![]() |
آيسلندا وحبها للفلسطينيين
آيسلندة ـ ريكافيك:
نحن نكره الأجانب لكننا نحب الفلسطينيين حسين سليمان لم أكن أعرف هذه الجزيرة إلا على الرسم. وضعها الله نقطة في الشمال قريبة من القطب حيث تعتاش علي صيد السمك وعلي موقعها الذي أخذ يستأثر باهتمام بعض الدول الأوروبية. حين حطت السفينة التي نقلتنا من مرفأ هيوستن رحالها في عاصمة آيسلندة ريكافيك كانت الساعة حوالي الثانية عشرة ليلا حيث الشمس مشرقة أو تلعب لعبتها الأبدية في المغرب، ترف هناك من دون نزول وراء الجبل الذي يلفه الضباب. هذه المنطقة تبزغ من سحر كان يا ماكان فهي ليست علي أرض الواقع بل كأنها في صفحات طلسم تمس الخيال وتدغدغه. الشمس تنير تمثالا لرجلين يشيران نحو المحيط وحولهما سيدة تأخذ صورا تذكارية. الوجوه في تلك الساعة منتفخة متعبة تتحضر للنوم. والشمس لم تكن شمس صباح بل هي أيضا متعبة ومرهقة بالإنارة. العالم هنا مختلف، لا أحد ينكر ذلك، لكن الاختلاف هو اختلاف مع السيرورة. كأنني عدت بل عدت إلي زمان فيه هدوء وفيه أيضا حساسية مرتفعة ضد تدمير العالم. هل استطيع أن اكتشف هذه الجزيرة في يومين لا أكثر. مشيت عند ساعة مشرقة، كانت الثامنة ليلا وكانت الطرق الضيقة مسحورة. الظلال تنتقل وتبادل أمكنتها، أما التماثيل المقامة علي الأرصفة فتقول إشراقة فن يعرض انكسار الانسان. من بعيد، أتمشي وحيدا خلال الرياح العذبة ـ درجة الحرارة 13 مئوية، وهي حرارة الصيف، وهناك في الشارع رنين يغلفه الصمت. والضوء، طريقة الضوء تبعث الشعور بالغرابة وبأن العالم مخلوق بين زمانين. تمثالان لرجلين ينظران نحو بعضهما بتأمل عارض فيه تساؤل عن شيء اختفي وتلاشي. وتقودني خطواتي من دون أن أدري ـ بإحساس غير مدرك ذلك كما قالت ماريا حين دخلت المقهي التي كانت جالسة فيه. من بعيد سمعت غناء مصريا فهززت رأسي قائلا: هذه مصر تلاحقني بأغانيها؟ لم يكن هناك بد. فلقد أصابني انطفاء وإغماء ذلك لأن الصوت والموسيقي والفن، كلها صوت عربي واحد وعلي بعد درجة سلم واحدة. كانت الموسيقي تدلق من نافذتي المقهي الذي يصعد درجتين عن الشارع، وهناك ألوان ورسوم وتجل. موسيقي العود والدربكة والجنبش والناي. والطرب العربي ماذا يفعل في هذه الأرض البعيدة الغريبة؟ ربما المكان للبناني أو لمصري. لكن لا رائحة لعربي. كان المكان مقهي أرض الوطن ـ هوم لاند كافي يخدم القهوة الفرنسية والكابتشينو والعصير وحلويات الكعك. لا وجه عربيا واحدا. كلهم آيسلنديون وبعضهم يحمل وجها أوروبيا بولندا والنرويج طبيعة الغجر الصاعدة نحو سماء غير موجودة. كان هناك رقص انتبه في لحظته الأخيرة، فتوقفت قليلا الراقصة الشابة حين رأتني أدخل، أو تخايلتُ أنها توقفت ورهنت أجزاء الثانية للدهشة التي غمرتني. ثم تابعت وكانت وقفتها حالة فنية ذكرتني بصباح فخري حين يترك فجوات بين الأغنية كي يقف الزمان كله، ذكرتني أيضا برقص نجوي فؤاد... حين أري راقصة عربية علي المسرح أجد في تعابير وجهها أقنعة لا تتصالح مع الفن بقدر ما تتصالح مع إغراء الجسد ومحاولة منحه للمشاهد. أما هنا، فهي شابة لم تنه المدرسة الثانوية بعد، تهز وتتمايل وفي رأسها الصغير كلمة واحدة: إجادة الرقص العربي. كانت ترقص وتدمدم احرف أغنية مصرية لا تفهمها. لم أتعرف علي المغني، فهي لأحد الشباب. لكنها أغنية مؤثرة في حالة الوحدة والغربة. فالا ترقص وتنظر إليها سيروس . قالت فالا إنها تعلمت الرقص العربي منذ سنتين مع صديقتها سيروس وتحب أن تتعلم بعد ذلك اللغةالعربية. لكن ماذا يعني كل ذلك سوي أنها رغبة تغيير ومحاولة اختلاف. لا مانع، فنحن أيضا نحب أن نري العالم الآخر ونختبره. المرأة في ايسلندة لا تعرض انوثتها، أو أن قضية المرأة والرجل غير موجودة مقارنة مع أوروبا أو حتي مع أمريكا. فالحرية للطرفين وبنفس السوية. تجتهد المرأة في تأمين المعيشة وتواجه ظروفا صعبة قاهرة كي تثبت أنها قادرة علي الحياة، كند للرجل. إلا أن الطرفين يواجهان صعوبة الحياة ذلك بسبب قلة الموارد والأسعار الباهظة غير المعقولة. كانت في المقهي شابة غريبة المظهر قالت ان اسمها هو ماريا، تطلب أن أجلس إلي طاولتها وتقول لي أنت ثالث رجل ألقاه هذا اليوم يحاول تحطيم الطبيعة دون أن يشعر! فسألتها الإيضاح وكيف تقولين ذلك وأنت لم تتعرفي بي؟ كل عمال التقنية وكل من يبني مدن هذا العصر الغامض، يحطمون أكثر مما يبنون. كانت حدسية تتبع روح الطبيعة وسحرها. علينا أن نتبع أثر الحدس والطبيعة الأم. ولقد آن الأوان كي يبزغ مرة أخري النور، لقد تعبنا، تعبت الأرض من حال الظلام وهنا في هذا المكان قد بدأت مظاهر التبدل! لقد ظننت أنها من جماعة الغجر المنجمين الذين يقرأون البخت، لكنها ليست كذلك، لقد تركت عملها في كاليفورنيا وذهبت لسنتين إلي الهند كي تختبر لحظات التحول النفسي الذي داهمها وهز كيانها في لحظة تأمل: هناك تيارات داخلية تأتي من كل انحاء العالم تتحد وتلتقي هنا في ريكافيك ولهذا السبب اخترتها وتركت كاليفورنيا. طبعا كلامها لم يقنعني لكن طاقتها وإيمانها هما ما جعلاني اهتم بما قالته، كانت تقول بسيرورة نهاية حضارة ونهاية عالم من اجل بداية جديدة. التيارات الأرضية ـ الـ DNA يجب أن يتغير ولقد آن الاوان! في مكان قريب من المقهي كان هناك صوت غناء البوب يقرع بقوة، صوت يملك خبرة الغناء وحساسية الموسيقي. فدخلت، كانت فاصلة استراحة حين توقف المطرب بودي وفرقته Touchوسأل الحضور إن كان هناك بينهم أجانب. فرفع البعض يده مبتسما، أما هو فقد أجاب قائلا وبوحشية فنية: نحن نكره الأجانب، نكره الأجانب، ثم رفع رأسه نحو الأعلي كي يقول: لكننا نحب الفلسطينيين! لقد قدم أغنية لم احصل علي كلماتها أهداها إلي امرأة فلسطينية حامل ذهبت ضحية حين وقفت أمام جرافة اسرائيلية. كان يتكلم بل يغني بحرقة وبجنون. هذه الطاقة لم تأت من عبث، ليست طاقة مراهقين بل هي طاقة مسيّرة تحملها نفس سرية، رحت أؤمن بكلام ماريا: هنا يبدأ التغيير، تبدأ تيارات غير مرئية بقلب روح العالم المظلم وجعله مرة أخري منيرا. لقد آن آوان الربيع وحان وقت الصحو! كاتب من سورية يقيم في امريكا |
الساعة الآن 24 : 07 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية