منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   ملف القصة / رشيد الميموني (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=280)
-   -   الغريب (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=33001)

رشيد الميموني 03 / 01 / 2019 47 : 08 PM

الغريب
 
الغريب

توافد المدرسون على مكتب المدير في آخر يوم من الموسم الدراسي لتوقيع محضر الخروج بعد أن مر على مغادرة التلاميذ للمؤسسة أكثر من شهر وعلى إجراء الامتحان الموحد أسبوعين . أشار إليه المدير بالاقتراب ليسلمه استفسارا على تغيبه عن حراسة امتحان الباكالوريا وهمس له :
- أستاذ .. من الأفضل أن ترفقه بشهادة طبية .. ثلاثة أيام اقتطاع .. هذا كثير .
ابتسم بسخرية وقال :
- لكني لم أكن مريضا .. هل أكذب ؟
رمقه المدير ذاهلا وكأنه يسمع حديثه لأول مرة ثم هز كتفيه ، بينما انحنى المدرس على الورقة وهو مبتسم دائما وكتب : " لا تعنيني هذه الحراسة لأني لا أنتمي إلى الثانوي التأهيلي ., إضافة إلى أنه لا توجد ضمانات لحماية المراقب ."
الراضي مدرس في الخمسينات من عمره .. نحيف الجسد ، طويل القامة . في عينيه نظرة تحدي وتمرد على كل شيء . تزيد نظارته المكورة مظهره عنادا .
لم يتزوج من جديد منذ طلبت زوجته الطلاق بعد خلافات تشابهت أسبابها وإن صب معظمها في خانة الساعات الإضافية التي لم يكن يرى فيها سوى ابتزاز مقنع من طرف أقارب الزوجة الذين كانوا يتوددون إليه وهم يفركون أيديهم فرحا حين علموا بتواجد بعض أبنائهم كتلاميذ عنده بالقسم . ولن ينسى آخر عهده بحراسة طلبة الباكالوريا حين ضبط ابن أخت زوجته يعد هاتفه المحمول وفاجأه بنزعه منه متوعدا إياه بالإبلاغ عنه حين لمس منه ممانعة فقال له هامسا :
- يجب ان تحمد الله على أنني اكتفيت بنزعه منك .
ثارت ثائرة حماته وأصهاره ولمس من زوجته جفاء ، فقضيا أياما لا يتبادلان ولو كلمة .
الراضي لا يميل للحفلات ، ويعرض عن كل الدعوات التي توجه إليه سواء من الأصدقاء أو الأقارب . وهو قليل الحضور في المآتم ويعرض عن ليلة الطلبة ويكتفي بالذهاب رأسا عند أهل الفقيد ويقدم تعازيه ثم يعود من حيث أتى .
الحفل الوحيد الذي انساق إليه مرغما كان زفاف ابنة سليفته . رأى بأم عينيه وبكثير من الامتعاض حالة الاستنفار التي طبعت الحفل وأهل زوجته يتهافتون على استقبال بعض الأعيان ممن لهم صلة قرابة أو عمل بعديله وخاصة شقيقه الذي جمعته المائدة به صحبة رهط ممن وجدها فرصة لإبراز عضلاته في مجال المال والأعمال والسفر قبل التطرق إلى مواضيع الساعة .. المقاطعة والمونديال والأحكام الصادرة في حق قياديي حراك الريف .
لبث صامتا ينتظر بشغف إطعام الحاضرين كي يغادر الحفل .. تعود أن يكون عشاؤه خفيفا ولا دسم فيه . لكن نسيب زوجته أبى إلا أن يلح عليه كي يدلو بدلوه بعد أن صال وجال في الحديث : "المقاطعة ؟.. عبث وجهل .. المونديال ؟ .. رفعوا رؤوسنا وكان بإمكاننا الفوز بكأس العالم .. حراك الريف ؟.. يستاهلوا أكثر . لو كنت قاضيا لحكمت عليهم جميعا بالإعدام .. ما رأيك يا أستاذ ؟"
باغته السؤال وأحس بضيق بعد أن كان يمني النفس بالصمت لعلمه بعقم أي نقاش يتناول ما يجري على الساحة الوطنية والدولية . هز كتفيه مستنكفا تجاهل أخ عديله ، ذاك المعتد بنفسه ، ونظرات الإعجاب والانبهار تحيط به من كل جانب ، وبجهد جهيد ، تحامل على نفسه وأجاب :
- في الحقيقة هناك أشياء غير مفهومة .. المقاطعة ؟ .. ظن الكثيرون أنها محصورة في فئة من المشاغبين الفيسبوكيين ، في حين أيدها السواد الأعظم من الشعب .. المونديال ؟.. لم أشاهد أية مباراة لاعتبارات خاصة ويكفي أنها شدت اهتمام الناس عن قضاياهم . أما حراك الريف فأعتقد أن التعامل معه منذ البداية كان يطبعه النزق والعجرفة بل والجهل أيضا .
بدا وكأن حديثه نشاز وسط إجماع الحاضرين على فلسفة الرجل المختال زهوا وهو يخرس الألسنة وتنحني له الرؤوس مؤيدة . ساد الصمت ، وبدا كأن هيبة الرجل وسطوته في خطر ، فانبرى يقول بحدة :
- اسمح لي يا أستاذ .. أعرف أنكم معشر المدرسين غارقون في مثالية لا تزيدها كثرة العطل إلا خمولا ..
ثم قهقه ، فحاكاه الحاضرون مجاملة ، وعد ذلك انتصارا استعاد به هيبته ، لكنه ظل متحفزا لأية ردة فعل من الراضي الذي لم يزد سوى أن أشهر أشد أسلحته فتكا بخصومه ، خاصة المجادلين عن جهل .. كانت بسمته الساخرة والحاملة لكل معاني الازدراء والاستخفاف كافية لتؤجج حنق الرجل ذي البذلة الأنيقة وربطة العنق الزاهية الألوان .. يحس بها تتلهف للالتفاف حول رقبته وخنقه حتى الموت . فلم يشعر إلا والآخر يقهقه من جديد ويقول بصوت لمس فيه غيظا متأججا :
- اسمح لي أستاذي .. أنتم معشر المدرسين غارقون في خيالاتكم .. تعيشون سرابا دائما .. أجيال تكبر ولا نرى منها سوى أمية وجهل وعنف .. لا تأثير لكم إلا في تأجيج الصغار الأبرياء لتعم الفوضى .. ولا أدري إن كانت إجراءات أبريل 79 مناسبة لردعكم ..
نظر إليه الراضي مليا وبسمته لا تفارق شفتيه .. تذكر يوم جاء يتوسل إليه كي يقدم دروس دعم لابنه البكر قبل أن يبلغه استنكاره لنزع هاتف ابنه يوم الامتحان .. ثم تمثلت أمام عينيه فترة قاتمة من حياة أخيه الأكبر حين اضطر مع بعض زملائه للاقتراض وتدريس الساعات الإضافية ليكسب قوت يومه .. لكنه طرد عن ذهنه تلك الأفكار وقال بهدوء :
- لأول مرة تنطق عن صواب سيدي ..أجيال تكبر وأمية تتفشى وجهل لا يزيد إلا استشراء .. لا أحد يجادل في هذا .. ماذا تنتظر من هذا الجيل الذي يشحن في البيت ويرى الغش حقا مكتسبا ومشروعا ..
ساد الصمت ، ووجم الجميع . كان لكلماته وقع الصاعقة . وبدا أن الآخر سيفقد أعصابه ويثور لولا أن الراضي تدارك الأمر وأشار إلى عديله المنشغل بالترحيب بضيوفه :
- علي بالعودة إلى البيت .. تعرف أن السهر لا يناسبني ..
- غير معقول .. والعشاء ؟ .. لا لا .. لن أدعك تمشي .
- بلى .. سأمشي .. أصلا أنا لا أتعشى دسما .. السلام عليكم .
لاحقته عيون الحاضرين بين حانق وذاهل ومستنكر . لكن والد العروس كان أشد غضبا ، فلم يكد يشيعه إلى الباب حتى توجه نحو سليفته وهو يغلي غليانا ليصب على زوجها "المدرس المغرور" جام غضبه . توسلت إليه النسوة أن يهدأ ويكظم غيظه حرصا على مشاعر العروس لئلا يكدر صفوها شيء . وأشارت إليه زوجته أن يهدأ وبحركة من يديها فهم أن أختها ستقوم باللازم بعد انتهاء الحفل .
كانت ليلة الزفاف تلك إيذانا بتصدع في علاقة الراضي بزوجته . وصار جليا ان الأمور تسير من سيء إلى أسوأ . فعدم تلبيته لكل الدعوات الموجهة إليه من طرف أقارب زوج أختها الميسورين ورفضه تقديم حصص دعم على شكل دروس خاصة لأبنائهم ، عدته الزوجة تعاليا واحتقارا لأهلها أجمعين . فلم تشعر يوما إلا وهي تنفجر في وجهه غاضبة :
- ماذا دهاك ؟ وماذا تحسب نفسك ؟ .. أتظن أن تغاضي الكل عن تعاليك وكبرك احتراما ؟ .. هم فقط يراعون مشاعري ، لا غير .
لم يجب ، وإنما أبتسم كعادته تلك البسمة التي تغنيه عن أي رد فتستطرد الزوجة هائجة :
- ليكن في علمك ألا أحد يلتمس ودك .. فقليلا من التواضع من فضلك .. لا أدري إن كان أهلك يتحملون تصرفاتك أم أنهم لا يقلون عنك عجرفة .
وجد نفسه أمام خيارين .. إما أن يجيبها بما يناسب كلامها ، وهذا ما أحس بأنها تريده ، وإما يستمر في صمته . لكن إهانة أهله بتلك الطريقة وبدون مبرر جعلته ينظر إليها متأملا في صمت .. ثم ابتسم وهو يتوجه إلى الباب .. وقبل أن يخرج ، التفت إليها قائلا :
- يمكنك أن تسأليهم .. على فكرة .. نسيت آخر مرة زرتهم فيها .. هي فرصة لتعرفي أخبارهم ..
تلت ذلك مشاهد اشد هيجانا كان آخر فصولها رفضه لعرض اقتناء مسكن اقتصادي بفائدة مخفضة . ورأت الزوجة كيف غادر زوج أختها المنزل متأبطا الملف الذي يحوي وثائق كان على الراضي توقيعها ليتسلما المنزل مباشرة .. قال له وهو يرافقه إلى الباب :
- لست ممن يتعاملون بالربا .. ثم .. ألم يكن من الأليق ألا تزور المنزل في غيابي ؟ .. هكذا افهم الأصول ..
تحس المرأة بزوج أختها يخرج مهينا بينما يعود الراضي إلى أريكته كأن شيئا لم يكن . فتغادر البيت كعادتها عقب كل خصام وتغيب أياما عديدة ..
في هذه المرة طال غيابها كثيرا . لم يسأل عنها وإنما انتظر كأنه حدس أن شيئا ما سيحدث . ولم يشعر إلا وأحد أقربائها يزوره ويلتمس الحديث إليه . رحب به وأعد له القهوة .. تبادلا الحديث ثم قال الزائر باقتضاب :
- إنها تريد الطلاق .. أنا أرى أن ذلك ما يجب ان يحدث دون شد ولا جذب .. ألست معي في هذا ؟
وكان الطلاق ..
لم يتغير الراضي ، ولم تفارق تلك البسمة الساخرة شفتيه .احتفظ بعلاقات محدودة مع بعض زملائه لكنه ظل بمنأى عن كل التجمعات أو النزهات التي ينظمونها . وصار وصف الغريب له على كل لسان .
- وما الغرابة في ذلك ؟- تساءل مبتسما وهو يستمع إلى احد زملائه ينتقد من ينادونه بذلك الوصف ..
- حقا ؟ .. لكن اسمح لي أن أقول إنك تعطيهم الفرصة كي يؤكدوا التصاق الصفة بك .. مثلا .. ما الذي يجعلك تستمر في حياة العزوبية بعد طلاقك ؟ حواليك نساء كثيرا .. وفي المستوى .
ضحك وقال :
- وهل شكوت لأحد بشيء ؟
- لا .. ولكن أمرك لا يخفى عني أيها الذئب .. لا تظنني غافلا عنك رغم أنك بارع في إخفاء مشاعرك .. قل لي ..ما رأيك في مدرسة الفرنسية الشقراء ؟ أراها أكثر أناقة ولباقة من الفرنسيين أنفسهم .
سكت برهة وهو يغادر المؤسسة .. ثم تمتم قائلا :
- ربما .. عطلة سعيدة ."

لطيفة الميموني 04 / 01 / 2019 10 : 12 AM

رد: الغريب
 
قرأت لمبدع...واستمتعت أيما استمتاع.
شكرا جزيلا لقصة نعيش فصولها بكل تفاصيلها في حياتنا اليومية.
دام الإبداع نصيرا لك ابن العم.
تستحق القراءة والتأمل.

رشيد الميموني 20 / 02 / 2019 23 : 12 PM

رد: الغريب
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لطيفة الميموني (المشاركة 236397)
قرأت لمبدع...واستمتعت أيما استمتاع.
شكرا جزيلا لقصة نعيش فصولها بكل تفاصيلها في حياتنا اليومية.
دام الإبداع نصيرا لك ابن العم.
تستحق القراءة والتأمل.


مع اعتذاري لتأخر الرد على تعليقك اختي لطيفة ، أشكرك جزيل الشكر على تجاوبك على النص وثنائك عليه .

دمت بمودة .

خولة السعيد 25 / 06 / 2020 37 : 08 AM

رد: الغريب
 
كنت حاضرة أثناء تمثيل المشاهد جميعها وأصفق للراضي بحرارة وقوة كلما نجح في أدواره... يا سلام... ! هيهيهيهي أعجبتني شخصية الراضي جدا..( عناده، صمته الغاضب، هدوءه، تجنبه للغو، تشبثه بما يريد...) وأعجبني كالعادة أسلوب راسم الراضي ( سرده، وصفه، أحداث نصه، موضوعه...) رضي الله عن المؤلف وزاده رضى

رشيد الميموني 25 / 06 / 2020 11 : 11 AM

رد: الغريب
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خولة السعيد (المشاركة 247848)
كنت حاضرة أثناء تمثيل المشاهد جميعها وأصفق للراضي بحرارة وقوة كلما نجح في أدواره... يا سلام... ! هيهيهيهي أعجبتني شخصية الراضي جدا..( عناده، صمته الغاضب، هدوءه، تجنبه للغو، تشبثه بما يريد...) وأعجبني كالعادة أسلوب راسم الراضي ( سرده، وصفه، أحداث نصه، موضوعه...) رضي الله عن المؤلف وزاده رضى

تعليق يبث الفرحة في النفس فتنتشي وفي القلب فيطرب .
شكرا خولة على حضورك الدائم .
شكرا من كل قلبي


الساعة الآن 20 : 07 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية