![]() |
بابا نويل....
توقَّف على مقربة من الخيام البائسة.. وما إن بدأت نظراته تسيل عليها، حتى تردَّد..
(أيّ هدية ستُفرح قلب من يعيش هنا؟). كاد يتراجع، لكنه حزمَ أمرَه وتقدم بخطوات متهيبة، مخاطباً نفسه: (يظلون صغاراً، والهدية مهما كانت تُفرح قلوب الصغار..). حين توسَّط الخيام، ألقى عن كتفه كيس هداياه.. أنصت هنيهة.. لا صوت، لا حركة.. فقط سكون دبق موحش ينتشر في جو المخيم كاللعنة.. حكَّ أنفه مفكراً، ثم نادى بصوت حنون: ـ بابا نويل.. أنا بابا نويل.. تعالوا إليَّ أيها الأحباء الصغار... شعر بحركة تصدر عن الخيام القريبة منه، فداخله شيء من فرح.. ومرت لحظات، ثم خرجوا.. كانوا مجموعة من الأجساد النحيلة في ملابس أشبه بالخرق.. أحسَّ بحلقه يجف، ثم خفق قلبه بشدة، لكنه تمالك نفسه.. نظر إليهم.. كانت جميع النظرات مصوبة بفضول مثير إلى كيس الهدايا المنفوخ.. ابتسم، أشار إليهم مشجعاً، وبحركة واحدة انقضوا جميعاً على الكيس، فتحوه، قلبوه، تناثرت من داخله مجموعة دمى شقراء وسوداء بثياب زاهية ملونة، دببة، قطط سمينة أنيقة، كلاب مدللة... وتوقع بابا نويل أن يتخاطفوا الدمى فرحين بها، لكنه فوجئ بهم يتراجعون بصمت.. تطلع في وجوههم مستفسراً، فرأى في عيونهم سحابة خيبة موجعة.. انقبض قلبه، ارتبك، ثم انطرحت على شفتيه اليابستين ابتسامة بلهاء لا معنى لها.. قال بصوت واجف: ــ ما بكم؟ لماذا لم تأخذوا الهدايا؟ ألا تعجبكم؟ لا، سأزعل منكم.. هيا.. هيا خذوها.. لكن أحداً منهم لم يتحرك.. ومرت فترة صمت خانقة ارتفع بعدها صوت حاد يقول: ــ أنا جائع يا بابا نويل، لماذا لم تجلب لي طعاماً معك؟ صرخ صوت ثان: ــ أنا حافٍ يا بابا نويل، انتظرت أن تجلب لي حذاء معك. ثم نَبَضَ في عمق السكون صوت رفيع مرتجف مغسول بالدمع: ــ أنا بردانة.. بردانة جداً، هل معك كنزة لي؟ وتتالت الأصوات تطالبه بالطعام والكساء.. أحسَّ قلبه يندفع إلى حلقه من شدة التأثر.. انطفأ، انطفأت الكلمات في فمه.. بكى وهو يحتضن رأسه بين كفيه دون أن يجرؤ على النظر إليهم.. وتحركت الأقدام الصغيرة كل واحد إلى خيمته، بصمت حزين.. تاركين بابا نويل وكومة الدمى التي أحضرها على الأرض، وكأنها كومة جثث منتنة.. رفع رأسه.. كانوا قد اختفوا.. وحين بدأ يعيد دُماه إلى الكيس، شعر بالخجل والأسى يترسبان في قاع قلبه باردَين لزجَين كالوحل الذي راحت تغوص قدماه فيه.. نُشرت هذه القصة في صحيفة الجندي، بتاريخ 1983/1/4 |
رد: بابا نويل....
[align=justify]المفكّر والأديب الأريب أخي الأستاذ الصواف..إن كان بابا نويل قد فشل في إسعاد الصغار فقد أسعدتنا وأمتعتنا نحن الكبار بهذه القصّة التحفة ذات الدلالة العميقة ! لغة السرد قوية رصينة وهذه لغتك في كل كتاباتك..فحينما أقرا لك أقرأ لأتعلّم أولا ..ثم لأستمتع بعد ذلك إن كان قصّا أو توثيقا أو مقالا..ودون مجاملة أخي الصواف على شباب نور الأدب أن يأخذوا عنك ومنك فنون الكتابة وسلامة اللغة ووهجها..شكرا لك ..مودتي وتقديري واحترامي لشخصك وقلمك..[/align]
|
رد: بابا نويل....
[align=justify]وهأنذا أعود سيّدي الصواف..أعود مرة..وسوف أعود أخرى إن شاء الله..لدي طقوسي الخاصة في قراءة القصص ، وهذا منذ أيام الإبتدائي تقريبا.. كنتُ أقوم دائما بعميلة الهدم وإعادة البناء ، الحذف والإضافة ، التقديم والتأخير حتى أرسو على تصوّر معيّن للذي أقرأ..فكثيرا ما حوّلت النهايات الحزينة إلى مفرحة ، والعكس..وهكذا..وكان هذا يثير استغراب المعلّمين..والغريب أنه أصبح يثير استغرابي أيضا (ابتسامة) !! لذلك سيدي قرأتُ (بابا نويل) وألغيت الحوار..ثم قرأت الحوار دون بقية الأركان..أدهشني النص في الحالتين..فالبنية الفنية للقصة جاءت على قدر كبير من الإتقان..
1 ـ بابا نويل دون الحوار: شعر بحركة تصدر عن الخيام القريبة منه، فداخله شيء من فرح.. ومرت لحظات، ثم خرجوا.. كانوا مجموعة من الأجساد النحيلة في ملابس أشبه بالخرق.. أحسَّ بحلقه يجف، ثم خفق قلبه بشدة، لكنه تمالك نفسه.. نظر إليهم.. كانت جميع النظرات مصوبة بفضول مثير إلى كيس الهدايا المنفوخ.. ابتسم، أشار إليهم مشجعاً، وبحركة واحدة انقضوا جميعاً على الكيس، فتحوه، قلبوه، تناثرت من داخله مجموعة دمى شقراء وسوداء بثياب زاهية ملونة، دببة، قطط سمينة أنيقة، كلاب مدللة... وتوقع بابا نويل أن يتخاطفوا الدمى فرحين بها، لكنه فوجئ بهم يتراجعون بصمت.. تطلع في وجوههم مستفسراً، فرأى في عيونهم سحابة خيبة موجعة.. انقبض قلبه، ارتبك، ثم انطرحت على شفتيه اليابستين ابتسامة بلهاء لا معنى لها.. لكن أحداً منهم لم يتحرك.. ومرت فترة صمت خانقة ارتفع بعدها صوت حاد .. صرخ صوت ثان.. ثم نَبَضَ في عمق السكون صوت رفيع مرتجف مغسول بالدمع.. وتتالت الأصوات تطالبه بالطعام والكساء.. أحسَّ قلبه يندفع إلى حلقه من شدة التأثر.. انطفأ، انطفأت الكلمات في فمه.. بكى وهو يحتضن رأسه بين كفيه دون أن يجرؤ على النظر إليهم.. وتحركت الأقدام الصغيرة كل واحد إلى خيمته، بصمت حزين.. تاركين بابا نويل وكومة الدمى التي أحضرها على الأرض، وكأنها كومة جثث منتنة.. رفع رأسه.. كانوا قد اختفوا.. وحين بدأ يعيد دُماه إلى الكيس، شعر بالخجل والأسى يترسبان في قاع قلبه باردَين لزجَين كالوحل الذي راحت تغوص قدماه فيه.. فما رأيكم؟؟؟؟؟؟؟[/align] |
رد: بابا نويل....
أخي محمد الصالح،
دعني أتجاوز مألوفَ ردي على ملاحظاتك بعدم الاقتصار على توجيه الشكر لك، لأنَّني لم أقرأ فيما كتبتَه عن قصتي هذه مدحاً بل عناية خاصة بالنصِّ، ولَّدَتْ تحليلاً لمضمونه وأسلوبه من نوع فريد، وفرادتُه تبنع من كونه تحليلاً موضوعياً على الرغم من أنَّك أَطَّرتَه بالمحبة وبـ (رَشَّةِ) مدح.. وإذا كنتُ لا أستطيع إنكار سروري بما كتبتَه عني، فإنِّي لا أستطيع، في ذات الوقت، ألَّا أتمنى، حقيقةً لا ادعاءً، بلوغَ ما وصفتَني به.. وأمَّا بالنسبة لصياغتكَ الخاصة للقصة، فلم تُثِر إعجابي فقط، وإنَّما فاجأتني أيضاً.. وبالمناسبة، وما دمتَ حلَّلتَ هذه القصة بهذا الأسلوب، فدعني أتمنى عليك، كناقد، وليس كأخ فقط، أن تقرأ لي قصة أخرى عنوانُها (العاشقان)، نشرتُها ولكن لم ينتبه لها إلا الأخ علاء، ثم غابت بسرعة.. هل يبدو هذا الطلب غير مألوف؟! ربَّما... لكن لي ما أسَوِّغُه به، وسأنشر هذا المسوِّغ بعد قراءة رأيك..!! تحيتي لك ومحبتي.. |
رد: بابا نويل....
المُيدعان
د. محمد توفيق الصواف أ. محمد الصالح الجزائري كم طاب المقام هُنا.. القصة جددت نفسها رغم مرور ثلاثة عقود على نشرها نتعلم فن القصة .. ورشاقة الكلمة بانتظاركما على الدوام تحيتي |
رد: بابا نويل....
[align=justify]سأقرأ كلّ ما تكتب أخي الغالي الأستاذ الصواف..فعلا لم تمر أمامي على الشريط (العاشقان) وإلا كيف لي ألا أقرأها! شكرا لك على الإشارة اللطيفة..دمتَ أخا ومعلّما..[/align]
|
رد: بابا نويل....
ما شدني لقصص محمد توفيق الصواف حسها الانساني الذي يتفجر بنصوصه القصصية وهذه القصة نموذج لهذا التفجير الانساني.. بصدق اقول اني اكاد اصاب بالياس من واقع القصة القصيرة في ادبنا الفلسطيني داخل مناطق 48.. واعترف اني لم اقع على قصص قصيرة عربية.. ربما بسبب القطيعة الثقافية.. ومن هنا مفاجأتي بهذه النصوص..
منذ زمن طويل لم اقرأ بمتعة قصصا قصيرة كقصص محمد الصواف.. بلغته المتدفقة بيسر .. وصوره الدرامية المؤثرة والأهم افكاره القصصية الحديثة.. وغير المكررة!! |
رد: بابا نويل....
[align=justify]أخي الحبيب نبيل..
لعلنا نتبادل الأدوار، فتأخذ دور الناقد وآخذ أنا دور القاص؟! ربَّما، ولكنَّه تبادلٌ محمود لخلوه من تبادل المدح والذم، واقتصاره على التعليق الانطباعي الطابع، والصادق في تعبيره عن مدى تأثُّر صاحبه بما قرأ.. أشكرك على هذا السيل من الاهتمام بقصصي، ودمتَ أخاً وقارئاً متميِّزاً.. لك محبتي وتقديري..[/align] |
الساعة الآن 01 : 01 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية