منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=65)
-   -   قصة : شهرزاد (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=29952)

شفيقة لوصيف 29 / 02 / 2016 54 : 01 PM

قصة : شهرزاد
 
كانت عقارب الساعة تزحف نحو الرابعة بعد الظهر عندما دخلت عليَّ صديقتي شهرزاد بوجه نسيت إشراق ملامحه على مائدة الفاجعة .تخبرني تحت وقع ذهول باهت أنَّّه أرسل لها بتحياته .! سألتها بنفس الذهول : من يكون ؟قبل أن تردّ رمقتني بنظرة ثمّ سحبت الكرسي المقابل و أنزلت جملة الكتب التي كانت تركب متن ذراعها و جلست تسترق النظر إلى الزملاء
من حولنا في قاعة التحرير. حيث كانت الحركة دائبة ..ليلى زميلتنا ترد على مكالمة هاتفية (تبدو مهمة) أنّها تحمل سماعة الهاتف بيد و تجمع أوراقها بيد أخرى .و ما كادت تضع السماعة حتى طلبت المصور الصحفي مراد الذي استفسر عن الموضوع وهو يجمع حاجاته , ردّت عليه في عجالة وهما يغادران القاعة بأنّ هناك رضعا و أطفالا و..في حالة تسمم بالمستشفى الجامعي جراء شربهم ماءً معدنيا .!في الجهة الأخرى يجلس السيد بشير يضع النقاط الأخيرة لمقاله السياسي قبل تسليمه ,فهو ممن لا تثنيهم الفوضى عن كتابة ما يريدون و يعلل ذلك أنّنا في زمن أقلّ ما يقال عنه أنّه زمن الفوضى المقننة .يقابلنا على المكتب الآخر زميلنا الفنان حسن يسخر رسمه الكاريكاتوري من رئيس الحكومة الذي أحال ملف إضراب البياطرة المعلن عنه منذ أيام إلى العدالة لتحكم ببطلان الإضراب قبل الشروع فيه .أمّا الأنسة بسمة فتجلس كعادتها إلى شاشة الانترنت تتابع جديد الكليبات لتنتق وتختار منها ما توشح به غدا الصفحة الفنية .
لمّا انتهت جولة شهرزاد بعينيها داخل قاعة التحرير همست لي : و من غيره ؟ صالح طبعا .!
- صالح..؟ صالح ..؟(همست في نفسي) أتذكرت ذاك العاري إلاّ من وسام الذكورة ,ذاك الذي ظلّ يُمني صديقتي شهرزاد و يعدها بالدفء والبيت حيث ستفرخ سبعة أولاد , سودّ أسماءهم على قائمة بيضاء ثمّ رحل ذات صيف ولم يعد . سألتها و أنا أتصفح قطع الدهشة المنصهرة على صفحة وجهها : و بم رددت ؟ حتما لقد ..قاطعتني بانفعال و كأنّها تطارد توقعاتي التي لم تكن تروقها و قالت : بأفضل التحايا طبعا .! أوشح بوجهي عنها , فتقع عيناي على رئيس التّحرير و هو يدخل القاعة , يرمقني بنظرة , فأومىء له أني تركت له المقال الخاص بعمودي على مكتبه .كلّ هذا و شهرزاد ما زالت تحاول إيهامي أنّ صالحا واحد من ألاف ضحايا العشرية الّوداء التي مرّت بها البلاد و التي تركت العباد فرائس بين
مخالب الضياع والبطالة . طلبت منها أن تقرأ الموضوع من زاوية كونها أنثى و ليست مضطرة أن تمنحه للمرة المليون بعد الألف بدليل يدين كرامتها عندما يعلم أنّها لم تشف بعد منه ,و أنّه الربيع الذي لم يذبل في حياتها . احتدم النّقاش بيننا فتركتها و حملت ذاكرتي المثقلة بك و عدت أجترّ الطريق إلى البيت وقد فجرتك شهرزاد كالتاريخ بداخلي .
وصلت البيت الرابض في الركن المظلم من زاوية ذاكرتي دون أن أستقرىء على طول الطريق لافتات الحيّ و لا ألوان البيوت كعادتي . فتحت باب البيت بالمفتاح النائم مع حزم الأوراق داخل محفظتي .استقبلتني أمّي بقندورتها السّوداء المطرّزة بالخيط الذهبي , و قد جمعت شعرها البني - الذي كانت قد اعتنت بلونه - داخل مربعات شبكة حيكت من الخيط الأسود الناعم .بعد أن حييتها جلست على حافة السّرير أرقب في صمت الروتوشات الأخيرة في سيناريو تحضيراتها لزفاف ابن خالتي , طلبت مني أن أجهز نفسي و أنّها بانتظاري و هي تسحب حذاء الأعراس الليلي ذي الكعب البسيط من الخزانة . و عبر المرآة راحت في انتشاء تتأمل حسن تناسقه مع فستانها . منذ أكثر من شهر - كعادتها مع كلّ مناسبة - و أمّي مشغولة بتحضير نفسها . على الجهة الأخرى من السّرير صففت أمّي مع كلّ قندورة ما يناسبها من أحذية و جواهر و حليّ . فأمّي متصالحة مع ذاكرة المدينة التي تُكرس إيمانها بالجمال , و عقيدتها بأنّ السّماء أوجدت خيوط الحرير من أجل أن تغازل في همس مفاتن النساء و إن كانت جاوزت المرأة الخمسين مثل أمي , فالسّن في عرف مدينتي لا يحول دون الفتنة و إن كانت الأدوار تُدار خلف إزار الحريم .ذاكرة لم أحسن يوما التواصل معها رغم معايشتي منذ صغري لتفاصيل حكايتها مع جدّتي و خالاتي وعماتي .
تستنكر أمّي برودتي اتجاه الأعراس وتستهجن تمردي وعصياني لأعراف المدينة . هممت أن أخبرها أنّ من كانت مثلي لم تخلق لمواسم الربيع بقدرما خلقت لمواسم الجرح والدّمع لكنني تراجعت وقلت في نفسي : لن ألبس اليوم تقاطيع شهرزاد و أنتظر الحياة أن تنصفني , أنا من صرفت عمري مسافرة في العوالم من أجل أن أطفو بالصدفات حتى إذا ما أورق الربيع رحلت إلى أعماق الغسق أحبل منه بالحياة . لمّا فشلت أمّي أمام إصراري حملت حقيبتها وغادرت البيت بعد أن أسمعتني نصائحها المتتابعة و المتعلقة بإحكام غلق الباب و النوافذ و الـتأكد من غلق أنبوبة الغاز قبل النوم .
دخلت غرفتي الصّغيرة حيث يتربع سريري الوحيد و على يمينه مكتب يتيم , تبعثرت على ظهره أوراق عطشى إلى نبيذ الحياة , و أقلام أخالها تصهل شوقا ككلّ ليلة لامتطاء الملفات السّوداء للمسؤولين . اقتربت من خزانتي الفقيرة من السّكان . و بعد أن تحررت من ثوبي الذي يسكنه الظلام . لبست الفستان الأبيض الذي يزرعه الفل و شيىء ما بداخلي يصرّ أن أعيش الليلة تباريح الفرح . داخل المغسل رميت وجهي بالماء و كانت بي رغبة جامحة أن أسقط عنه ملامح شهرزاد . أخذت أنشفه و عبر المرآة رحت أتأكد من أنّ تقاطيعي
لم تغادر وجهي . عينان غائرتان كجزيرتين يسكنهما الضجر . تحيط بهما هالات سوداء , يعلوهما جبين يشكو كفه سنين الملل, و قد استقرت شفتان يكسوهما الظمأ تحت أنف حاد مازال الشاهد الوحيد على تمردي . انسحبت إلى غرفتي التي تطل على البحر ,أديت ما عليّ من صلاة ثمّ رحت أستقرىء ذاكرتي على صفحات الماء الأزرق . وحدك يا بحر مازلت تحتفظ بذاكرتي , تبوح لي بأخبار المحبين كلما ارتمت عيناي بين أحضانك , جئت اليوم لأسرّ لك بتفاصيل حكاية جديدة اسمها شهرزاد . أنت يا بحر تعرفها حتما لطالما حدثتك عن أخبارها . شهرزاد مازالت تقرأ المستقبل بعيون الأمس , كم مرة أسررت لها أنّ المستقبل شرر متطاير ليس من الحكمة أن يُطفأ بعينين باردتين .لكن صديقتي شهرزاد ليست سوى صورة من ألاف النساء سادية مازوشية ينشيها أن تعذب ذاتها و أن ترقص على وتر الضحية .أنظر إليّ يا بحر جيّدا. هل ما زلت أحمل تقاطيع الضحية ؟ أنت من عشت تفاصيل الحكاية المعفرة بالغدر والخيانة .أتذكر يوم مزقتني أسنان الزغاريد و أسارير الفاجعة على باب المدينة عندما قالوا : اليوم سيُزف حبيبك إلى عروسه .! أنت يا بحر الشاهد الوحيد في قضيتي التي لم يُفصل فيها بعد و قد نُظر فيها قبل اليوم بعشر سنوات .
تقاطيع شهرزاد تثقلني , تُبعثرني كالموجات على سطح الصخر .تذكرني بك .لماذا رحلت..؟ أخبرني و سأغلق القضية للأبد و سيقيدها البحر ضد مجهول . شهرزاد راحت بعد أن علمت مكان تواجده لتسأله : لماذا رحل ؟ شهرزاد بفعلتها هذه تحلب الجرح في إناء من الوجع . تُقلب بطن الفاجعة على أكثر من مخاض . هل تظن يا بحر أنّها ستشفى منه إذا ما أخبرها كعادة كلّ من ذهب و لم يعد أنّ طريق العودة ضاع من تحت رجليه . و أنّ عنوانها تبخر من بين عينيه ؟. هل ستشفيها إجابته و قد عجزت السّنوات على تطبيب جرح لا يستحق إلاّ الطيّ و النّسيان .لماذا يا بحر يكون قدري وقدر شهرزاد الوفاء ؟ أخبرني يا قبلة العشاق و موطن الجراح كم من عاشق مخدوع جاء لينحت شكواه على الصّخر , و ليفرغ دمعه فوق مواكب الموج , و احد , إثنان ..لا تقل أكثر . فكلهم يحترفون الخديعة و يعزفون على وتر القطيعة . تمهل يا بحر أتسمع هذه الألحان العذبة ؟ من أين تبعث ؟ حتما من بيت عمّي عبد المجيد الروس . إيه ..ما أشجن العود حين يحاكي صوت الآه , غني يا أمّ كلثوم ..غني..اطربي كلّ مهموم , قولي :

يا صديقي رحم الله الـــهوى |||||||||||||||||||||||||||||| كان صرحا من خيال فهوى
اسقني واشرب على أطلاله |||||||||||||||||||||||||||||| واروني لطالما الدّمع روى

ها هو صوت أم كلثوم ينشر الآه على الجراح , ينبعث عاليا ليجهض الحلم في أمل متيم بالمنفى . عمّي عبد المجيد الروس ما يزيد على ثلاثين سنة و هو يجلس كلّ مساء إلى قهوة معطرة بماء الزهر , و يدعو السّت و على مرافىء المدخنة يتحرش بالذاكرة , و لا يخرجه عن عادته إلاّ المرض الشّديد . حتى في أيام الشّتاء لا يتوانى في فتح النافذة و عبرها يرسل صوت أمّ كلثوم و كأنّه يُشهد الأرض والسّماء على جرح أبى أن يندمل .أذكر و نحن صغار كنّا نتدافع لنطرق بابه . و بكلّ واحد منّا رغبة شديدة في فكّ طلاسم البيت الخالي من الأولاد . و كان كلّما فتح الباب أمطرنا بوابل من السبّ عن قلّة اهتمام الأولياء بتربيتنا . ولمّا كبرت سألت أمّي عن سرّ الألحان وخلو البيت من الأطفال . فأجابت : إنّ عمّك عبد المجيد الروس كان ..و قاطعتها مستفسرة : لماذا يسمّى بالروس يا أمي ؟ تأملتني مدّة و كأنّها تسترجع في عمر اللّحظة أحداثا ماضية ثمّ ابتسمت و هي تقول : إنّ عمّك عبد المجيد الروس كان أهم رجال جبهة التّحرير أثناء الاستعمار الفرنسي للجزائر . و قد أطلقت عليه الجبهة كنية " الروس" لأنّه كان آية في الجمال و الحسن . رجل طويل القامة ,
عريض المنكبين , مشرق البشرة حتى أنّ الدّماء تكاد تتفجر من خدوده . عيناه زرقاوان و شعره أشقر يميل إلى الحمرة . لمّا رأته رقية بنت أحد شيوخ العلم في المدينة شُغفت به
كما تعلق بها قلبه . و كان أن نمت مشاعر بينهما خاصة و أنّ عبد المجيد الروس كان كثيرا ما يتردد على بيت الشيخ بحكم المهام السّرية التي تكلفه الجبهة بأدائها ...

( يتبع)

رشيد الميموني 29 / 02 / 2016 32 : 03 PM

رد: قصة : شهرزاد
 
العزيزة شفيقة .. تحية إكبار وإعجاب لا حد لهما ..
وكأني بكلماتك تكتبك وليس العكس ..
خلت نفسي أتنقل بين أنحاء قاعة التحرير أتفحص الوجوه التي أتقنت وصفها ووصف نفسياتها ..
أنتظر الآتي ولي اليقين أنه يحمل ما يشفي غليل النفس التواقة لقراءة الجمال .
دمت ودام لك الإبداع صنوا

علي ابو حجر 01 / 03 / 2016 54 : 11 PM

رد: قصة : شهرزاد
 
ما شاء الله .

قلم يستحق كل التقدير والإحترام .

قامه أدبيه ستصنع مجدا أدبيا مميزا .

عذرا .. كتبت عدة ردرود ولم تنشر .. ووضع النت هنا سيء جدا ..

أطيب الأماني

احترامي الكبير وتقديري .

حفظك المولى .

محمد الصالح الجزائري 02 / 03 / 2016 08 : 04 AM

رد: قصة : شهرزاد
 
[align=justify]القاصة المبدعة الأستاذة شفيقة .. شهرزادك تبدو أجمل حين قمتِ بتهريبها من ألف ليلة وليلة!!! لا شيء يوقف إبداعك أختاه..دمتِ متألقة ..مودتي والندّى..
همسة:
اسقني واشرب على أطلاله ||| واروني لطالما الدّمع روى
(واروِ عنّي طالما الدمع روى)

ملاحظة: (عمّي عبد المجيد الروس) أنا أعرفه شخصيا..لقد توفي على طريق واد الزناتي قالمة ؟؟ رحمه الله..
[/align]

شفيقة لوصيف 02 / 03 / 2016 06 : 01 PM

رد: قصة : شهرزاد
 
الأستاذ الفاضل : رشيد الميموني

يسعدني جدّا وقوفك عند نصي واحتفاؤك

بلغة وصفه .

حتما إنّ قلمي ينتعش بتشجيعكم .

و أتمنى أن أكون دائما عند حسن ظنكم .

كل الاحترام والتقدير لشخصكم

شفيقة لوصيف 02 / 03 / 2016 08 : 01 PM

رد: قصة : شهرزاد
 
الأستاذ الفاضل : علي أبو حجر

شهادتك فخر لي و دعمك هبة سماوية .

أسأل الله لك التوفيق في كل خطوة تخطوها .

كل الاحترام والتقدير .

شفيقة لوصيف 02 / 03 / 2016 17 : 01 PM

رد: قصة : شهرزاد
 
الأستاذ الفاضل : محمد الصالح الجزائري

" القاصة المبدعة ..شفيقة "

شهادة سأنحتها على جدار العمر من قامة مثلك سيدي

همستك وصلتني ..وقد حاولت تصحيح البيت ولم أنجح .

و أحبّ أن أسرّ لك أنّ قصة شهرزاد قد نالت جائزة وطنية.

سنة 2009 جائزة عبد الحميد بن هدوقة .

احترامي وتقديري سيدي .

رأفت العزي 15 / 04 / 2016 09 : 01 AM

رد: قصة : شهرزاد
 

القاصّة الأديبة الأخت شفيقة لوصيف تحية احترام وتقدير
أعتقد سيدتي إن الكتابة كما خبرتها على تواضع ما كتبت وأكتب عمل شاق ومضني ..
وأعرف حجم المعاناة حينما يُقدم الكاتب على عمل وينجز منه ما ينجز على وعد بملحق يُكمل ما سبق
فتخونه الهمة ويخونه الوقت مع أن الفكرة تامة مكتملة ولا تحتاج إلا إلى هذين الأمرين : الوقت والهمّة .
أتمنى أن يساعدك الوقت سيدتي لإكمال عملك الرائع والجميل

Arouba Shankan 26 / 04 / 2016 28 : 01 PM

رد: قصة : شهرزاد
 
سرد ممتع وشيق شدني حتى آخر نقطة في سطور شهرزاد
بانتظارك على الدوام تحيتي


الساعة الآن 52 : 07 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية