![]() |
كرسي السّعف
[frame="15 98"][align=justify]جلست إلى نور الشّمس تحيك . فالحياكة هوايتها المفضلة منذ أن كانت صبية .السماء صافية كأجواء الاِنسياب . تردد صدى لغة التّملص والانعتاق .
ظلال الأوراق تترامى عطشى على الجدران . ترتفع وتنخفض على إيقاع نسائم الصّباح . الأرض مستسلمة بين أحضان الشّمس . ما أعذب الركون حين يكون بين اثنين . يولد الجمال فقط حين ينعطف الواحد في ممرات الآخر. تُحني عينيها إلى بطنها . تتأمله بإنبجاس . تمرر أناملها بلطف عليه و كأنّها تخشى أن توقظ صغيرها . يشعر الجنين بأناملها .يضرب برجليه - كالعادة - ليعلمها باِستيقاظه . تصبّح عليه قائلة : صباح النور حبيبي . كيف أصبحت ؟ أرجو أن تكون قد اِزددت نموا . أتعلم ..أنا مشتاقة إليك كثيرا . و كرسي السّعف أيضا بانتظارك . أنظر إلى فراغه إنّه يناديك . تعال لتأخذ مكانك عليه . تعال حبيبي لألقنك الدّرس .فالدّرس قد استوى ونضج .! على كرسي السّعف المقابل كان يجلس زوجها يوم سألته : عزيزي ..ما مفهوم الحياة عندك ؟ ردّ هامسا : الحياة عندي أن نكون معا .! حنت بطرفها إلى موطن الأحشاء . فهم المعنى العالق بنظرتها . اِنحنى عليها . وضع شفتيه على بطنها التي لم تكن بعد قد أظهرت الحمل . قبلها في سكينة الصّفاء و هو يقول : طبعا حبيبتي ..فأنا وأنت مثل الأرض والسّماء وصغيرنا الشّمس التي تهبنا الحياة . فهل رأيت حياة دون شمس ؟. اِنحنت عليه تداعب شعيرات رأسه كمن يمرّ على روض فاتح . يلثمّ الورد مرة ويستنشق عطر الفل أخرى ويداعب ملمس الياسمين مرّة ثالثة. مرّت بكل شعرة حتى يُخيل إليك أنّ لها مع كلّ واحدة ذكرى . تناجيها فتردّ عليها . بينما اِستسلمت أنفاسه في حجرها إلى أنفاس الربيع المعبقة برائحة الحقول الخضراء . ها هي السّهول تعرج عاليا , لا تستحي أن تظهر لهفتها إلى مواسم الحصاد, و قد تعرت أمام كنانة الشّمس . أمّا السنابل الشّامخة فقد اِرتخت أمام أوتار الرّياح موقعة سمفونية ملساء لا تقل روعة عن منظر اللجج و هي تعتلي مواكب اليم. ما زالت أناملها تداعب شعيرات رأسه حين سألته : حبيبي ..تُرى ما لون غدنا ؟ وماذا ستُعدّ فيه لابننا ؟ شقّ البرق جيوب السّماء . فمال بطرفه صوب طرفها وهو يرفع رأسه عن حجرها .استوى على كرسي السّعف , تناول فنجان القهوة .اِرتشف رشفة , أنزل الفنجان , ضمّه بين يديه , و كأنّه يودّ أن يحتفظ من خلال حرارة الفنجان بحرارة السّؤال .عاد إلى الحقول المترامية باسطا خياله هناك . وقد اِرتسمت ابتسامة عذبة على شفتيه . يبدو أنّ الحقول قد فرخت في نفسه مواسم الحصاد . حيث ينحني المزارعون على أراضيهم يحصدون عرق الفصول , وهم مبتهجون بعطاء الأرض , و ممتنون لرحمة السّماء . فيطلقون العنان لحناجرهم ترتفع مع الفراشات وتنخفض مع لحن الوداع الذي تتراقص على وقعه الحقول . يُؤذيها ان يركن زوجها وجودها , أن يرحل لوحده إلى حيث المزارعين . لذلك راحت تمرر أصابعها على ظهر يده لترده إليها . اِنتبه لما تشعر به فابتسم . قالت إبتسامته اللّينة : أنت المهجة و الفؤاد . فإذا غبتُ فحتما أنا معك . أسعدها الردّ فاِبتسمت . أعاد فنجان القهوة بيد إلى الطاولة وضمّ كفها بيد . فهمته , تنحت عن كرسي السّعف , اِقتربت منه , جلست على حجره , ضمّت رأسه إلى صدرها .. فغرق كلّ منهما في الآخر . حتى يُخيل إلى كلّ من يراهما عن قرب أنّهما روحان حلا جسدا . كما يخيل إلى كلّ من يراهما عن بعد أنهما فرع أخضر من الفروع المستيقظة في هذا الحقل . يردّ عليها وهي بين أحضانه فيقول : لتثق حبيبتي أني أراقب كلّ يوم طول السنابل , و أحنّ مثلما تحنين إلى اِصفرارها , لأن موسم حصادها هو موسم آخر لحبنا . أمّا ماذا أعددت لصغيرنا ؟ فما عسى لفلاح أن يُعدّ لإبنه سوى كرسي من السّعف حتى يجلس إلى جانبنا يتلقن درس الحياة . و لن يكون درس الحياة ناجحا إلاّ في مدرسة حبنا . تسأله وقد اِعتلى الاِستغراب نبرات صوتها المتكئة على خصوبة الأرض : هل سنلقن صغيرنا درسا واحدا ؟! - نعم سنلقنه درسا واحدا لا غير . لكن الدّرس اليتيم سيكون عصب الدروس وصلب الحياة .! تعود لتسأله : هل يمكن لحبيبي الأستاذ أن يطلعني على فحوى الدّرس ؟ و أعدك أني لن أكشفه لإبنك .بل ستظل أستاذه الوحيد . جاء صوته : لا يا حبيبتي ..سنلقنه الدّرس معا . حتى إذا حدث وغبتُ عنكما... تكمم شفتيه بيديها الناعمتين . و قد سرت في جسدها قشعريرة باردة هزت سكينة نفسها وهي تقول : - أش .. لا تقل هذا من فضلك ,أنت ترعبني. - لكن حبيبتي..أنت تعلمين أنّ كلّ من حفظ درس الأرض اِستثقله ظهرها فتحتويه أحشاؤها .! يهولها كلامه بدل أن يطمئنها . تحتمي بصدره . تترجاه : عدني حبيبي ألآّ تفتح هذا الموضوع بعد اليوم . عدني وإلاّ لن أفتح معك موضوعا بعد ها . ما كان منه إلاّ أن هدّأ من روعها بين أحضانه ثمّ أسرّ لها : أي حبيبتي ..إنّ لون الغد لن يخرج عن لون الأرض , علينا فقط أن نمكنّ درس الأرض في نفوس صغارنا , و بعدها لنتركه يخوض الحياة التي حتما لن تبخل عليه بأقفالها . تباغت زوبعة رملية الحقول . تتفطن الزوجة . تلتفت حولها . تستشعر الوحدة . تتأمل بطنها المنتفخ . تمرر يدها عليه و هي تسحب نفسا عميقا . لا يخلو من لغة الحسرة و نظرة الأسى . تبسط ما كانت تحيك . إنّه برنوس يناسب حديثي الولادة . تعقد طرفي الصوف .لقد اِكتمل البرنوس . تزيده القبعة جمالا .أمّا لونه فقد امتصه من ريق السّماء. غشتها في البداية وهي تتأمله مسحة حزن . لكن سرعان ما تبددت . عوضتها إبتسامة عريضة . تمرر يدها من جديد على بطنها و هي تقول : هذا برنوسك يا أحمد حِكتُه لك بيدي كما حكت لك غيره . و لن أكفّ عن الحياكة حتى تشرفني بحضورك .. تعال يا حبيبي فقد حلّ موسم الحصاد , و ها هم الفلاحون قد طووا أراضيهم و طحنوا السنابل و ألقموها الافران . كما أن الدرس قد اِستوى و نضج على قدر الأيام . تعال لتأخذ مكانك على كرسيّ السّعف . كان ظل الأشجار حولها قد تقلص . حين راحت تجمع أشياءها في سلة من السّعف . قد صُنعت خصيصا لأدوات الخياطة والحياكة . استعانت بحافة الطاولة و هي تتنحى عن كرسي السّعف . سارت بخطى متثاقلة .مسندة يدها اليمنى إلى ظهرها . و باليد اليسرى كانت قد حملت سلتها . و عندما وصلت الكوخ اِستدارت إلى حيث كانت تجلس كانت الطاولة وحيدة تحتمي بظلال باهتة لشجرة تفاح . يصرخ شغور الكرسي المقابل لها . تُعرض عنه . تُربّت على بطنها المنتفخة . تستدير إلى الداخل مخلفة الحقول وراءها .[/align][/frame] |
رد: كرسي السّعف
الفاضله الأستاذه / شفيقه .
سأقول أمرا لم أقله من قبل .. لست من عشاق السطورالطويله .. ولكن احترامي وتقديري لحرفك المميز أجبرني أن أكمل القصه الى النهايه . جميل ماخطه قلمك البديع . بدأنا نتعرف على قلمك أكثر وعلى ما تخفيه الحروف وما تبوح به . حفظك المولى بعنايته . ودمت رائده . |
رد: كرسي السّعف
[align=justify]رومانسية شفيفة..سرد هادئ جميل ..انسيابية حريرية..قدرة كبيرة على التصوير..هذا ميدانك الرائعة شفيقة..
تذكّرتُ ابنتي القاصة حياة شهد وبداياتها في نور الأدب..مثلما يذكّرني الأستاذ عمار بأخي رأفت..استمرّي فهذا مجالك القاصة المبدعة شفيقة..مودتي..[/align] |
رد: كرسي السّعف
[align=justify]تثبّت القصة لجمالها وإكراما لصاحبتها وتشجيعا لقلمها..في: 07 ـ 02 ـ 2016[/align]
|
رد: كرسي السّعف
أشارك الأستاذ محمد الصالح الترحيب بك في الموقع ومسيرة موفقة ومتواصلة أتمناها لك مع مزيد من القصص..
تحياتي |
رد: كرسي السّعف
الأستاذ الفاضل : علي أبو حجر
سيدي ..كلما تقاطعت كلماتك مع حروفي كلما منحتني ثقة كبيرة في موهبتي و إحساسا نبيلا بإنسانيتك . أسأل الله العظيم أن أكون في مستوى ظنك و أن أستحق دعمك . أحب أن أستبشر خيرا بإسم" نجمة "لأنه عنوان القصة التي حصدت بها الجائزة الآولى على المستوى الوطني.لذلك جعلت إسمي على الفيس :chafika nedjma كل المودة والاحترام لك سيدي. |
رد: كرسي السّعف
الاستاذ الفاضل : محمد صالح الجزائري
صدقت نبوءتك سيدي ..فمجالي القصة والمسرح أيضا . وقد كُرمت فيهما في العديد من المرات في وطني الحبيب . ولكن ما يحول بيني وبين نشرها في هذا الفضاء الأدبي المحترم هو طولها .فأغلب نصوصي تشكل عشرة أضعاف النص الذي بين أيديكم .! ننتظر من سيادتكم أن ترشدني و العديد من المهتمين إلى حيل للنشر و سبل الاستزادة من نور هذا المنتدى و الاستضاءة بنور أصحابه . دمت وكل الأساتذة هنا مسارج تضيىء طريقنا . احترامي وتقديري سيدي. |
رد: كرسي السّعف
أستاذتي الفاضلة : نصيرة تختوخ
نبل منك سيدتي أن تحيطينني بكل هذا الدفء و الاهتمام . أتمنى أن أكون في مستوى ظنكم أجمعين . لك مني سيدتي كل الحب والاحترام. |
رد: كرسي السّعف
منذ ملامستي لحرفك الأول وهو ينهمر هنا على نور الأدب في انسياب عذب عرفت أنه كان قطرة أولى لغيث آت ..
وهاهو الغيث قد جاء مدرارا .. تنتشي له النفس ويطرب له القلب . عشت مع سردك الحميمي الرائع بكل ما حواه من تلقائية وصدق . العزيزة شفيقة ، لن أبالغ إذا قلت أن قلمك إثراء وربح للمنتدى . دمت متالقة في انتظار قطرات من غيثك الجميل . ودي وورودي |
رد: كرسي السّعف
سيدي و أستاذي الفاضل : رشيد الميموني
يخجلني تواضعكم سيدي وتمدني ثقتكم في بعزم وحزم كبيرين على مواصلة السير قدما . وكلي إيمان أنني سأخلف شيئا ما دمتم إلى جانبي. تعجز لغتي عن التعبير.فما عساي أقول ..؟ سوى لكم مني سيدي كل الاحترام والتقدير . |
الساعة الآن 00 : 02 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية