منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   المقــالـة الأدبية (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=62)
-   -   في حضن تأملات إدوارد سعيد لمشاهد غسان كنفاني (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=3540)

نصيرة تختوخ 14 / 04 / 2008 43 : 09 PM

في حضن تأملات إدوارد سعيد لمشاهد غسان كنفاني
 
عندما كنت أقرأ بعد مقولات إدوارد سعيد هنا و هناك وحين
أعلن عن وفاته وشهد له بقيمته الفكرية و العالمية كنت أتوق للانغماس أكثر في رؤى و فكر هذا الرجل
وبعد انكبابي على كتاباته وتأملاته لا يسعني إلا أن أقول أن العالم فقد فعلا يوم وفاته واحدا من نجومه اللامعة ،واحدا من الكبار الذين اتسعت عقولهم لتقرأ كتابات عالمية وتحللها ولتسلط النور على قضايا قد تبدو بريئة ومثابرة لكنها تشوه ثقافة أمة كبيرة قد لاتنتبه لمايدور حولها كماهو حال الإستشراق مع دراسة الثقافة العربية.
إدوارد سعيد سحرني بعمق التحليل و الرؤيا فاستمتعت بوضع تأملاته في حضني، والتي سأنتقي منها وقفته أمام مشاهد غسان كنفاني لتتأملوها معي وتحترموا ربما عقلا عربيا فذا يستحق كل الإعجاب و التقدير:
"تشدد التأكيد على المشاهد وغدا أكثر إلحاحا،بعد 1948:هذا المشهد الذي ترجم رسميا قضايا العالم العربي الحاسمة والأساسية.
وهذه ليست مسألة إثبات لمقدار ما يعكس الأدب أو الكتابة الحياة،ولا هي تأكيد على تأويل أليغوري للواقع العربي:حيث استوطنت هذه المقاربات،للأسف معظم التحليلات الغربية النادرة جدا للأدب العربي.
فالأهم من ذلك بكثير هو أن المشهد بحد ذاته غدا مشكلة الأدب العربي الحقيقية ومشكلة الأدب العربي بعد نكبة 1948: فالمشهد لم يعد يقتصر على تصوير الأزمة، أو البقاء التاريخي أو مفارقة الحاضر بل أصبح هو المعاصرة في شكلها الإشكالي بل المخلخل إلى أبعد مدى.
المشهد الإفتتاحي من رواية غسان كنفاني القصيرة رجال في الشمس،والتي من المؤكد أنها أجمل أعماله وواحدة من أبرع الروايات القصيرة وأبعدها أثرا.
"أراح ابو قيس صدره فوق التراب الندي، فبدأت الأرض تخفق من تحته:
ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر خلاياه...فيكل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض مازال،منذ أن استلقى هنا أول مرة، يشق طريقا قاسيا إلى النور قادما من أعمق أعماق الجحيم، حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل،هناك،في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات.أجابه ساخرا:" هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض" أي هراء خبيث!والرائحة إذن ؟ تلك التي إذا تنشقها ماجت في جبينه ثم انهالت مهومة في عروقه؟
كلما تنفس رائحة الأرض وهو متسلق فوقها خيل إليه أنه يتنسم شعر زوجه حين تخرج من الحمام وقد اغتسلت بالماء البارد...
الرائحة إياها ،رائحة إمرأة اغتسلت بالماء البارد و فرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطيبا..الخفقان ذاته: كأنك تحمل بين كفيك الحانيتين عصفورا صغيرا".
ويتواصل المشهد بينما يستيقظ أبو قيس شيئا فشيئا على إدراك محيطه الفعلي في مكان ما بالقرب من شط العرب،مصب دجلة والفرات فهو هناك ينتظر ترتيبات تهريبه للكويت ،حيث يأمل أن يجد عملا.
وكما في المقطع المقبس سابقا فإنه يفهم موضعه،وخلفية المشهد الحاضر، عن طريق تذكر ماضيه: صوت الأستاذ في مدرسة قروية فلسطينية ،وهو يترنم بدرس الجغرافيا، عن شط العرب.
فحاضر أبو قيس الخاص هو خليط من ذاكرة مفككة و القوة التطفلية الجامعة المتأتية من وضعه الحالي الذي لايحتمل: فهو لاجئ ولديه عائلة، اضطر إلى البحث عن عمل في بلد تدل شمسها الحارقة على اللامبالاة الكاملة بمصيره.
وسوف نكتشف أن الضوء المقترب هو إشارة استباقية إلى الحدث الأخير في هذه الرواية القصيرة.
فمع اثنين من اللاجئين الفلسطينيين، كان ابو قيس في طريقه إلى الكويت مهربا في جوف الخزان الفارغ بينما يتفاوض السائق مع الموظفين .وتحت الشمس اللاهبة يموت الثلاثة اختناقا؛عاجزين عن إطلاق أي إشارة.
وهذا المقطع واحد من مشاهد عديدة قسم إليها العمل.
نجد في كل مشهد تقريبا أن الحاضر ،بالمعنى الزمني،مزعزع و يبدو عرضة لأصداء من الماضي ،ولضرب من الحس المتزامن حيث يفسح النظر مجالا للصوت أو الرائحة و حيث تتشابك حاسة مع الأخرى، في مركب (complexe)من الوقوف في وجه الحاضر القاسي وحماية شذرة عزيز بوجه خاص من شذرات الماضي.
في الجزء الأساسي من هذه الرواية القصيرة،سنلاحظ أن كثيرا من الفعل يحدث في الشارع المغبر من بلدة عراقية حيث يقوم الرجال الثلاثة، بصورة مستقلة متفرقين بالتوسل ل"الإختصاصيين" ومحاججتهم، والتصافق معهم لتهريبهم عبر الحدود.
وبذا يغدوالصراع الأساسي في هذا العمل هو ذلك الصراع الذي يدور في الحاضر: فبضغط من المنفى و الإقتلاع ،لابد للفلسطيني أن يشق لنفسه سبيلا في الوجود.الذي لايمثل بالنسبة له واقعا"متعينا" أو مستقرا بأي حال من الأحوال.
ومثل الأرض التي تركها يبدو أن ماضيه توقف فجأة قبل أن يتمكن من إعطاء ثمراته؛غير أن لدى الرجل
عائلة ومسؤوليات والحياة ذاتها مما ينبغي الإستجابة لها في الحاضر.
وماهو بعيد عن اليقين ليس مستقبله وحسب؛ فحتى وضعه الحاضر يزداد صعوبة بينما هو يتدبر بشق النفس أمر الحفاظ على اتزانه في الصفقات المعقدة في الشارع المغبر.
النهار ، الشمس، الحاضر :كل ذلك هنا معاد،ويدفعه بعيدا عن حماية الذاكرة والاستيهام،السديمية حينا و القاسية حينا آخر.
وحين يبتعد الرجال في النهاية عن صحرائهم الروحية إلى الحاضر،باتجاه المستقبل الذين اختاروه كارهين بحكم الضرورة ؛فإنهم يموتون؛دون أن يراهم أحد، دون أن يعرفهم أحد، يقتلون في الشمس، في الحاضر ذاته الذي انتزعهم من ماضيم وعيرهم بعجزهم وقلة حيلتهم.
المشهد بالنسبة لكنفاني هو أساسا تلك الوسيلة الملائمة التي يقدمها التقليد الروائي العام للكاتب،لكن هذا المشهد الذي يستخدمه ليقدم الفعل ،يغدو وقد أزيح عن التقليد الذي يمكن أن يتخذه كمسلمه، ضربا من التقنية التي تعلق بنوع من المفارقة الساخرة على الصراعات الأولية التي تواجه الفلسطيني.
فعلى هذا أن يصنع الحاضر و الحاضر ،بخلاف الحالة الستاندالية( نسبة إلى الكاتب الفرنسي اللامع ستاندالstendhal) أو الديكنزية(نسبة إلى الكاتب البريطاني المتألق تشارلز ديكنز)ليس ترفا تخيليا بل ضرورة وجودية بمعناها الحرفي..
ان استخدام كنفاني للمشهد يحوله إلى درب من التحريض.فالمفارقة التي تكتنف المعاصرة هي حادة فعلا بالنسبة للفلسطيني .
فحين لا يمكن للحاضر أن يكون"متعينا" ببساطة (أي حين لا يتيح الزمان للفلسطيني أن يميز بين ماضيه وحاضره ولا أن يصل بينهما،بسبب النكبة)فإن هذا الحاضر لا يكون قابلا للفهم إلا بوصفه إنجازا.
وحدها قدرة الرجال على تدبر أمرهم بخروجهم من عالم النسيان إلى الكويت يمكن أن تحقق كينونتهم (بمعنى تجاوز البقاء البيولوجي فقط).ولأنهم يجب أن يحيواـ ليموتوافي النهايةـ فإن المشهد يحثهم على الفعل.
المشهد عمل من أجل الرواية ،إنما من مادة تدل صورتها في الحاضر على النتيجة النفسانية والسياسية والجمالية للنكبة .فالمشهد يحرض أباقيس، وحين ينجز فعلا بسبب منه، يكون قد قدم وثيقة مقروءة وكذلك،ياللسخرية ،حتمية إنقراضه.
فالمسافات بين اللغة والواقع قريبة".
سأتوقف بعد هذه الجملة الحكيمة الرائعة وبعد روعة مشاهد كنفاني وتأملات إدوارد سعيد الثاقبة، المتفحصة و التحليلية.
سأتوقف عن السرد لأستمر في رحلاتي مع تأملاته لمواضيع إنسانية وثقافية أخرى و لأختم مقالي هذا بالتقدير كما بدأته لمفكر رحل تاركا أشياء قيمة للإنسانية من بعده.
Nassira
http://www.alriyadh.com/2006/01/26/img/261691.jpghttp://www.zuhlool.org/images/7/77/Saed.jpg


الساعة الآن 41 : 02 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية