![]() |
مَنْ هُناك؟
مَنْ هُناك؟
* * * جلس الغريب ليس بعيدًا عن الحقول ولاح في الأفق جدارٌ ضخمٌ مرتفعٌ يلتفّ كأفعى ليقسم البلدة إلى جزئين. - مَنْ هذا الغريب؟ تساءل كبارُ السنّ الجالسين في الجوار، اقترب منه فتى يافع وصاح قائلا: - يسألون "من هذا الغريب؟". - أبي ولد في هذا المكان قبل ما يزيد على نصف قرن. - يقول إنّ أباه قد ولد هنا قبل نصف قرن. صاح الفتى للشيوخ الذين ازدادت حيرتهم بأمر الغريب وسرّه، تفكّروا قليلا وقال أحدهم: - لم يسبق أن ولد كائن حيّ بنصف قرن في رأسه في هذا المكان. صاح الفتى تجاه الغريب وقال. - يسألونك إذا كنت على ثقة من أنّ والدك لم يلد بقرن بكامل؟ التفت الغريب إلى الجدار وهزّ رأسه بألم. - كلّنا نمتلك قرونًا في هذا الزمن السيّء، كلّنا نمتلك قرونًا دون أن نشعر بذلك. صاح الفتى نحو شيوخ القرية: - يقول إنّ الزمن سيّئ للغاية، ولا أحد يدري أو يشعر بذلك. وجّهوا أنظارهم إلى السماء وكانت صافية دون غيوم أو سحب عابرة. - الزمن قيمة ثابتة، وقد يقصد حالة الطقس، لكنّ السماء تبدو صافية ولا مؤشّرات لهطول الأمطار في القريب العاجل، لا يحلم أحد بسقوط قطرة ماء واحدة من السماء في مثل هذه الأوقات. يا له من غريب، ادعوه لتناول الطعام معنا إذا رغب برفقتنا يا فتى. - يا غريب، لا ماء في السماء، هل تريد تناول الطعام أم ترغب برفقة؟ - أريد أن أحلم لبعض الوقت، هنا دُفِن أجدادي قبل أن تضيع البلاد ويغتصبها الغرباء من كلّ جنس ولون. نظر الفتى لحشد الكبار وقد تعب من نقل الحديث وصاح مجددًا: - يقول إنّ الغرباء ملوّنون ولا جنس لهم. ضرب الكبار كفًا بكفّ ومضوا بعيدًا كلّ إلى شأنه تاركين الغريب وحيدًا يتأمّل الأفق. اقترب الفتى من الغريب وهمس: - ذهب المسنّون ولم يبقَ سواك تلوك حسرة الماضي. لماذا حضرت إلى هنا بعد هذا العمر؟ - ما أكثر أسئلتك، لماذا طردتهم؟ إنّهم أقربائي في نهاية المطاف، صاح الغريب بدهشة. - لقد أنقذتك من الوهم، تغيّرت الأحوال يا صاحبي ولن تجد سوى الحسرة. ستخسر الأمل والذكرى، توقّعتُ أن تشكرني بدلا من لومي. - لكنّي حضرت لأسقي قبر جدّي، هذا ما أوصاني به والدي قبل أن يموت، وأنتَ تعرف ذلك جيّدًا. صاح بحيرة. - بل أعرف أكثر من ذلك. قال الفتى الذي كانه يومًا وابتعد ليختفي في طريق فرعية مهجورة بمحاذاة الجدار. * * * اقتربَ من الجدار، تحسّس قلبه الإسمنتيّ البارد، حاول أن يستمع لنبض الحياة خلفه، لكنّ وقعَ الصمت أقوى. ابتعد خطوات إلى الخلف ونظر إلى الأعلى، الجدار يملأ الأفق، يحجب الحياة وقبر الجدّ هناك، حيث صودر رحيقُ الأرض وتاريخُها. القبرُ على بعد أمتارٍ معدودة فقط، لكنّ الوصولَ إليه يحتاجُ للتحليق في السماء لساعات كي يصل إلى غايته، يحتاج لتحمّل عبء التفتيش والتحقيق. تُرى، هل يمكن إقناعهم بحسن نواياه، وأنّ الذاكرة وحدها هي التي حثّته على قطع القارات لسقي تربة قبر؟ ماذا سيفعل إذا قرّروا مصادرة ذاكرته؟ عليه أن يصرّح بحمله الثقيل وأن يعرّي ذاكرته كي يدخل التاريخ ويعود عقودًا إلى الوراء، حيث الزيزفون والزيتون ينموان في الفضاء حرّان، ينطلقان نحو الأعلى دون منغّصات، والتينُ التينُ يثمرُ كلّما تنهّدت الأرض. الجدارُ أفعى تمتدّ حوله، تطوّقه، لا ترحم ضعفَه، تنتهك حنينَه، ولا يتوقّف فحيحُها، تبتلعُ العصافيرَ والأرانبَ والشنّارَ والأفعى لا تشبع. وفي أعلى الجدار يرقبُ الغريبُ عبر عدسة منظار رَجْعَ كلّ حركة يقوم بها، يرقب دبيب خطواته البطيئة ودقّات قلبه. يصوّب البندقية بدقّة نحو مركز الحنين والذكريات، خلفه قبرٌ نضجَ يطالبُ بقطرات ماء يصبّها الحفيد وأمامه هدفٌ رائعٌ مثاليّ يستجدي رصاصة، والغيوم على غير عادتها تجمّعت لتسقي قبرًا وجثّة سقطت للتوّ برصاصة موجّهة برجع الليزر. |
رد: مَنْ هُناك؟
هناك قصص تروى فتدفعنا نحو السؤال ، وقصص تُروى نحو الحيرة ولكن مثل قصتك أيها الأخ الحبيب تضعنا في وضع نتأمل فيه بعمق
كل ما جرى ويجري نتسائل : هل هو حلم سيء ، هل هو كابوس ثقيل ؟ نسترجع الزمن قليلا فتراني ألعب فوق قبر جدي بنبتة زرعتها جدتي قبل هجران القبور والدور ، ويا للعجب .. حلف قريب لنا بعد ستين عاما أن النبتة الصغير صارت شجرة بعدما انقطع عنها الماء ارتفعت جذورها نحو الأعماق وتشابكت مع عظام أجدادي / أجدادنا . الأديب الأستاذ خيري حمدان شكرا لك وتحية لقلمك |
رد: مَنْ هُناك؟
اقتباس:
هو كابوس وأمل وترقّب ورغبة بالتماهي مع الماضي والبحث عن جذر زيتونة وكرمة. أشكرك على كلماتك وعباراتك العميقة. دمت بمودّة. |
رد: مَنْ هُناك؟
الأستاذ الفاضل : خيري حمدان
التين يثمر كلما تنهدت الأرض .. تعبير جميل وبناء متشابك للأحداث يتطلب اعمال العقل فهنا لم يعد القارىء ذاك المتلقي السلبي بل عليه أن يساهم في بناء النص .. نشم رائحة الأرض الممهورة برائحة الزيتون فندرك أنها أرضنا المسلوبة . نص ثرّ من حيث الدلالات والرموز مزيدا من النجاحات أستاذ. احترامي وتقديري لكم . |
رد: مَنْ هُناك؟
الجدارُ أفعى تمتدّ حوله، تطوّقه، لا ترحم ضعفَه، تنتهك حنينَه، ولا يتوقّف فحيحُها، تبتلعُ العصافيرَ والأرانبَ والشنّارَ والأفعى لا تشبع. ولن تشبع الأفعى مادامت الحمامة فردا .. والغربان على كثرتهم ضعاف.. متفرقون يهلوسون من بعيد.. أستاذ خيري حمدان راقني حرفك الموسوم باستفهام |
رد: مَنْ هُناك؟
اقتباس:
شكرًا لحضورك الجميل، شرّفت صفحتي، دمت بمودّة. |
رد: مَنْ هُناك؟
اقتباس:
خالص الشكر والعرفان لبصماتك الجميلة التي أضفت على هذه القصّة حضورًا وتألق. مودّتي. |
رد: مَنْ هُناك؟
رائع أستاذ خيري
أبدعت وتألقت دمت ودام قلبك وقلمك ينبض بالإبداع والنضال وحب الوطن تحياتي لك |
رد: مَنْ هُناك؟
اقتباس:
|
رد: مَنْ هُناك؟
نصوصك أخي رمز لهوية مترسخة في أعماق كل نفس معتزة بانتمائها .. لا يمكن لأية قوة أن تمسحها أو تغير من معالمها .
دمت مبدعا متألقا . |
الساعة الآن 48 : 11 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية