![]() |
(( لن يذهبا للتقاعد ابدا ! ))
.............
كان قد اصبح في سن متقدمة ولم يعد يٌسمح له بالبقاء في مضمار السباق ، ولم يعد يُسمح له الإقامة في تلك القاعات الواسعة المعقمة والمكيفة ؛ فوجوده فيها ، كان يعني لأصحابه خسارة المزيد من المال ثمنا للطعام المميز ، والطبابة المتقدمة ، والرعاية الكاملة والدلال النفسي والرفاه فتخلصوا منه سريعا ؛ مع انه كان قد درّ على أصحابه المال الوفير ، وكان له صولات وجولات في مضامير السباق حصد من خلالها العديد من الجوائز المادية والمعنوية وكان من بين المفضلين ؛ وحينما حان وقته ليرتاح، اهملوه. عزّت عليه نفسه مرض فباعوه بثمن بخس ! :: حين اشتراه ، كانت تبدو عليه أعراض اليأس والمرض. كانت عيناه غائرتان ، عضلاته زائلة ، عظامه ظاهرة وكان يمكن للعين المجردة رؤيتها بوضوح وعدّها بكل بيسر ! حين اشتراه ، كان قد استدان ثمنه فهو فقير معدم لا يملك غير عربة خشبية شبه محطمة كان يخرج بها كل صباح ،يطوف شوارع المدينة وازقتها ليحمّل عليها ما تيسر له من مخلفات الناس المرمية في مستوعبات القمامة أو ينتظر قدومه بعض الناس ليساوموه على بعض أسلاك نحاسية أو قطعة حديد صدأة ، أو بطارية لا تعمل ؛ وإن حالفه الحظ قليلا يحظى بأشياء يستفيد من تفكيكها كغسالة قديمة أو فرن غاز لا يعمل ولا يدفع ثمنها لأنها ملكية مكبات النفايات مصدر رزقه الأكبر ؛ . فعندما استدان ليشتريه ، كان يتوقع أن يكبر رزقه ويتوسع وكان يحلم باليوم الذي يأتي من ينوب عنه في جرّ العربة والوصول إلى أماكن يعتقد أن له فيها رزقا كثير ! كان يقول بأن حركته سوف تكون أسرع ، و حمل العربة سيزداد ، وسوف يصل في سعيه إلى أماكن جديدة ما كان ليستطيع الوصول اليها ولا كان بمقدوره جرّ العربة على طرقاتها خصوصا إلى تلك القرى الصغيرة الواقعة على تلال مرتفعة نسبيا وبعيدة عن مدينته الصغيرة . كان يعتقد أن باستطاعة هذا الحيوان السير فوق المعوقات في كل الطرقات المعبدة أو الوعرة وقد فعل ذلك في أول يوم شدّ فيها العربة إلى الطوق الذي أحكم فيها رقبة هذا المخلوق المُهان والصابر على صاحبه مالكه الجديد والذي اتخذ مكانا له مكانا للجلوس على أحد أطراف العربة ممسكا برس الحصان مطلقا مواويله الحزينة ليؤنس وحدته وحصانه ويعتقد أن رفيقه سعيدا وكل شيء معه ممكن ! - " خُلق لهذا الشيء " جملة كان يكررها كلما وقف شخص ما لينصحه بأن يريحه قليلا أو ليأخذه إلى طبيب ليعالج تلك القروح الظاهرة على أكتافه ورقبته نتيجة حفّ الحبال التي كانت تشد العربة ، أو على الأقل ،ليعالج رجله الأمامية المتورمة ، فهو غير قادر ، ولا يستطيع الاتكاء عليها ؛ لكنه كان يردد نفس الجملة : ” قد خُلق لهذا الشيء " وكان يزيد في القول بأنه " حيوان وليس انسان " ! وعندما يضيق ذرعا بأحد المطفلين يقول : " تعال وجرّ هذه العربة بدلا عنه وعني " !! فابو تيسير ، قد تجاوز الخامسة الستين من العمر .. لا ترى منه غير عينتين جاحظتين عامصتين يلتف حول ساعديه شبكة من الشرايين الغليظة الظاهرة بقوة تمتد من أصابع يديه صاعدة حتى أعلى رقبته وتكاد تنفجر أو تخرج من جلده الرقيق حينما ينظر إليك يطل بوجهه الشاحب المتسخ المتعرج بخطوط عميقة حفرها البؤس والزمن على ذلك الوجه المطحون وحينما يحدثك يجب عليك الانتباه إلى ما يقوله مرة واحدة فالكلام يخرج من فم ليس له شفاه سوى خطين من السواد مطبقين على سيجارة اعتاد على امتصاصها حتى الرمق الأخير ولا يُبقى منها سوى ما التصق بفمه قبل ان يبصقها دونما حرج من أحد ! يمشي شبه حافي القدمين فهو لا ينتعل حذاء بل شيء مربوط بعقدة ظاهرة أعلى قدميه ويرتدي سروالا فيه أكثر من عشرة رقع بألوان مختلفة لا يستبدله حتى لو جئته بسروال جديد .. ولا احد يعرف إن كان أبا تيسير في رأسه شعر فلا أحد رآه خالعا قبعته التي لا تعرف لونها ! يقولون ، أن ابو تيسير قد جرّ العربات الخشبية بكتفيه لأكثر من خمسين عاما وكان يجرّها كالثور العالق به المحراث ولا يعرف طعما للراحة ؛ ومن حسن حظه أن العربات كانت تتطور مع تقدم الزمن . عجلاتها من قبل ، كانت عجلات خشبية لا تحتمل ، وتتكسر عند أي مطب صغير .. ثم لحقها التطوير وأحاطوا إطارها الخارجي بطوق من الحديد فصار عُمرها أطول ؛ ولكن أبو تيسير ، عمد بعد ثلاثين عاما على مهنته بأن أخذ " العامود الخلفي " لسيارة محطمة ، وركبّ لها عجلتان من الكاوتش فصار جرّ العربة عليه أسهل ولكنه كان يتقدم في السن أيضا ! ومع اقتناءه لهذا المخلوق الهزيل اعتقد أنه سوف يرتاح من الجرّ وقد جرّ إليه التهاني من معارفه وممن كان يراه راكبا، يبارك له من بعيد ويردد البعض منهم انه أخيرا وجد " معينا رفيق درب وصديق ! " لم يتوقع ابدا .. وما كان يدري أن كبرياء ذاك المخلوق المُهان قد تحالف مع الأمراض وعملوا من اجل القضاء عليه سراً ويوما بعد يوم حتى جاء اليوم الذي لم يعمل ابو تيسير حساب له ! في طريق إحدى التلال المرتفعة ثقلت خطوات الحصان بينما كان يجاهد للوصول إلى رأس الطريق، كان عرقه يتصبب من انحاء جسده ،لهاثه صار كالصهيل المقلوب ، ثم توقف عن السير تماما . عينيه دامعة جاحظة ، قدماه الخلفيتان ترتجفان بقوة.. والأماميتان واحدة في وضع الركوع والأخرى يتكئ صدره عليها ، عجلات العربة يشدها الثقل إلى الوراء وكان يقاوم بشده .. امتدت عصا أبا تيسير لتلوي عنقه ويمشي ولكن دون فائدة إلى أن سقط فجأة على الأرض ، حاول القيام مرة بعد مره ولكن ما أن يرفع رأسه حتى كان يهوي من جديد ! صاح ابو تيسير كثيرا ، ضربه مرارا لكنه لم يقم كما كل مرّة . كانت عيناه الدامعتان تنظران نحو صاحبه نظرة عتب و نظرة اعتذار .. ! فقدرته على التحمل قد انتهت بعد أن صبر طويلا وتحمل طويلا . كان يتنفس بصعوبة ثم صار نفسه متقطعا و نظراته تطلب الرحمة ليطلق احدهم عليه رصاصة - يسمونها رصاصة الرحمة ،-فكلما طال نزاعه ، طال عذابه وزاد حزن ابو تيسير ! فصاحبنا لا يريد أن يصدق بأن هذا الحيوان كان يفارق الحياة ، يزداد الما كلما أدرك أن هذا الشهم لا يستطيع الوقوف فحاول تغيير سلوكه ونبرته .. جلس فوق رأسه ، تحدث إليه بصوت موجوع وقال : " سأوصي لك على لجام جديد ، وأجلب لك طعاما مغذيا و سأتركك ترتاح يوما في الشهر ! قم .. أرجوك قمّ ، فأنا هرمت ، وضعفت قواي و لم يعد باستطاعتي جرّ العربة " أشعل سيجارة دونما النظر إلى أي اتجاه سوى رأس الحصان الذي كان في النزاع الأخير ثم عاد ليقول : " لا أعرف كيف باستطاعتي سداد الدين الذي كان لأجلك إن لم تقم أرجوك قمّ ! أعدك بألا نعود إلى هذه التلة العالية ، أعرف انها اتعبتك .. لكن لا تفعل هذا بي .لا تتركني وترحل فأنت رفيقي الوحيد وصديقي الذي احببت ! " شخر الحصان شخرته الأخيرة بصوت خافت ، نظر إلى صاحبه البائس وأغمض عينيه على حلم صهيل كانت تطرب له الفرسان . كان ابو تيسير يقول " إن مت في مكان سكني ، سوف يموت هذا الحصان معي وإن مت على الطريق ، سوف يحملني ويعود بي إلى ذلك المكان أو يتركني ميتا في الطريق ويصبح حرا " ها قد ونال حريته أخيرا ولكن على ابا تيسير الإنتظار؛ ينتظر معجزة ما تحيله على التقاعد أو ينال حريته وهو يجرّ العربة . |
رد: (( لن يذهبا للتقاعد ابدا ! ))
شكرا لك أي هذا الصديق الأديب رائع وجميل وممتع هذا السرد الدرامي البديع ,,,,
ذكرتني بالمثل العربي الشهير / لقد هزلت حتى بدا من هزالها : كلاها و حتى سامها كل مفلس محبتي واحترامي وتقدري لك |
رد: (( لن يذهبا للتقاعد ابدا ! ))
وصف دقيق لمعاناة طالت وتشابكت فصولها وكأن الشيخ والحصان انصهرا في روح واحدة ..
استمتع كثيرا بكتاباتك أخي رأفت وكانك تضفي على نصوصك نزرا من إنسانيتك المتدفقة فتمنحها القا ونحس في نبرتها صدقا وعفوية . لك محبتي الدائمة |
رد: (( لن يذهبا للتقاعد ابدا ! ))
[align=justify]مفاجأة سارة بالنسبة لي.. قلتَ مراراً أنك لا تكتب أي صنف أدبي ، وكنت متأكدة من العكس.. وها قد أثبت حسن ظني يا ابن حيفاي أهلاً بك في نادي القصة القصيرة أستاذ رأفت القصة معبرة وأنا بانتظار المزيد عميق تقديري لك[/align] |
رد: (( لن يذهبا للتقاعد ابدا ! ))
الأستاذ الفاضل : رأفت عزي
سرد ممتع نجح في كشف اللثام عن قيمة الإنسان في مجتمع لا يؤمن إلاّ باليوم...!حتى إذا ما شاخت قوى الفرد تنكر له مجتمعه و أصدر فيه حكما بالنفي . مزيدا من النجاحات . مودتي . |
رد: (( لن يذهبا للتقاعد ابدا ! ))
اقتباس:
الروعة هو حضورك أيها الأخ الحبيب الإستمرار في الكدّ ومزاولة الأعمال الشاقة رغم ضعف أجسادهم وتحمل ما لا يقوى عليه الشباب كي لا يسألون الناس !! أسعدني حضورك الشكر لك والتقدير والمحبة |
رد: (( لن يذهبا للتقاعد ابدا ! ))
اقتباس:
من نعم ربي عليك سمة التواضع والكبير العظيم من يُشعر الآخر برضاه واهتمامه .. وهنا أيها الأخ الحبيب لا أجاملك إن قلت لك أن هناك من هم مثلي يبحثون عن جديدك ليستمتعوا فعلا وأنت الأديب الذي يعمل على تهذيب الكلمة واخراجها بشكل ساحر في النغمة والمظهر الشكر لك والتحية الاحترام والتقدير |
رد: (( لن يذهبا للتقاعد ابدا ! ))
اقتباس:
الحظ السعيد لأي كاتب وضع توقيعك الكريم على ما انتج أو ما خربش أما سعدي هنا فهو يفوق غيري بثلاث أضعاف توقيعك الكريم اولا ، وصفة لا يتمتع بها احد غيري من الكتاب هنا قولك " يا ابن حيفاي " يا ابنة حيفاي ( من لا يعجبه فليطق ويفلفل ) ههههه / طبعا هذه حقيقة وليست ميزة فجميعنا بكل تأكيد أخوة . أما قمة السعادة هو اعترافك بي كاتب في غير السياسة ! الشكر لك يا سيدتي والتحية لك الاحترام والتقدير |
رد: (( لن يذهبا للتقاعد ابدا ! ))
اقتباس:
جَلَدُك وصبرك على السير في طريق معبّد بالحزن والشوك لتتابعي مشوار أبا تيسير حتى النهاية بطولة .! ففي وطننا العربي ملايين الصور الشبيهة بتلك التي ستبقى شاهدة على الانفصام الشخصي لمعظم المجتمعات والأفراد في هذا الوطن الكبير فالسلوك لا ينسجم مع ما ندعيه العدل والرحمة . تحيتي اليك تقديري واحترامي وشكري العميق |
رد: (( لن يذهبا للتقاعد ابدا ! ))
مساء الإبداع والقصص التي تستولي على الإحساس
أستاذي الأديب الجميل رأفت العزي سلمت يمناك .. بكل صدق شعرت بالدمعة تهوي على خدي .. تأثرت جداً بما قرأت وبصدق أقول تمنيت لو أنها رواية .. أحببت أن تسترسل أكثر فهذه القصة على بساطتها تحمل الكثير من المعاني وتصل إلى كثير من الأماكن التي لا نفكر أن نصل إليها .. أستاذي الأديب الرائع الذي ما ينفك يفاجئنا بقصصه وخواطره أعيد وأكرر تمنيت لو أنها رواية أهنئك على الفكرة والأسلوب والجاذبية في الطرح وكان الله في عون أبا تيسير وبارك فيك أخي وأستاذي وأدام عليك هذا العطاء |
الساعة الآن 26 : 03 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية