![]() |
لعنة الزغاريد
[align=justify]لعنة الزغاريــــــــد
في مثل هذا اليوم ، وفي مثل هذا الوقت بالذات و الشمس آيلة للغروب منذ سنوات ، تلقت الخبر المشؤوم الذي رج القرية رجا .. تلا ذلك قدوم رهط من الأهالي يحملون جثة زوجها بعد إصابته بطلق ناري وهو يصطاد رفقة أخيه من أمه "حشلاف".. سنوات تجرعت فيها مرارة الصمت و الشوق للانتقام .. تشعر كأنها تعيش المأساة من جديد .. بل إنها عاشتها طوال تلك السنين ، يوما بيوم ولحظة بلحظة .. تذكر كيف أخذت عزيزا ، ابنها الوحيد في حضنها ، وكيف نظرت إلى عينيه البريئتين الوجلتين وهي تصر على أسنانها هامسة : - أنت الذي ستأخذ بثأر أبيك .. هذا ليس عمك .. هذا وحش .. وهو عدوي و عدوك .. وعدو أبيك .. فهمت ؟ لم يفهم الصبي ذي الست سنوات .. لكنه أدرك أن ذاك الذي كان يناديه عمي قد انقلب غولا ذا أنياب تهم بنهشه هو وأمه . لم تشك زينب أبدا ولو للحظة في أن "حشلاف " قتل أخاه ، وشاركها في هذا كثير من الأهالي . بل إن كثيرا منهم من أكد سماعه له وهو يتوعد زوجها سرا أن يثأر لقتل كلبه الوفي ، بعد أن صدر أمرا بقتل كافة الكلاب الضالة . كان أخوه شيخ القبيلة وكانت هيبته تشمل كل الربوع . اليوم ، وقد مر على ذلك الحادث زمن طويل ، تغيرت القرية . فنزح من نزح واغتنى من اغتنى ، وقدم أناس ورحل آخرون ، إلا هي . بقيت وبقي حشلاف . بقيت وحيدة مع ابنها تتعهده بالرعاية . وبقي حشلاف ينتظر على أمل أن تغير رأيها فيه .. بل وتقبله زوجا بعد أن كان يعتقد أن الأمر سيتم تلقائيا بعد مقتل أخيه شيخ القبيلة . لكنه عدل عن إرسال من يرجوها قبول ذلك دون أن ييأس .. التقاها مرة عند الغدير وأثارته بفتوتها و صرامتها البادية في عينيها ، وقال لها برقة : - هيه .. يا زينب .. الم يلن قلبك ؟ نظرت إليه شزرا و الشرر يكاد يتطاير من عينيها ، و أجابت : - احمد الله على أنك حي حتى هذا اليوم .. وإلا كنت مزقتك بيدي هاتين . قهقه ضاحكا و قال : - زينب تقتل ؟ .. لا أظن أن هذه الرقة تؤذي أحدا . - صدقت .. لست مثلك .. لكنك حتما ستلاقي نفس مصير الرجل الذي تدعي أنه أخوك . - اعقلي يا امرأة وانظري إلى مصلحتك ومصلحة ابنك .. لم تجبه ، وجمعت الغسيل الذي بين يديها كيفما اتفق ، و انصرفت تاركة إياه يتأملها في حسرة ولهفة . اليوم .. لم يعد أحد يسمع منه إلحاحا على الزواج منها ، ولا وعيدا من جانبها للثأر لزوجها . بدا الأمر كهدنة خفية عقدت بينهما . بل بلغ الأمر بالبعض إلى الاعتقاد أن المياه ربما تكون عادت إلى مجاريها بينهما . كيف ؟ ومتى ؟.. الله أعلم . إنما الشيء الأكيد هو أن بعض التحول حدث حين قدم أحد المجاذيب إلى القرية مباشرة بعد رحيل عزيز بشهرين .. كان شخصا لا يأكل لحما ولا أي شيء يطبخ ، ولا يقبل نقودا .. جاء واتجه نحو بيت الشيخ القتيل و قبع عند عتبة الباب . خرجت زينب و أطعمته لبنا و تينا ثم كسته .. لكنه رفض الثياب ونظر إليها مليا ثم قال : - حاجتك مقضية إن شاء الله .. ردت بلهفة : - من فمك لباب السماء يا سيدي .. ادع فقط أن يموت ذاك المجرم مقتولا كما قتل أخوه . منذ ذلك اليوم ، لم تسمع من زينب شكوى أو وعيد . بل إنها صارت أكثر ألفة مع ساكنة القرية بعد فترة من الانطواء والعزلة واتهامها البعض بالتستر على الجريمة ، بل والتواطؤ مع القاتل . كان عزيز قد كبر وازداد قوة ووسامة مثل أبيه . ورغم نفوره من عمه حشلاف ، فإنه كان يرد على تحيته ويجالسه في القهوة على غفلة من أمه .. ولم تفت الأهالي لحظة وداعه لها وهو يهم بالرحيل من أجل الدراسة .. كان عابسا وهي تضمه باكية .. فقال مقدم القرية : - يبدو أنها لم تفلح في غرس فكرة الانتقام لأبيه في نفسه .. وما بين رحيل عزيز و قدوم المجذوب وما تلا ذلك من أحداث هزت القرية ، صارت زينب أكثر انسجاما وعادت إليها حيويتها شيئا فشيئا .. وهاهي اليوم تستعد لحضور زفاف ابنة حشلاف ، بل ولتكون "نكافة"*.. كل العيون تتابعها و هي ترفل في حلتها التي عوضت لباس الحداد .. توزع الابتسامات وتزغرد .. وحشلاف يكاد يطير فرحا ..ولا يكاد يفوت فرصة للاقتراب منها و الهمس لها . والحفل في أوجه ، تقدم المجذوب نحو الحضور بأسماله المرقعة وهم متحلقين حول المائدة يأكلون ، ورفع عصاه الغليظة عاليا و هو يصرخ : - لعنة الله على القوم الظالمين . انتهره البعض ، لكن آخرين استنكروا ذلك قائلين : - هو من أولياء الله .. دعوا الليلة تمر بسلام .. تعال أيها الشريف .. وشاركنا الطعام . - دم .. دم .. أنا لا آكل دما .. ثم خرج لا يلوي على شيء .. وجم الحضور و ساد الصمت كأن على الرؤوس طيرا .. وخرج حشلاف غاضبا .. ويحكي بعض من حضر الحفل أن زينب ، وفي لحظة خشوع وانسجام مع إيقاع "الحضرة" ، انتصبت واقفة و أطلقت زغرودة طويلة .. ضحكت وبكت وهي تطلق شعرها ودقات الدفوف تتسارع .. ثم نهضت وعقصت شعرها و أطلقت زغرودة أخرى .. - مات حشلاف .. سقط من أعلى الشط .. هكذا صاح المقدم وهو يشق الصفوف باحثا عن بعض الرجال الذين هرولوا حيث الجرف السحيق .. و أسرع الأهالي كلهم ينظرون إلى أسفل .. وأقبلت زينب تنظر من أعلى إلى الجثة الملقاة على الصخور .. ثم التفتت إلى الحشد وقد زادها ضوء البدر هيبة .. وفي اللحظة التي أقبل فيها الرجال يحملون الجثة ، أطلقت زغرودة أخرى ، وعادت إلى الحفل .. - الملعونة .. تزغرد لموت سليفها .. - دعوها .. فهي ليست ملك نفسها .. وما تفعله ليس بخاطرها . - صارت مثل هذا المجذوب المشؤوم .. يجب التخلص منهما و إلا حلت اللعنة على هذه البلدة . - بل ستحل اللعنة إذا امتدت إليهما يد بأذى .. عد إلى أكلك و املأ بطنك أيها البغل . منذ تلك الليلة ، اختفى المجذوب وعادت زينب إلى عزلتها وانطوائها ، لكن بريقا غريبا ظل يومض في عينيها إلى يوم عاد عزيز لتحتضنه بالدموع و الزغاريد . نكافة (نجافة حسب نطق إخواننا المصريين) : سيدة ترافق العروس ليلة زفافها لمساعدتها . [/align] |
رد: لعنة الزغاريد
[align=justify]قصة في منتهى الروعة أخي رشيد.. أمتعتني بحق.. أنت قاص بارع سواء بانتقاء موضوعاتك أم بأسلوب سردك السلس القوي في آن، أم في المفاجأة التي تتقن إنهاء قصصك بها.. هذا فضلاً عن الأجواء الخاصة التي تضفيها عليها، وفضلاً عن البراعة في وصف الأمكنة بدقة تنقل القارئ إلى مسرح الحدث بعفوية ودون تكلف أو تصنُّع، حتى لتجعله يتخيل أنه يعيش الحدث على مسرح وقوعه، ويشارك أبطاله في مشاهدته وصنعه.. ما أجملها من قصة، وما أبرعك من قاص!..
بالمناسبة، قرأت قصتك (البحر)، وهي تماثل هذه القصة قوة، والحق مع أخي بهلول في إعجابه البالغ بها، فقد أعجبتني أنا أيضاً، ولكن تركت له الكتابة عنها لكثرة ما رجاني.. في رأيي المتواضع، وكناقد، أتمنى عليك أن تتفرغ للقصة فأنتَ تكتبها بعفوية وقوة، وبجمال أخَّاذ.. لا يعني قولي هذا أن تعزف عن فنون القول الأخرى، ولكن حبَّذا لو كانت القصة هي فنك الذي تشتهر به.. كما أتمنى أن أرى ولادة مجموعتك القصصية الأولى ورقياً، فقد علمت من خلال حوار الأخت عروبة معك في مجلس التعارف أن لا كتباً ورقية لك حتى الآن.. دمتَ ذلك المبدع الهادئ والفنان.. مع محبتي وتقديري..[/align] |
رد: لعنة الزغاريد
اقتباس:
طبعا كلمات الشكر والامتنان انت غني عنها أخي ولهذا لن اطنب في تكرارها . هناك كلمة لفتت نظري في تعليقك هذا وهي التي أعتبرها معبرا عن طبيعتي ككاتب إن كنت أستحق هذا الوصف : أتمنى عليك أن تتفرغ للقصة فأنتَ تكتبها بعفوية وقوة، وبجمال أخَّاذ.. لا يعني قولي هذا أن تعزف عن فنون القول الأخرى، ولكن حبَّذا لو كانت القصة هي فنك الذي تشتهر به . فعلا أخي .. أعتبر القصة هو مجالي الأول وإن كنت أسمح ليراعي المواضع ان يغترف من أصناف أخرى مثل الخاطرة أو بعض المحاولات الشعرية .. محبتي لك وامتناني لتشجيعك . وهمسة للبهلول : ها هو الصواف يشيد بك وبرأيك .. فلا مجال لانتقاده (ابتسامة وغمزة)[/align] |
رد: لعنة الزغاريد
احنا نسميوها لوزيرة .....
لكن في هذه الأيام لم تعد هناك حاجة لا لوزيرة و لا لغيرها؛ قرن اربعطاعش هذا عارف كلشي . للظالم نهاية مأساوية دائما وإن كان ظلمه بسيطا فما بالك بالقتل. قصة إجتماعية تفتح لنا نافذة على البسطاء منا المتسمين بالحكمة والصبر و الإعتقاد الراسخ في عدالة السماء إن بالمجدوب أو بالمجنون أو بغيرهما . دمت كبيرا وسامقا ودام لك هذا النفس الطويل الذي يسمح لك بالغوص في أعماق بحور المجتمع لتخرج لنا منها هذه الدرر الثمينة . |
رد: لعنة الزغاريد
اقتباس:
على كل حال لا تختلف عادات الزواج في بلدينا الشقيقين وإن اختلفت بعض الطقوس والترتيبات . أشكر لك مرورك أخي وثناءك على قصتي وأتمنى أن تكون كل كتاباتي عند حسن ظنك . مع خالص المودة[/align] |
رد: لعنة الزغاريد
[align=justify]أخي الأكبر الدكتور توفيق ، أنتَ أمام أديب متعدد اللغات ! من امتلك ناصية العربية ، وأتقن الفرنسية ، وأبدع في الإسبانية ، ويحسن التحدّث بالإنجليزية ، ضف إلى هذا كله اللهجة المغربية العذبة..فأخي رشيد (ما منو زوج)..لذلك لا تستغرب أخي الحبيب..بصراحة ، حين أقرأ له ، تزورني أطياف محمد ذيب ، ألبير كامي ، سيرفانتس ، وشيكسبير..كل هؤلاء أخذ من أجوائهم بذكاء كبير وبحسّ أطلسي مغاربي مرهف ! وأنتَ صادق أخي الحبيب حين نصحته بالتفرّغ للقصة..شكرا لك أخي رشيد على ما تتحفنا به من قصص في زمن الرداءة والترهّات..[/align]
|
رد: لعنة الزغاريد
اقتباس:
ما قلته في حقي أخي العزيز لكفيل بأن يجعل الغرور يملأ نفسي .. فكلماتك أشعرتني حقا بالزهو وأنت تقارن اسمي بأسماء عمالقة في الأدب .. فشكرا لك من كل قلبي . أود للأمانة أن أصحح معلومة ذكرتها عني بحسن نيتك المعتادة وهي أني لا أحسن التحدث بالانجليزية .. مودتي التي لا تبور |
رد: لعنة الزغاريد
اقتباس:
|
رد: لعنة الزغاريد
اقتباس:
ما ورد في مداخلتك هذه المفعمة مشاعر وأحاسيس جياشة لهي صدى لما يعتلج في صدر كل عربي مسلم غيورعلى أمته ، مهموم بآلامها وآمالها .. ما قلته هنا أخي يزيدني ثقة في أن هذا العالم العربي لا يزال ينعم برجال أباة ونبلاء . أمنياتك هي أمنياتنا جميعا .. أدعو الله أن يحققها لنا .. دمت نبيلا كما عهدتك ولك كل محبتي |
رد: لعنة الزغاريد
قصة ماتعة..تذكرني بأجواء الجنوب المصري ، وحكايات الثأر المتوارثة عبر الأجيال .. لكن أجمل ما فيها إختلافها عن تلك القصص ..في أن الظالم أخذ جزاءه بعيدا عن إرث الدم ، وأن عزيز عاد إلى والدته سالما نظيف اليد .
شكرا لك أخي الفاضل / رشيد الميموني . |
الساعة الآن 18 : 01 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية