منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   قصص قصيرة (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=554)
-   -   المفاجأة (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=34743)

محمد توفيق الصواف 23 / 03 / 2022 00 : 10 AM

المفاجأة
 
كعادتها، في كل عصر، مضت المفاجآة مسرعةً، فور ولادتها، لتختبئ في كهف المستقبل، بانتظار أن يحين زمن اللامتوقع لتظهر على الناس ناشرة الدهشة والاستغراب...
ومن هناك، من وراء جبال الغيب الملغز، رأيتها ترقب ما يجري وتبتسم، هازئة بكل توقعات المحللين والمتنبئين.. وحين يجنها الليل بسواده، كانت تعكف على كل المخططات التي وُضعت بعناية فائقة، تقرأها وتحللها، ثم تعد لإفشالها، لا لشيء، سوى لرغبتها في أن تؤكد للجميع، أنها وحدها سيدة كل المواقف، وصانعة المنعطفات الحاسمة في مجريات الأمور.
وذات فرصة، أدركتُها، وهي تتهيأ للانطلاق إلى مخبئها المفضل.. رجوتها أن تسمح لي بمرافقتها، فأبت.. رجوتها ثانية، فاستجابت مشترطة عليَّ ألا أتدخل فيما تفعل، مهما بدا فعلها مستغرَباً لي، فقبلت..
كانت تغذ السير مسرعةً إلى ذلك المخبأ البعيد.. وكنتُ أتبعها لاهثاً لشدة سرعتها، لكنني مصمم على ألا أُفوِّت فرصة المضي معها إلى مخبئها..
حين وصلنا، كانت شمس الحاضر قد بدأت تميل إلى الغياب.. أردتُ أن أسألها مستفسراً عن بعض ما شهدتُه في الطريق، فرفعت سبابتها إلى فمها، آمرة إياي بالصمت، وإلا، فَصَمَتّ.
في صباح اليوم التالي، ومع بداية أولى إشراقات شمسه، رأيتها تنهض ميممة صوب موضع عالٍ تستطيع أن تشرف منه على ما يجري فوق أرض الحاضر..
ها هو شعب يخرج غاضباً ضد الذين جاؤوا غزاة إلى أرضه يريدون اغتصابها..
تجمع أفراده في مظاهرات حاشدة يهتفون فيها ضد الغاصب.. فإذا بزبانية الغازي يهجمون عليهم، يضربون ويقتلون لكنهم يعجزون عن إسكات صوت الحق المنطلق من الحناجر التي تحررت من الخوف، فإذا بالغاصبين يُصَعِّدون من وتيرة قسوتهم.. وبين أخذ وردّ، وإقدام وإحجام، سرعان ما انتقلت المواجهة بين الطرفين إلى صراع دامٍ بين مهاجم غازٍ ومدافع صمم على حماية وطنه.. فكثر القتل وانتشرت رائحة المأساة في كل مكان.
أردتُ أن اسأل المفاجأة، لماذا لا تتدخل، فأشارت علي بالتزام الصمت، وإلا، فصمتّ.
ومضى نهار إثر نهار، ويوم وراء يوم، والمشهد نفسه يتكرر، بزيادة عدد الشهداء أو بنقصه، لا فرق... حتى بدا التعب أخيراً على وجوه الجميع، غزاة ومدافعين، لكن أياً من الطرفين لم ييأس بعد..
إلى أن كان يوم..
خرج الطرفان كعادتهما إلى ساحات التحدي، هؤلاء يهتفون مستبسلين في دفاعهم، وأولئك يَقتلون بقسوة أشد مصممين على عدوانهم.. وأخيراً استبد التعب بالمدافعين، وبدأت علامات اليأس تلوح على وجوههم، بعدما خذلهم الجميع. ثم... انخلع قلبي، وقد رأيتهم يجمعون ما تبقى من عزائمهم وبقايا إرادتهم، وأشلاء أحلامهم مع أشلاء شهدائهم، استعداداً لإعلان الهزيمة، ولتسليم أنفسهم لغزاة وطنهم..
دمعت عيناي، ولم أعد أطيق صبراً على البقاء صامتاً، فالتفتُ إلى المفاجأة أريد الصراخ بوجهها محتجاً وموبخاً لها على مشاركتها العالم كله في خذلان أولئك الأبطال الرائعين، وليحدث ما يحدث..
لكن، وقبل أن أنطق بحرف واحد، رأيتها تغادرني بلمح البصر، راكضةً باتجاه الجموع اليائسة التي كانت تُكفكف دموعها، وما تبقى من دم في قلوبها، وقد أيقنت أنها انهزمت، وضاعت كل تضحياتها هدراً..
دخلَت بين الجموع كشعاع من برق، لتستقر في قلب أحدهم.. كان شاباً صغيراً في عمر الورد.. في عينيه الكثير من التحدي الذي لم أرَ مثله في حياتي، وعلى شفتيه تبرق ابتسامة إصرار من نوع غير مألوف.. وما إن استقرت المفاجأة في قلبه، حتى فتح فمه مطلقاً لصوته العنان.. وهو يصيح بجموع اليائسين:
عودوا.. فإن عدونا قد أثملته الآن نشوةُ انتصاره علينا.. وهذه هي الفرصة الأكثر مناسبة لكي ننقض عليه ونتخلص منه.. عودوا.. فإن الشمس ستظل تشرق علينا، وسيظل الليل والنهار يتواليان في دأبهما الرامي إلى إنهاء أعمارنا، سواء انتصرنا أو انهزمنا.. فلماذا نريد أن ننتظر ساعة موتنا بكآبة، بينما المجال مازال مفتوحاً أمامنا لننتصر أو نموت سريعاً، دون معاناة الكآبة والقهر بانتظار موتنا.. أليس انتظار الموت أسوأ من ملاقاته؟
وكما ينهمر الغيث على أرض ميتة فيحييها، نزلت كلماته على قلوب اليائسين المتعبين، فإذا بها تَعْمُر بالأمل من جديد، وإذا بالقوة تدب في أوصال حركتها، فتموج متحدة على نحو مذهل، لتتجه أمواجها الصاخبة الغاضبة متدافعة نحو العدو الذي كان يجرع كؤوس النصر منتشياً.. وما هي إلا لحظات حتى انقلب كل شيء على أرض الحاضر، رأساً على عقب.. وهنا، في تلك اللحظة بالذات، أطلت المفاجأة برأسها على المشهد، وفركت كفيها ببعضهما منتشية بنجاح ما سعت إليه وحققته، ثم جمعت أذيال ثوبها الطويل، ومضت، كعادتها، تاركة وراءها الدهشة تسكن في عيون الجميع، وفي عينيّ أيضاً اللتين فُوجِئَتا زيادة عن غيرهما حين رأتاها تُلوِّح لي مُودِّعة وهي تبتسم وتغمز لي غمزة ذات معنى...

ليلى مرجان 24 / 03 / 2022 06 : 12 PM

رد: المفاجأة
 
سأكتفي هنا بقول أن هذا النص راق رائق وبالشكر على الإمتاع، لأني أفردت له قراءة متواضعة أرجو أن تروقك أديبنا المقتدر محمد الصواف.
موعدنا قريبا في منتدى "الميزان"

تقديري واحترامي

خولة السعيد 24 / 03 / 2022 34 : 01 PM

رد: المفاجأة
 
والقصة هذه مفاجأة جميلة تستحضر التاريخ وتستحضر اللغة القوية ببساطتها لتتحف المتلقي وتتركه منبهرا بالمفاجأة فتنتهي...
فكرة جميلة منك ليلى .. ننتظرك

محمد توفيق الصواف 01 / 04 / 2022 26 : 06 PM

رد: المفاجأة
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ليلى مرجان (المشاركة 266203)
سأكتفي هنا بقول أن هذا النص راق رائق وبالشكر على الإمتاع، لأني أفردت له قراءة متواضعة أرجو أن تروقك أديبنا المقتدر محمد الصواف.
موعدنا قريبا في منتدى "الميزان"

تقديري واحترامي

الشكر لك أختي الغالية ليلى صاحبة العبارة اللطيفة دائماً.. بانتظار الاستمتاع بقراءتك لقصتي المتواضعة..

محمد توفيق الصواف 01 / 04 / 2022 28 : 06 PM

رد: المفاجأة
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خولة السعيد (المشاركة 266211)
والقصة هذه مفاجأة جميلة تستحضر التاريخ وتستحضر اللغة القوية ببساطتها لتتحف المتلقي وتتركه منبهرا بالمفاجأة فتنتهي...
فكرة جميلة منك ليلى .. ننتظرك

أشكرك يا ابنتي.. أيتها القارئة المجدة المتابعة.. يسعدني اهتمامك بما أكتب..

محمد الصالح الجزائري 06 / 04 / 2022 59 : 05 AM

رد: المفاجأة
 
حدث هذا في غيابي..المفاجأة أنّك عدتَ أخي الأكبر الدكتور الصواف الرائع!! تناص جميل ..ونص مفعم بالدهشة..شكرا لك ومرحبا بك مرة أخرى..رمضان كريم..

محمد توفيق الصواف 11 / 05 / 2022 29 : 02 PM

رد: المفاجأة
 
أخي الحبيب محمد..
ارجو المعذرة لتأخري بالرد على تعليقك، أولاً، فقد كان لدي الكثير مما شغلني عن الدخول للموقع خلال رمضان والأيام التي تلته..
والحمد لله على عودتك للموقع أيضاً..
وبمناسبة عيد الفطر المبارك، كل عام وأنت وأسرتك وأحبابك وموقعنا هذا وأهله بألف خير.
سرني ردك كالعادة، وشكراً لاهتمامك.. وأرجو دوام وجودك بيننا..

عزة عامر 12 / 05 / 2022 17 : 02 AM

رد: المفاجأة
 
وتلك المفاجأة هي الأمنية والرجاء ، التي يتطلع إليها كل إبن منتم إلى ترابه ، مائل بأقصى إنحنائته مقدما ولاءه وطاعته ، حبا واعتزازا بالوطن ..ولا دهشة حين تقفز من بين أصابع أديب مثلك .. شكرا لك أ/محمد توفيق الصواف على تلك المفاجأة ، والتي آمل أن تدهشنا يوما ما في جميع أنحاء الوطن ..
دمت بكل محبة وخير ..


الساعة الآن 34 : 10 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية