![]() |
رحيل في زمن الحياة ....
عذرا سيداتي، أوانسي وسادتي إذا ما عكّرت صفو خواطركم بما
سأغرفه لكم من بركة الآلام التي كانت تسبح فيها تلك القرية البائسة في ماضي الزمان، وعذرا إن جعلتكم تعتقدون أنني أجبركم على نشر غسيلي؛ الذي لا يُغسل؛ عندكم لاسيما الأحبة والأصدقاء و الزملاء منكم الذين ينتظرون مني إنتاج الأجود الذي يناسب أذواقهم و يريح أنفسهم . أصدقكم القول أنني ترددت في البداية في الكتابة عن قريتي التي ليس فيها إلاّ ما يوجع القلب ويُدمع العين، لكن ولكوني عربي أو كائن غريب ومجهول كما وصفتني إحدى العضوات المحترمات ولكونكم أنتم بدوركم عرب نهاركم كليلكم ومنافيكم أرحم لكم من أوطانكم ونار قلوبكم الملتهبة خوفا وحرقة على بلدانكم وشعوبكم أحرّ من النار المشتعلة فعلا على أرض الواقع، قررت التخلص من ترددي هذا والخوض في ماضي قريتي ما دام أقصى ما يمكن أن ينتج عن ذلك هو الموت، والموت عندنا أصبح من النهايات الأكثر تحققا هذه الإيام إمّا كمدا أو ذبحا أو من فاقة أو رميا بالرصاص أو تفجيرا بصاروخ من يابس أو بارجة أو من طائرة. وقد يتساءل سائل منكم؛ ما باله لايبرح سواد قريته وقد مضى، إلى صفاء الحياة وبهجتها؟ طبعا من حقّكم طرح مثل هذا التساؤل لكن من حقي أيضا أن أجيب بتساءل آخر؛ قائلا: وهل بقي على أرضنا شيء من الصفاء والمباهج؟ طبعا الإجابة هي لا وألف لا. لم يبق عندنا إلاّ العرق مطرا والدم المسفوح أنهارا وأنين الجرحى ونواح الثكالى وصراخ المعذبين و لعلعة الرصاص وأزيز الطائرات نغما...لولا الأمل... في شهر أوت (غشت) حظيت باختيار جدتي رحمها الله لمرافقتها في زيارة المدينة الكبيرة التي قررت القيام بها. وبقدر ما فرحت لذلك بقدر ما شغلني حال سرواليّ ( سراويلي) غير المناسبين للموضة السائدة في ذلك الوقت من جهة ولقدمهما وتمزقهما أو يكادان من جهة أخرى ، ومع ذلك حرصت على المحافظة على اختيار جدتي و تفادي تغييره . قضيت أياما في هذه المدينة وفي أثناءها قدم جارنا عمي عبد الرحمان رفقة عائلته عدا ولده "إدريس" الذي رحل عن الدنيا وهو لم يبلغ بعد الثامنة من عمره . عدت إلى مسقط رأسي ومعي كيس من الخبز اليابس، و أذكر انني كنت أخلو انا وأخي الأصغر ترب "إدريس " وصديقه إلى " بيت لخزين" أو البيت الذي توضع فيه المؤونة فنفتح كيس الخبز اليابس ونأكل منه بعد تغميسه في قليل من الزيت . بعد فترة مرضت طفلة صغيرة في نفس عمر إدريس ولم تلبث حتى لقيت ربها. وبالقرب من منزل هذه البريئة أعلن عن إصابة اخرى بالحمى رحلت بعد إيام . في صباح يوم من إيام الله ، وجدت أخي الأصغر في حضن أبي و هو يشكو من الحمى، وحاول الذهاب إلى المدرسة لكن حالته لم تسعفه فقرر أبي إبقاءه في البيت . بقي أخي مريضا لا يعالج إلاّ من ممرض- دون إجراء تحاليل تمكن من وصف العلاج المناسب له ودون إجراء تحقيق في الوفيات السابقة - ومن كل أنواع الدجل و الخرافات والشعوذة وبقي المرض بين تزايد ونقصان أياما إلى أن أشتد، وفي آخر لحظاته وجدته في استراحة العاشرة على ظهر أختي الكبرى يبكي ويصرخ من شدة المرض ويتلو سورة الإخلاص. ولم تكد عقارب الساعة تتطابق معلنة منتصف النهار حتى فارق الحبيب الحياة فعلا البكاء و النواح وأنا وقتها لا أزال في القسم مع أخويّ "دون الأكبر" و الأوسط ولم يجد معلم كان في قسمنا ؛ بعد أن تيقن من وقوع الوفاة؛ شيئا يواسيني به ويلهيني عمّا حدث إلاّ منحي أوراقا ملونة تستعمل في الرسم . مات أخي بعد فترة من الصراع المرير مع المرض. مات بعد أن تلاشى شيئا فشيئا دون إسعاف من أحد . مات وهو بين أيدي بشرية عجزت عن فعل أي شيء كعجز المشلول الكفيف الأصم الأبكم، لكن هي إرادة فوق الإرادات و قوة فوق كل القوى، إنها إرادة وقوة الله القاهر فوق عباده ولاحول ولا قوة إلاّ به. لم تكد القرية تغفل عن هذه الفواجع المتتالية حتى بدأ الطفل "الصدّيق" يشكو لأمه إعتراض بقرات طريقه توهما، وما هي إلاّ ليلة حتى قضى ورحل . شعر"مداني"بالألم في رأسه فسارع أخوه إلى استدعاء سيارة الإسعاف من مقر البلدية الذي يبعد عن قريتنا بعشرين كلم. وفعلا قدمت السيارة وتم نقل المريض إلى المستشفى وبعد أيام عاد سليما معافى وخاليا من كل داء؛ لكن من هو أخ مداني هذا ياترى ؟ إنّه الممرض الوحيد بعيادة القرية البائسة . أكتفي بهذا السرد الواقعي الخالي من الخيال دون الخوض في التحليل و التعمق فيه لكن يمكنني القول- وهذا اجتهاد الكثير من أبناء القرية المتنورين - أنّ الموت سببه إصابة هؤلاء الأطفال الذين كانوا يدرسون في نفس القسم بإلتهاب السحايا. رحم الله هؤلاء الأطفال رحمة واسعة وجعلهم ولدانا مخلّدين في جنات النعيم ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم . |
الساعة الآن 06 : 02 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية