منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   نقد أدبي (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=60)
-   -   الرواية المضادة / 2-2 (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=3063)

الدكتور سمر روحي الفيصل 22 / 03 / 2008 13 : 08 PM

الرواية المضادة / 2-2
 
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:100%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/14.gif');background-color:firebrick;border:8px ridge chocolate;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
[align=justify]
وقد اتصف الامتداد في السرد، بصفة ساهمت في تألقه، هي القدرة على القص. وهذه السمة لغوية وفنية في آن معا، من ذلك قول الدجاجة الساردة: «لم أثبت طويلا في البحث حتى اهتديت إلى ذلك الوجه الغريب، ولشد ما دهشت حين رأيت مخلوقاً مثلنا، نحيل الجسم، منهوك القوى، زائغ البصر، ترتعد فرائصه ارتعادا شديدا. انحنيت عليه برفق، وقلت: من هذا؟ فقال بصوت متقطع: طارئ غريب بائس. فحملقت في وجهه وإذا هو أنثى مثلنا، فأخذت بيدها، وسرت بها إلى الساحة، وما أبصرنا الأتراب حتى هرعن إلينا، وقلن: ما الخبر؟ فقلت: طارئ مسكين التجأ إلى مأوانا، فلنبادر إلى إسعافه. فذهبت ترب تحضر الماء، وأخرى تحضر الحب، وجلست أنا بجانبها، أطيب نفسها، واشد عزيمتها، وبعد وقت قصير استعادت قواها واستطاعت أن تنبئنا عن حقيقة حالها» (1).
إن هذا الاقتباس نموذج للغة الروائية الماتعة التي تشد المتلقي، وتجعله يتابع القراءة، ويلاحق الامتداد في السرد، والعجب العجاب أن يكتب اسحق موسى الحسيني، وهو الأديب الذواقة، نص (مذكرات دجاجة) في أربعينات القرن العشرين، بلغة روائية سهلة واضحة، تمتاز بالمتانة والدقة اللغوية والقدرة على الإمتاع والتأثير. بل إنه كتبها بلغة سمحت لها البقاء مقروءة طوال ستين سنة، لا يعتورها في صفحاتها الخمس والتسعين وهن و لا ركاكة، ولا تنقصها الحوافز الحكائية الداخلية، حوافز القص التصويرية التي ترسم صور قلمية للحكايات فتجعلها رائقة، وتذلل الأفكار الفلسفية عن الحب والإصلاح والتسامح، فتجعلها واضحة غير بعيدة عن المنطق الروائي، حتى أن طه حسين الذي كتب مقدمة الرواية لاحظ أن الدجاجة الساردة (دجاجة مفلسفة تدرس شؤون الاجتماع في كثير من التعمق وتدبر الرأي، فتصل إلى استكشاف بعض الأدواء الاجتماعية وتصف لها الدواء. ماذا أقول! بل هي دجاجة شاعرة تجد ألم الحب ولذته وعواطفه المختلفة التي تدق أحياناً حتى لا يهتدي إليها إلا الشعراء الملهمون، ولا يقدر على تصويرها إلا الذين أوتوا حظا من سحر البيان) (2). ولا اقترب كثيرا من المبالغة إذا قلت إن لغة رواية (مذكرات دجاجة) يمكن أن تكون نموذجاً للغة الروائية في الرواية الفلسطينية، انطلاقاً من أنها ذللت الأفكار الفلسفية الكبرى ذات الطابع الاجتماعي، لطبيعتها الخاصة، تلك الطبيعة التي لم تكن سائدة في الزمن الذي طبعت فيه الرواية.
أما اللغة الروائية في (أحاديث الولد مسعود) فذات طبيعة أخرى مغايرة، ولكنها طبيعة قادرة على الامتداد في السرد أيضا. من ذلك ما قاله مسعود السارد الممثل في بداية الرواية: (أنتم لا تعرفون أن الولد مسعود يحب مسعدة التي هي من عارة القريبة من عرعرة، وانه ما زال يسأل عنها القاصي والداني. دون أن يعرف ما صارت إليه. وكم حزنت مرة عندما أخبروني أنها تزوجت من مسعود (3) الذي هرب من المدرسة في عرعرة. ولكن آخرين كذبوا النبأ وما أتوا بنبأ آخر، ففرحت وحزنت، والولد مسعود كثيرا ما يفرح ويحزن في لحظة واحدة، وهذه ميزة من ميزات الولد مسعود الذي هو من عرعرة القريبة من عارة، والذي يحب مسعدة ولا يعرف أين هي وما صارت إليه. وكثيرا ما كانت تأتي لتسلم على أمي وأنا احمر خجلاً ولا أحدثها.. وما حدثتها أبدا إلا بالعيون، ولكنني أحببتها و ما زلت.. وكلما اشتد القصف أقول: أين أنت يا مسعدة لتري الولد مسعود الذي لا يخاف؟.. ومسعدة لا تأتي ولا ترى الولد مسعود)(4).
غير خاف على أي مدقق في الاقتباس السابق تلك القدرة التعبيرية على مزج الماضي بالحاضر، وعلى الإفصاح عن طبيعة العلاقة بين مسعود ومسعدة، وعلى تحول مسعدة إلى ترميز للوطن، فضلاً عن تلك السمة الخطابية التي أضفت نوعاً من الحس الفكاهي على السرد، وجعلته أكثر قدرة على الامتداد وجذب المتلقي اليه. هذه الطبيعة هي السائدة في رواية (أحاديث الولد مسعود) قد تزيد نسب الحس الفكاهي فيها أحيانا، ويكثر التكرار، ويتوالى استدعاء الماضي ليبني ذاكرة لحاضر ويؤثر في سلوك شخصياته. ويبدو ذلك كله حوافز إلى امتداد السرد، لا يمل المتلقي من متابعتها والتدقيق في العنوانات الفرعية التي حرص طلعت سقيرق على تزويد الرواية بها بدلا من الفصول، سعيا وراء نثر الحوافز الحكائية، وترسيخاً لشخصية مسعود في أثناء السرد.
2- التقنيات المختلفة:
من البديهي ألا تتطابق روايتا الحسيني وسقيرق في التقنيات كلها، وان تنفرد كل منهما بتقنيات لا وجود لها في الرواية الأخرى، من نحو حضور الزمان والتكرار وتوكيد المفردات والتراكيب في (أحاديث الولد مسعود) وغياب المكان المحدد في (مذكرات دجاجة). ولعل الاطلاع على هذه التقنيات المختلفة يخدم التمييز بين الروايتين المذكورتين وإن اشتركتا في دائرة الرواية المضادة.
أ) غياب المكان المحدد:
بدأت رواية (مذكرات دجاجة) وانتهت دون أن تحدد مكانا تعيش فيه الشخصيات ويتأثر سلوكها به. وقد اكتفت الرواية بطرح مكان عام، سمته الدجاجة في الصفحة الأولى (بيتي الجديد)، وشرعت تطرح مذكراتها فيه بعد وصولها إليه بثلاثة أيام قائلة عن بيتها القديم: «كنت في بيتي القديم أجد ميدان الحياة واسعا، والهواء طلقاً» (5) مكتفية بهذه الإشارة العامة دون أن تلجأ إلى تحديد البيت القديم. ثم تابعت سرد مذكراتها دون أن تحدد بيتها الجديد أيضا.
وحين رغبت أول مرة في الإشارة إلى شيء يتعلق بالمكان في بيتها الجديد (6) اكتفت بالحجارة المبعثرة في الساحة وبجذع الشجرة، وكان ذلك توكيدا للتعميم لأن الحجارة لا تحدد مكانا، شأنها في ذلك شأن (جذع الشجرة) أو لفظة (المأوى).
بيد أن تعميم المكان رافقه التركيز على الأمان والاطمئنان ورغد العيش. فالزوج في هذا المكان صالح، والحب وافر، والعلاقات بين الدجاجات تسودها المحبة ويحكمها الوئام، وكأن هذا المكان المحدد العام يرادف السعادة، فإذا دخله عنصر غريب وجب عليه التحلي بقيمه والانصياع لعاداته وعلاقاته ليصبح سعيداً مثل أفراده. وقد جسدت هذا الأمر الدجاجة الغريبة التي وفدت إلى المكان (7) متعبة جائعة خائرة القوى.
إذ وصفت المكان الذي قدمت منه، فبدت علاقاته سيئة، وعيشه نكد، وطعامه قليل، وشجار أفراده كثير. قالت عنه: «لا تكاد إحدانا تقع على حبة سمينة أو هنة رطبة حتى تهجم عليها سائر الأسرة. فإن كانت قوية نشيطة شرسة فازت بنصيبها بعد عراك وفزع، وإن كانت ضعيفة مسترخية انتزع نصيبها من فمها وطار إلى فم آخر» (8) وعندما سألتها إحدى الدجاجات: «أليس عندكن زوج يعينكن على الرزق؟» (9) أجابتها: «عندنا زوج ولكنه زير نساء، نهم أكول، زوجاته كثيرات، وعياله عديدون كثيرون، وليس في وسعه أن يدفع عنا ضيماً أو ييسر لنا رزقا» (10) واتضح من الحوار أنه اجتمع في مكان الدجاجة الغريبة السجن والفقر والفساد والبغي فبدا نقيضا لمكان الدجاجة الساردة.
لقد أكدت رواية (مذكرات دجاجة) الارتباط بين عزلة المكان والأمان فيه، حين سمحت للدجاجة الساردة باختراق مكانها العام للذهاب إلى مأوى الدجاجة الغريبة، ذلك أنها تعرضت للخطر في أثناء الطريق، وكادت تموت حين حاول أحد العمالقة الطغاة (تقصد إنسانا ما) القبض عليها. وهذا ما دفعها ثانية إلى مأواها الآمن، ذلك المأوى الذي فقد أمانه عندما اخترقته دجاجات ربيت على العنف ولم تألف غيره طوال حياتها.
يستنتج المرء من إيراد مكان عام يتسم بالأمان، ثم إيراد مكان عام ثان يتسم بالانفتاح وعدم الأمان، رغبة اسحق موسى الحسيني في عدم تعميم المجتمع الفاضل الذي نادت الدجاجة الساردة به، مجتمع السلام والمحبة والعطف والسلوك العقلاني. فهذا المجتمع نواة للمجتمعات الأخرى التي تعاني من الفقر والفساد والبغي، ولم تكن هناك فرصة روائية للاطلاع على جانب من طبيعة هذه المجتمعات لولا اختراق المكان. ثم إن (تعميم) المكان يحتمل تفسيراً آخر، هو رغبة اسحق موسى الحسيني في الإيحاء برؤياه الإنسانية، وهي رؤيا غير مقصورة على المجتمع العربي أو غيره من المجتمعات بل هي عامة شاملة الإنسانية كلها، ولهذا السبب لم تتخل الدجاجة الساردة طوال الرواية عن التبشير بالقيم الإنسانية، ولم تيأس من نجاحها وشمولها.
ب) حضور الزمان:
حرص سقيرق في أحاديث الولد مسعود على أن يكون الزمن حاضراً، بل مسيطراً على مناخ الرواية. ولكن الزمن الذي اعتمده سقيرق ليس الزمن الروائي الذي يحاكي الزمن الخارجي، ويقاس بالسنوات والشهور والأيام والساعات، بل هو الزمن النفسي الموضوعي المطلق، والمعروف أن هذا الزمن لا يدرك من خلال تتابع الحوادث، ولا يمكن إدراكه إدراكاً مباشراً، لأنه ليس خصيصة من خصائص العالم الخارجي، بل هو (مقولة من مقولات الذهن) (11) انتقل مفهومه من العالم الخارجي إلى الحياة الداخلية للإنسان وشرع يدور حول المشاعر والذاكرة. والمعروف أيضا أن هنري برغسون (H.Bergson) هو الذي بين المفهوم العلمي للزمن، والمفهوم النفسي الذاتي الذي سماه (الديمومة الحقيقية) أو (الزمن المعيش). والديمومة في رأيه (ليست لحظة تحل محل أخرى وإلا لما كان هناك سوى الحاضر، ولما كان هناك امتداد للماضي في الحاضر ولا تطور ولا ديمومة محددة بدقة. إن الديمومة هي التقدم المستمر للماضي الذي ينخر في المستقبل ويتضخم كلما تقدم. ولما كان الماضي ينمو دون انقطاع وعلى نحو غير محدد فإنه يحتفظ ببقاءه. وهكذا تكبر شخصيتنا وتنضج دون انقطاع، وكل لحظة من لحظاتها عنصر جديد ينضم إلى ما كان موجودا منها من قبل) (12).
وإذا كان زمننا المعيش ديمومة حقيقية فإننا نحتاج إلى الذاكرة لترتيب خبراتنا في الزمن الماضي واستدعائها إلى الحاضر لتفعل فعلها في شخصيتنا، فالذاكرة (هي جوهر وجودنا. إنها امتداد للماضي في الحاضر وصيرورتها معا شيئاً واحدا) (13) (من أجل المستقبل) (14) وتهمني هنا الإشارة إلى أن علماء النفس قرروا أنه لا يمكن فصل الذاكرة عن الإحساس المباشر، وإن كانا شيئين متعارضين. فالإحساس المباشر (يعطينا واقع المادة والناحية الموضوعية فيها، بينما الناحية الذاتية وكل ما يضيفه إليها وعينا هو من صنع الذاكرة التي علينا أن نتعمق جوهرها إن كنا نريد حقاً أن ندرك ماهية الروح) (15)، لأن حياة الإنسان الماضية لا تفنى على حد تعبير هنري برغسون (16).
هذا هو، إن أردنا الدقة، حضور الزمان النفسي في (أحاديث الولد مسعود) فالمتلقي لهذه الرواية لا يدرك الزمن النفسي من خلال تتابع الحوادث الروائية، لأنه ليست هناك حوادث روائية تنبع من تفاعل مسعود مع الواقع الخارجي، بل يدرك هذا الزمن النفسي من خلال مشاعر مسعود وذاكرته. ذلك أن مسعوداً يواجه الواقع الخارجي المحيط به، واقع الفصيح ورئيس التحرير وأم العبد وغيرهم، بزمنه المعيش الخاص به وحده، زمن ديمومته الحقيقية الذي استند فيه إلى ذاكرته، واستعاد من خلال هذه الذاكرة خبراته الحياتية السابقة، عندما كان صغيراً في قرية (عرعرة) قبل اللجوء إلى بيروت، ففي هذا الزمن الجميل كانت أمه تقص عليه حكاية ولادته، وسعادتها به، وهو يتذكر حبه (مسعدة)، وخجله من التصريح لها بحبه، وغيابها من القرية بعد ذلك دون أن يؤثر ذلك في حبه لها. ولأن زمن مسعود المعيش ديمومة حقيقية، فقد كانت ذاكرته تمده بالخبرات الحياتية التي توالت عليه بعد اللجوء إلى بيروت، حيث ذبحت أمه في مخيم شاتيلا ولو لم يكن غائباً عن المخيم آنذاك لذبح معها، وهذه الخبرات التي توالت عليه دليل على أن ديمومته الحقيقية هي تقدم ماضيه إلى حاضره، وتضخمه كلما تقدم هذا الماضي باتجاه المستقبل. فهو في زمنه المعيش يعيش الماضي والحاضر معا، ولم يكن سكنه في منزل أم العبد سوى خبرة جديدة أضيفت إلى خبراته الماضية وامتزجت بها، لأنها امتداد الماضي وليست انقطاعا عنه، ولعل ذلك وحده يسوغ التكرار الذي سأتحدث عن تقنيته لاحقا، ويسوغ معه صورة الرجل (الأهبل) التي عاش فيها مسعود واستمر عليها طوال الرواية، فهو شخصية روائية تتفاعل مع حاضرها بوحي من ماضيها، وتنظر إلى مستقبلها بما يتسق وديمومتها الحقيقية، أو تقدم ماضيها باتجاه مستقبلها، مستقبل التطوع في العمل الفدائي، وهو مستقبل يبرهن على حضور الزمان النفسي واستمراره، بل إلحاحه على المشاعر وسيطرته عليها. ومن ثم لا تختلف أمه عن مسعدة، ولا مسعدة عن فاطمة وعبد الرحيم، فهم جميعا فلسطين التي تتمركز في بؤرة مشاعره.
إن الزمن النفسي يميز رواية (أحاديث الولد مسعود) من رواية (مذكرات دجاجة) ولعله يميزها من غيرها، لأن التدقيق في توظيفها الزمن النفسي، والاكتفاء به وحده في الرواية أمران لا تستطيعهما غير رواية ذات تماسك داخلي في دائرة الرواية المضادة عل أقل تقدير.
ج- التكرار والتوكيد:
سيطرت على أسلوب رواية (أحاديث الولد مسعود) تقنية التكرار وتوكيد المفردات والجمل. فمسعود ما يفتأ طوال الرواية يكرر الاشارة إلى قريته (عرعرة) وأمه ومسعدة مستخدما جملة لا تكاد مفرداتها تتباين في التكرارات كلها، كما هي الحال في النموذجات الآتية:
- (أنتم لا تعرفون أن الولد مسعود يحب مسعدة التي هي من عارة القريبة من عرعرة، وانه ما زال يسأل عنها القاصي والداني دون أن يعرف ما صارت إليه).
- (هذه ميزة من ميزات الولد مسعود الذي هو من عرعرة القريبة من عارة والذي يحب مسعدة ولا يعرف أين هي وما صارت إليه).
- (أنا الولد مسعود الذي من عرعرة القريبة من عارة شاهدت ما شاهدت من أهوال).
- (الولد مسعود الذي من عرعرة القريبة من عارة والذي يحب مسعدة ويسعد بالحديث عنها صار صحفياً).
يبدو تكرار العبارة السابقة أول الأمر دليلا على أن تفكير مسعود (الأهبل) قد توقف عند خبراته القديمة ذات التأثير الحسي فيه وخصوصا قريته التي ولد فيها ونشأ على ترابها، وأمه التي ولدته ورعته بعد وفاة أبيها، ومسعدة التي أحبها دون أن يجسر على البوح بحبه لها.
ولكن سياق الرواية سرعان ما يكشف عن أن قضية التكرار ليست تعبيرا عن توقف مشاعر مسعود عند مرحلة من حياته الماضية، بل هي دليل على الزمن النفسي، زمن الديمومة الذي يعيش فيه، وهو زمن مستمر بالنسبة إليه من ماضيه إلى حاضره، وسيمتد إلى مستقبله حيث سيتطوع في أخريات الرواية في العمل الفدائي.
ومن ثم كان تكرار الجمل توكيدا لها في أذهان المحيطين بمسعود، وليس ترسيخا لها في ذهن مسعود نفسه، لأنه يعيش فيها ولا ينفصل عنها. بل إن لجوء طلعت سقيرق إلى تعطيل عقل مسعود، وجعله يظهر في هيئة الأهبل، مقصودان لتوفير الديمومة، وللسماح لمسعود بالحياة الذهنية، وإبعاده عن التفاعل مع أي شيء في واقعه ما عدا الأشياء المرتبطة بثالوث القرية والأم والحبيبة، ذلك الثالوث المعبر تعبيرا مباشرا، وليس رمزيا، عن فلسطين السليبة، فأبو العبد وأبو الوفا وفاطمة عبد الرحيم وأم العبد ونايف العوض ما كان مسعود يأتي على ذكرهم والتفاعل معهم لولا ارتباطهم بالثالوث الفلسطيني، وبحلم العودة إلى فلسطين، كل ما يقال عنه لا يهمه، وكل شيء في حياته ما عدا العودة إلى فلسطين عرضي. وهو يذكر، حول ذلك، في بدايات الرواية، جملة تفيد محلل الرواية كثيرا، هي (قولوا ما شئتم عن ولد اسمه مسعود، يحلم في بعض الأحيان، ويبكي في بعض الأحيان، ويحزن في أحيان أخرى. ولكن قولوا أيضا: إن الولد مسعود يعرف أنه سيعود. قولوها دائما ودائما) (17) فالعودة في بؤرة حياته، ونسيج مشاعره، وتلافيف دماغه. إنها الزمن الذي يعيش فيه ويكرر الجمل من أجل توكيد مضمونه.
ولكن سياق رواية (أحاديث الولد مسعود) يضم تكراراً آخر، هو تكرار الأمثال الشعبية، حتى إن مسعودا يبدو مجمعاً للأمثال المتداولة على ألسنة الفلسطينيين، سواء أكانت تراثية فصيحة أم عربية عامية أم فلسطينية عامية صرفا، كما هي الحال في النموذجات الآتية:
- (جربت حظي بالجاج طلع بيضه خداج).
- (زرعنا اللوز طلع بقدونس).
-(اجتمع المتعوس على خايب الرجا).
- (اللي يوكل ع ضرسه بينفع نفسه).
- (المقروص بخاف من جرة الحبل).
- (درهم عقل ولا خزاين مال).
-( من أول غزواتي انكسرت عصاتي).
ولا تكمن القضية في تصنيف الأمثال بين شعبية محلية وشعبية عربية وتراثية فصيحة بل تكمن في ذلك التكرار الغزير للأمثال طوال الرواية، حتى أنه من القليل في (أحاديث الولد مسعود) تكرار مثل واحد مرتين، هل سعى مسعود إلى توكيد الثقافة الفلسطينية المختزلة في الأمثال بواسطة تكرار الأمثال؟ يخيل إلي أن طلعت سقيرق قصد إلى ذلك قصداً. فزمن مسعود النفسي هو الزمن الفلسطيني، أو قل إن ديمومته هي فلسطين، ولا تعيش فلسطين في حياة الفلسطينيين بمجرد تكرار الثالوث المذكر بالعودة وحسب، بل تعيش وتستمر وتحيا وتبقى قوية حين تملك ذاكرتها المعبرة عن فلسفتها وتجربتها ولسان حالها.
وقد أدرك طلعت سقيرق هذا الأمر، فجعل مسعودا مجمع أمثال فلسطينية، يكرر المثل لتوكيد مضمون التجربة الحياتية المضمرة فيه. ولعلنا نلاحظ هنا أن طلعت سقيرق لجأ أول الأمر إلى تكرار الجمل، وحين شعر بأن مضمونها أصبح راسخاً في ذهن المتلقي انتقل إلى تكرار الأمثال الشعبية وراح يحفز مسعوداً إلى استعمالها، وكأن التكرارات تنهض بالفعل الفلسطيني في الرواية بدلا من الحوادث الخارجية.
أخلص مما سبق إلى أن دائرة الرواية المضادة ليست مجرد رواية مغايرة للرواية التقليدية في تقنياتها، بل هي فضلا عن ذلك رواية تتسع للأفكار الوطنية والإنسانية، وتندب نفسها لتقديم رؤيا صاحبها، وتمتاز بقدرتها الخاصة على التأثير والإمتاع، وتمنح الرواية الفلسطينية أسلوب تعبير جديدا مخالفاً للأسلوب التقليدي وليس منفصلا عنه. إنها دائرة من دوائر الرواية الفلسطينية ابتدعت أسلوبها وتقنياتها ومقولاتها الفكرية التي تعضد الرواية العربية وتفسح لنفسها مكانا لائقا فيها.
[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
*
الإحالات:
(1) مذكرات دجاجة، ص44 – 45.
(2) د. طه حسين: مقدمة مذكرات دجاجة، ص7.
(3) يقصد زميلاًَ له في المدرسة يحمل الاسم نفسه.
(4) أخبار الولد مسعود، ص3.
(5) مذكرات دجاجة ص11.
(6) المصدر السابق، ص19.
(7) المصدر السابق، ص44 وما بعد.
(8) المصدر السابق، ص45.
(9) المصدر السابق نفسه.
(10) المصدر السابق نفسه
(11) مجموعة من المؤلفين: فكرة الزمان عبر التاريخ، ترجمة: فؤاد كامل عبد العزيز، عالم المعرفة 159، الكويت،1992 ، ص46
(12) هنري برغسون: التطور الخلاق، ترجمة: محمود محمد قاسم، وزارة الثقافة، القاهرة، 1960، ص13 – 15.
(13) سمير الحاج شاهين: لحظة الأبدية، دراسة الزمان في أدب القرن العشرين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص77.
(14) هنري برغسون: الطاقة الروحية ترجمة: د. سامي الدروبي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1946، ص85.
(15) المرجع السابق ص85 – 86.
(16) المرجع السابق ص81.
(17) أحاديث الولد مسعود ص11.

[/align]


الساعة الآن 42 : 07 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية