدا وقال بصوت محشرج :
- أما أنا... فلست شريرا... ولم أكن... يوما ما... شريرا. [/align]

ميساء البشيتي 07 / 10 / 2014 13 : 04 PM

رد: النبوءة
 
ما أصعب أن يقع الإنسان أسيراً لأي شيء حتى لو كان مجرد حلم
حياته كلها تتوقف على فكرة معينة ولا يرى غيرها
وسواء تحققت أم لا هو في كلا الحاليين خاسر
لأنه أضاع عمرة وركز فكره وحياته على شيء واحد فقط
وأغفل الكثير ..
قصة رائعة من قلم لا يقدم إلا كل ما هو جديد ورائع ومحير
دمت رشيد الميموني قاصاً لا يشق له غبار

رشيد الميموني 07 / 10 / 2014 20 : 04 PM

رد: النبوءة
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ميساء البشيتي (المشاركة 198787)
ما أصعب أن يقع الإنسان أسيراً لأي شيء حتى لو كان مجرد حلم
حياته كلها تتوقف على فكرة معينة ولا يرى غيرها
وسواء تحققت أم لا هو في كلا الحاليين خاسر
لأنه أضاع عمرة وركز فكره وحياته على شيء واحد فقط
وأغفل الكثير ..
قصة رائعة من قلم لا يقدم إلا كل ما هو جديد ورائع ومحير
دمت رشيد الميموني قاصاً لا يشق له غبار

العزيزة ميساء ..
مسيرتي الأدبية تميزت بوقفات ومحطات رائعة وأجملها ما ألقاه من قارئة بحجمك من ثناء وتشجيع لا ينقطعان ..
ألف شكر من أعماق القلب ..
ودي وورودي

خولة السعيد 11 / 05 / 2021 22 : 08 AM

رد: النبوءة
 
قصة تنبئ بأشياء كثيرة وتشويق مستمر


الساعة الآن 37 : 08 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية