![]() |
حين يجوز الوجهان
[align=justify] حين يجوز الوجهـــــــــــــان
في أقصى الحي الممتد على مسافة عشرات الأمتار ، تنتصب عمارة من أربع طوابق وتلفت الأنظار بلونها الأزرق الفاقع و شرفاتها البنية الداكنة ، ولافتتها العريضة في أعلى البوابة "إقامة الخلود". هي من أقدم البنايات التي ظهرت منذ أن استحدث الشارع الجديد على أنقاض الحقول ومصنع الأحذية . ولسكان الحي ذكريات مع ساكني هذه العمارة ، وبالتحديد عائلة الفقيه علال . لكن هذا الأخير وإن كان يشار إليه و إلى أسلافه بالبنان لما عرفوا به من ورع وتقوى أبا عن جد ، فإن محمدا، نجله الأكبر مثار جدل في أوساط الحي و الأسرة . ميولاته وتصرفاته المنافية لما ألفه الجميع باتت تثير الاستغراب بقدر ما تثيره من استنكار . صار شخصا آخر منذ وطئت قدماه ردهة الكلية . اجتمعت فيه الفتوة والحماسة وسلاطة اللسان ، فلم يدع أحدا إلا ذمه وعيره بالتخلف والتزمت . واختلفت مشاعر الناس نحوه بين معجب وحاسد ومستنكر، نظرا لمكانة والده في نفوس السكان . وكثيرا ما تبودلت النظرات في وجوم وتمتمت الشفاه في حنق ، لكن في همس : - يا للعار.. لله في خلقه شؤون.. من يصدق أن هذا الابن الكافر من صلب ذلك التقي النقي ؟ لا أحد يجرؤ على مجابهة أبيه بما يجري ، فبالأحرى مواجهته هو بالأمر ولو تلميحا. لكني شذذت عن هذا ووجدت في مكاشفته شيئا طبيعيا مثلما أجد في انتقاده لي أمرا عاديا. ولا يخلو حديثي معه من حدة وعصبية ويكاد يخرج في بعض الأحيان عن طور اللباقة . لكن تصرفه اليوم ينحو منحى لم يسبق له مثيل ، واختار السكوت والهدوء بدل الاندفاع والتشنج . ربما كان لسفره المرتقب يد في ذلك ، لأن فكرة السفر نفسه كانت مثار انتقاد ، واعتبره الكثيرون انسلاخا من الأسرة وعقوقا لها ، بل وتنكرا لأهل الحي الذين بدأوا يعلقون آمالا عريضة و يمنون أنفسهم بعريس شاب ذي مستقبل يبشر بالخير ومن أسرة محافظة . لكن محمدا أبى- كما يقول – إلا أن يوقظهم من غفوتهم وأحلامهم - وينزل يوما إلى الحي متأبطا ذراع زميلة له في الجامعة. - انظروا إليها.. هل هذه أنثى ؟ كيف نعرف؟.. مقصصة الشعر كالصبيان.. وترتدي بنطلونا كالشبان.. وصدرها الأعجف.. يا للهول. ثم.. هاهو يميل عليها دون حياء ولا حشمة .. يا للمنكر.. من يغيره ؟ هل رأيتم مثل هذا من قبل ؟.. لو كنت والده لتبرأت منه .. اسمها فاطمة ؟ كيف تجرأت على الاحتفاظ بهذا الاسم ؟ محمد لا يعير اهتماما لما يقال عنه.. يفكر فقط في السفر.. قال لي منذ يومين : - سأرحل ، وأكون نفسي دون الاعتماد على غيري.. سأغادر هذا الحي و أهله.. بل هذه المدينة وسكانها ..ضقت ذرعا بهذه الحالة المزرية .. قطيع بهائم بلا راع .. هذا كل ما في الأمر . سوف أرحل لأجد لي متنفسا بعيدا عن هذا الجو الموبوء بالخرافات و الأساطير . ربما كان تغيير الأمر مستحيلا الآن ، لكن الأمل موجود في العودة وتحرير العقول منها.. خسارة أن يعيش شاب مثلك وسط هذه البهائم . التفت إليه ونحن نشرف على الحي من سطح العمارة . تملأ الجو رائحة اللحم و الدجاج . آخذ نفسا عميقا منتشيا بها ، متعمدا إغاظته لعلمي باشمئزازه من ليلة " الطلبة" التي ألحت أمه الباكية على إحيائها التماسا للبركة و الهداية ، واتقاء للعين التي قد تكون أصابت محمدا . أما هو فأعلن صراحة عن نفوره وامتعاضه ، وتعمد أن يبدو ثملا هذه الليلة، بل وبدا أثناء الغذاء الذي جر إليه جرا وكأنه يتحدي صفوة من الشيوخ المدعوين ، وصار يمسح أصابعه بلباب الخبز. انتبه إلي أنظر إليه فقال : - ها هي فرصة لملء بطون الطفيليين من أمثالك.. أظنك تتحرق شوقا لازدراد اللحم مثل "الكانيبال" . - طبعا- قلت مبتسما- من يعرض عن وليمة مثل هذه ؟ ثم... ما يضرك أنت منها ؟ اعتبرها يا أخي ليلة تواصل يذكر فيها اسم الله . - ومن قال لك إني أحبذ هذا ؟ - طيب... اعتبرها صدقة لهؤلاء "الطلبة" المساكين . - مساكين ؟.. بل قل رهط المتسولين الجياع .. - لا تنس أن هذه إرادة أمك . والبر بها واجب.. فالجنة... - هي أمي على عيني و رأسي ، وفي ما عدا ذلك... - المهم أن هؤلاء أهلك رغما عنك . ومسايرتهم واجب كذلك . - مسايرتهم ؟- تساءل في عصبية واضحة – لو تمكنت من شق رؤوسهم وتلميع أمخاخهم لما ترددت ..خرافات و أساطير في هذا القرن ؟ كان الأحرى بك أن تكون أول من يرفع لواء التغيير.. أم أن مقولة " النهي عن المنكر" لم تعد توجد في قاموسك ؟ لم أجب ، وبقيت ساكتا أبتسم . نظر إلي متوجسا فقلت : - أظنك كنت تأمل حفلا موسيقيا يصلصل فيه صوت أم كلثوم وعبد الوهاب . - أم كلثوم هذه مخدر للعقول.. أتدري أن صوتها استعمل لإحباط نفسية المعتقلين وبث اليأس فيهم ؟ - أكل ما لا تهوى نفسك مخدر وأفيون ؟.. أم تراك غائبا عن الوعي دون أن تدري ؟ لا تقل لي إنك تلهث وراء توحيد عمال العالم ؟ - ولم لا ؟ .. ما الضرر في ذالك ؟ استدرت نحوه وتطلعت إليه بقوة قائلا : - اسمع.. أصحاب الفكرة أنفسهم قد انتهوا وانهارت أحلامهم كما انهارت إمبراطوريتهم . لم يطق تحديقي في وجهه فقال وهو يرفع بصره إلى السماء : - لكن الفكرة باقية.. لا الأشخاص . - أظن أن العكس صحيح.. انظر إلى أصحابك يمسكون زمام الأمور، بينما أفكارهم ... محمد يحتد ويثور. وحين يحتد ، يحتقن وجهه وتضيق عيناه . و أتساءل دوما كيف لم يقطع علاقته معي كما فعل مع أهل الحي رغم معاملتهم الودودة ورغم اختلاف أفكارنا ومعتقداتنا إلى جانب مشاكستي الدائمة له .. ربما لأننا عشنا الطفولة بحلوها ومرها وذقنا الفقر والحرمان ... عشقنا معا ، و صدمنا مرات في عشقنا ، وكان كل واحد منا مستودعا لأسرار الآخر... لكن بقدر ما كانت تحز في نفسي ثورته وسلاطة لسانه التي تطال كل شيء ودون مراعاة لأي شعور ، كنت أرثي لحاله وآسف لاندفاعه . حتى إني في هذه اللحظة وترنيمة "الطلبة" تتناهى إلينا ، تجنبت ملاسنته رأفة به وتركته يتحدث ويتحدث كأنما ضاق صدره بما لا يقال.. فغدا سيرحل ، وربما لن أراه بعد الآن . كم مر علي من الوقت و أنا في السطح ، أطل على الحي؟.. انصرف محمد وبقيت أتأمل الأفق .. أنوار الجبل المغلفة برذاذ الريح الشرقية.. يخيل إلي أنني هنا منذ أمد بعيد ، وأني الآن أترقب وصول الجار الصديق الغائب منذ سنوات... سنوات تغير فيها كل شيء. الحي .. الناس... كل شيء . لكن جيراننا المنشغلين بعودة الغائب متلهفون لسماع أخباره وما جد من جديد لديه . بل حتى أهالي الحي متعطشون لمعرفة كل شيء وقد سهوا عما كان يشغل البال ويقض المضجع.. الكراء .. الماء.. أسعار المواد الغذائية.. الأمن المفقود في المدينة وطغيان أباطرة المخدرات .. الهجرة السرية.. وأعرضوا كليا عما كان يثير أحاسيسهم الدفينة.. فلسطين .. العراق..لبنان.. أفغانستان.. الشيشان.. كأس العالم.. المهم.. متى جاء سعيد؟ وكيف وصل سعيد ؟ و ما هي أخبار سعيد ؟ ألتفت عن يميني وأنا أطل من السطح على الحي ، فأجده ينظر إلي مبتسما : - حمدا لله على سلامتك يا أخي.. - الله يسلمك وينجيك . - اشتقنا إليك كثيرا وخشينا أن تكون نسيتنا . - معاذ الله .. أنا أيضا اشتقت إليكم .. هيه... كيف حال الحي .. والمدينة ؟ - الحال كما كان.. بل ازداد سوءا . - ياه.. لم أعهدك متشائما هكذا . - لست متشائما ولكنه الواقع . - المهم.. التسلح بالأمل.. والعمل على التغيير . - التغيير ؟...صرنا نسمع كثيرا عن التغيير والانتخابات على الأبواب .. الناس يا أخي في شدة . ولولا تكافلنا لتشرد الكثيرون . - حقا؟ هذا جميل.. لكن يجب تأطير الناس بدل الفوضى . - تعني .. كل حزب بما لديهم فرحون ؟ - بالضبط... لا تضحك.. أعرف عنادك وأفكارك البالية . نظرت إليه برهة ثم قلت متنهدا : - لم تتغير.. أنت هو أنت . في الزمان والمكان . سعيد تغير. وبعد أيام من وصوله أدركت أني كنت مخطئا . سعيد يبتسم لهذا ، ويحيي ذلك ، ويربت على رأس تلك.. حتى أني حين شكوت له الانحطاط الذي أصاب الفن و خاصة الغناء ، وتفريخ المطربين ، أجابني بكل هدوء : - لا ينبغي الاستغراب من هذا.. فلكل زمن فنه ولكل الحق في سماع ما يروقه . - وأم كلثوم – قلت مبتسما- وأغانيها ؟ قهقه ضاحكا و أجاب وهو يشد على ذراعي بقوة : - هل رأى الحب سكارى .. على فكرة.. ما أخبار فتاة أحلامك ؟ لا تحسبني غافلا عما يعج به صدرك... هيه.. هل عزمت أخيرا ؟ - كل بمشيئة الله لكن المفاجأة كانت عندما رأيته صدفة وهو يهم بمغادرة المسجد وشفتاه لا تفتر عن الابتسام للجميع.، ممسكا نعليه بيديه، متمتما، محوقلا... سبحان مغير الأحوال.. أنظر إلى الخلف فأجد شيخا يهز رأسه ، بينما رفيقه يؤكد قوله : - إنك لا تهدي من أحييت... وتزورنا الزهراء رفيقة سعيد ، أو الزهرة كما يناديها جل الأهالي ، بشوشة ودودة .. تأسر القلوب بحماستها وحلاوة منطقها.. أين منها فاطمة العجفاء الحليقة ؟ .. الكل يخطب ودها.. النساء و الفتيات يتنازعن موعد دعوتها وضيافتها . فترضيهن كلهن بلباقتها وتستدعيهن عندها في البيت.. ما أحلى أمسيات السمر عند الزهراء.. وما أعذب حديثها عن النساء والفتيات. لكن حذار.. فهذا يغضب الأزواج والآباء أو بعضهم… سيان . " دعنهم يصيحون.. فصيحاتهم لاتسمن ولا تغني من جوع.. الزمن زمنكن.. ليذهبوا كلهم إلى الجحيم ، وليبحثوا عمن يسلطون عليه فحولتهم .." فتتمايل النسوة ضاحكات ، متلذذات بالحديث . سعيد فخور بالزهراء.. ومسرور لأن لا أحد يأخذ عليه العيش معها دون رباط شرعي . المهم أنه صار ابن الحي البار، ولسوف تجلجل الحناجر من أجله متى آن الأوان . شخص واحد ظل ينظر بريبة إلى ما يجري .. علال أبو سعيد . صار إمام المسجد . لكن إمامته قد لا تدوم. وأصحاب سعيد من وراء ذلك ، بل وسعيد أيضا.. رغم سكوته . ربما لكي لا يثير نقمة أمه الغافلة عن كل شيء والمنتشية بعودة الابن الضال و احتفاء أهل الحي به . لكني أستشف دائما من نظراته أنه يوما ما سيكشر عن أنيابه. علال يظل هادئا.. يتمتم دائما بادعاء لأهله ولجميع الناس ، ويختم ابتهالاته متنهدا: - اللهم ارض عن ولدي محمد سعيد واهده وزوجه فاطمة الزهراء… آمين." [/align] |
رد: حين يجوز الوجهان
[align=justify]..وحين تجوز كلّ القراءات لمتعة مستمرّة مع حرف نديّ ، مشوّق ، وسرد ممتع ماتع..شكرا لك على هذه القصّة الجميلة..[/align]
|
رد: حين يجوز الوجهان
اقتباس:
ما أسعد حظي بتواجدك هنا أخي الغالي .. وما اسعدني بتجاوبك مع حرفي تتعهده بالرعاية والعناية ليستمر في تألقه . دمت بكل المحبة اللائقة بك |
رد: حين يجوز الوجهان
- أم كلثوم هذه مخدر للعقول.. أتدري أن صوتها استعمل لإحباط نفسية المعتقلين وبث اليأس فيهم ؟ أعجبتني... أهي حقيقة؟ سرد ممتع.. والحوار بالنص كان شيقا .. خاصة عن أم كلثوم (ابتسامة) :nic35: |
رد: حين يجوز الوجهان
لا أدري من أين خرج ذاك العنب واليقطين أو البطيخ وتلك المأكولات الأخرى..
تركتها لك/ لكم بالصحة والراحة.. كلوا هنيئا مريئا |
رد: حين يجوز الوجهان
اقتباس:
في الحقيقة ما قيل عن أم كلثوم كان متداولا بين الأوساط اليسارية وقد سمعت هذا من أحدهم حرفيا . دمت بمحبة |
الساعة الآن 45 : 07 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية