منتديات نور الأدب

منتديات نور الأدب (https://www.nooreladab.com/index.php)
-   الصحافة و الإعلام (https://www.nooreladab.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   أوراق الحصار المقدس.. (https://www.nooreladab.com/showthread.php?t=5429)

مازن شما 02 / 07 / 2008 27 : 03 AM

أوراق الحصار المقدس..
 
[frame="13 95"][align=justify]
أوراق الحصار المقدس..


أصبحت المعابر الستة سيفًا مُشْهرًا في الحصار المقدس الذي فرضته "إسرائيل" على قطاع غزة‏ لترغم جماهيره المليونية على شرب أنخاب المذلة والهوان كل صباح.

(1)‏
كأن التاريخ يعيد نفسه‏؛ فما فعله المهاجرون الإنجليز حين وطئت أقدامهم بلاد الهنود الحمر في القرن السابع عشر‏،‏ وأسسوا هناك مستعمراتهم الأمريكية التي أطلقوا عليها "إسرائيل‏"‏ هو ذاته الذي فعله "الإسرائيليون" حين أغاروا على فلسطين وأقاموا مستعمراتهم على أرضها.

ذلك أنني حين أتابع التقارير الصحفية التي تتحدث هذه الأيام عن التلاعب بالمعابر‏,‏ واستخدامها في إحكام الحصار وإشاعة التجويع والإظلام وتنفيذ سياسة الموت البطيء على سكان القطاع‏,‏ يزداد يقيني بأن الحاضر ليس سوى استنساخ للماضي‏؛ فالإنجليز إذا كانوا قد ذهبوا كـ"إسرائيليين" إلى ما اعتبروه أرضَ الميعاد في أمريكا‏,‏ وأبادوا الشعوب الهندية هناك مستخدمين أحطَّ الوسائل وأكثرها وحشيةً ونذالةً‏,‏ فإن "الإسرائيليين" تقمَّصوا أرواح الأولين حين انقضُّوا على فلسطين‏,‏ فتأمركوا وتفننوا في استرجاع ذات أساليب الاقتلاع والإبادة وسحق الفلسطينيين‏.‏

يسجِّل كتَّاب أمريكا والإبادات الجماعية أن جورج واشنطن الأب الأعظم للولايات المتحدة اقترح عقد سلسلةٍ من الاتفاقيات مع الهنود الحمر للاستيلاء على بعض أراضيهم‏ مقابل الوعد بعدم المساس بما تبقى لهم من الأرض‏،‏ وأوصى بأن تكون وعود المفاوضين شخصيةً وغير ملزمةً للحكومة الأمريكية‏؛ ليسهل نقضها في أول فرصة،‏ وقد أقرَّ أعضاء الكونجرس بالإجماع خطته،‏ وقال بعضهم إن هذا الأسلوب من الاتفاقيات لن يُبقيَ للهنود في النهاية سوى معازلهم،‏ وأن الذين يرفضونها سيكون مصيرهم إما التهجير القسري أو الإبادة‏.

وبهذا الأسلوب تم تطهير الشمال الشرقي للولايات المتحدة من الشعوب الهندية؛‏ الأمر الذي لم يُبْقِ للهنود سوى منطقة غرب المسيسبي‏ التي اعترفت الولايات المتحدة بأنها منطقة هندية ذات سيادة في الاتفاقيات التي عقدتها معهم عام‏1851،‏ لكن اكتشاف الذهب دفع الحكومة الفيدرالية إلى فبركة وثيقة مزورة يتخلَّى الهنود بمقتضاها عن‏90%‏ من تلك الأراضي‏,‏ وحين رفضها زعماء الهنود‏ وأبرزوا المعاهدة الأصلية التي كان موقِّعوها لا يزالون على قيد الحياة‏‏ اتهمتهم الحكومة الفيدرالية بخرق المعاهدة‏، واعتبرت تصرفهم إعلانًا للحرب‏.

ومن ثم لجأت إلى حصارهم وتجويعهم وتدمير حياتهم‏‏ بحيث لم يَبْقَ أمام قبائل الهنود سوى الهجرة أو الموت‏,‏ فهاجر منهم من هاجر‏،‏ وأبيد الذين أصروا على الاستمرار في المقاومة‏.‏

(2)‏
السيناريو يطبَّق الآن في غزة،‏ مع الاختلاف في بعض التفاصيل والنتائج؛‏ ذلك أن "إسرائيل" لجأت إلى سياسة الحصار والتجويع لإذلال سكان القطاع وكسر إرادتهم‏‏ منذ خرجت منه في شهر سبتمبر ‏2005 بعدما أدركت أن وجودها في داخله يحمِّلها بأعباءٍ تريد أن تتحلل منها،‏ وسيرًا على درب الاتفاقيات التي لا تُنفَّذ، رعت الولايات المتحدة اتفاقيةً بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل" لتنظيم استخدام المعابر لمدة سنة‏،‏ وهو ما تم في شهر نوفمبر من العام ذاته‏ (2005).

هذه المعابر ستة؛ هي‏:‏ معبر رفح‏,‏ وهو الوحيد الذي يصل بين غزة والعالم الخارجي، في حين أن المعابر الخمسة الأخرى تمر بـ"إسرائيل"،‏ وهو مخصص لحركة الأفراد خارج القطاع، معبر المنطار‏ (كارني‏)‏ الذي يقع شرق مدينة غزة‏ على خط التماس بين القطاع و"إسرائيل‏",‏ وهو مخصص للحركة التجارية من وإلى القطاع‏,‏ وكذلك لتصدير الخضراوات إلى الضفة الغربية، معبر بيت حانون ‏(ايريز‏)‏ شمال القطاع، وهو مخصص لعبور العمال والتجار ورجال الأعمال والشخصيات المهمة، معبر صوفا في الجنوب الشرقي من خان يونس‏، ويستخدم لدخول العمال ومواد البناء من "إسرائيل" إلى قطاع غزة، معبر كرم أبو سالم‏ (كيرم شالوم‏)‏ في جنوب القطاع‏,‏ وهو مخصص لاستيراد البضائع من مصر عبر "إسرائيل‏",‏ وقد اعتمده الاحتلال لاستيراد محدود للبضائع ذات الطابع الإنساني، ومعبر ناحال عوز‏,‏ وهو مهجور ومغلق‏,‏ وتم تحويله إلى موقع عسكري‏,‏ وكان مخصَّصًا لدخول العمال والبضائع‏.

التركيز الأساسي في الاتفاقية كان على معبر رفح باعتباره الأهم‏,‏ وبمقتضاها أصبح المعبر تحت إدارة مصرية- فلسطينية‏،‏ وإشراف ممثلي الاتحاد الأوروبي‏,‏ ولم يكن لـ"إسرائيل" وجود هناك إلا من خلال أجهزة التصوير التي تتولَّى مراقبة العابرين‏.

بالتوازي مع ذلك‏‏ عُقد اتفاق آخر بين الجانبين المصري والفلسطيني لتسهيل مرور المواطنين الفلسطينيين‏,‏ نصَّ على فتح معبر رفح طوال اليوم‏,‏ وعلى إعفاء الفلسطينيين الذين هم أصغر من ‏18‏ سنة وأكبر من‏40‏ عامًا من تأشيرة الدخول إلى مصر.

(3)
ما الذي حدث بعد ذلك؟.. قامت "إسرائيل" بخرق جميع بنود اتفاقية المعابر دون استثناء؛‏ حيث ظل وصول الفلسطينيين الذين يسكنون في القطاع إلى الضفة الغربية والعالم الخارجي محدودًا للغاية‏,‏ كما أن هناك تضييقًا على عملية تدفق السلع التجارية‏,‏ وارتفاعًا في نسبة القيود المفروضة على التنقل داخل الضفة‏,‏ ولم يطرأ أي تطور اقتصادي سلمي مما كان مؤمَّلاً في الاتفاقية‏,‏ وإنما تدهور الوضع الإنساني وارتفعت نسبة العنف‏‏ نتيجة الإغلاق المتزايد لمعابر القطاع‏.

هذا الكلام ليس من عندي‏,‏ وإنما هو نصٌّ أورده في 30/11/2006م‏ تقريرٌ لمكتب تنسيق الشئون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية‏,‏ عن تقويم ما جرى في القطاع خلال السنة الأولى من تطبيق اتفاقية المعابر‏ (‏من 15/11/2005‏ إلى شهر 11‏ سنة 2006م).. إنه التطبيق النموذجي لأسلوب اتفاقيات التسكين والتخدير التي لا تُنفَّذ‏,‏ وإنما يكون التوقيع فيها سبيلاً للإيقاع بالضحية وافتراسها‏.

في يونيو ‏2007‏ حين سيطرت حركة حماس على قطاع غزة‏ تذرعت "إسرائيل" بما جرى لإغلاق المعابر على الفور ‏(15/6/2007م)‏، مُحكِمةً بذلك الحصار المفروض أصلاً على القطاع‏,‏ وبعد شهرين ذهبت "إسرائيل" إلى أبعد في محاولة خنق القطاع‏,‏ فأعلنته كيانًا معاديًا‏،‏ ورتبت على ذلك مجموعةً من القيود الإضافية‏، وكان ذلك التصعيد مقدمةً لقرار وزير الدفاع "الإسرائيلي" في يناير ‏2008‏ بالإغلاق الكامل لكل المعابر‏,‏ وقطع إمدادات الوقود في القطاع‏,‏ إضافةً إلى جميع احتياجات الغذاء والدواء‏.

في تقريرٍ أصدره في فبراير الماضي مركز الزيتونة للدراسات ببيروت‏,‏ رصدٌ دقيقٌ للتلاعب "الإسرائيلي" باتفاقية المعابر منذ توقيعها في عام ‏2005م؛ فمعبر رفح الذي يتصل من خلاله الفلسطينيون بالعالم الخارجي ظل مغلقًا طوال عام ‏2007‏ تقريبًا؛‏ فمن أصل ‏365‏ يومًا هي أيام السنة قامت "إسرائيل" بإغلاقه طوال ‏308‏ أيام‏,‏ ومعبر المنطار الذي التزمت "إسرائيل" بالسماح بمرور ‏150‏ شاحنة بضائع منه يوميًّا للاستيراد والتصدير‏‏ لم تسمح بعبور أكثر من‏ 12‏ شاحنة فقط‏,‏ في حين ظل مغلقًا بصورةٍ كليةٍ وجزئيةٍ طوال ‏254‏ يومًا في العام التالي لتوقيع الاتفاقية‏,‏ بل ورفعت تكلفة النقل فيما بين المعبر وميناء أشدود ‏(40‏ كيلومترًا‏)‏ إلى عشرة أضعافها‏؛‏ إذ وصلت إلى ‏7100‏ دولار‏,‏ في حين أن وصول أية شحنة من أشدود إلى شنجهاي في الصين أو لوس أنجلوس-‏ كلتاهما تبعد عن الميناء "الإسرائيلي" بمسافةٍ بين سبعة و‏9‏ آلاف ميل بحري-‏ لا يتكلَّف أكثر من ألفين أو ثلاثة آلاف دولار‏,‏ وما حدث مع معبر المنطار تكرَّر في المعابر الأخرى؛‏ حيث ظل محور المساعي "الإسرائيلية" هو التفنن في جعل حياة الفلسطينيين في القطاع جحيمًا لا يطاق.

(4)‏
الفرق الجوهري بين الهنود الحمر والفلسطينيين‏ أن الأولين تقهقروا واستسلموا لمصيرهم‏,‏ في حين أن الفلسطينيين ثبتوا ولم يتوقفوا عن المقاومة‏..‏ لقد تذرعت "إسرائيل" في استمرار عدوانها بالصواريخ الفلسطينية وبخطف الجندي جلعاد شاليط‏، ولكن الصواريخ لم تكن سوى ردٍّ على جرائم الاحتلال "الإسرائيلي"، ومن أشهرها الاجتياحات والتصفيات التي لم تتوقف‏,‏ وفي مقابل الجندي المخطوف‏‏ هناك ‏11‏ ألف أسير فلسطيني مخطوفون في السجون "الإسرائيلية" منذ سنوات‏.

أحد أوجه الشبه بين تجربتَي الهنود الحمر والفلسطينيين‏ أن ما جرى للاثنين تم في ظل الخلل في موازين القوة‏,‏ ثم إن ما جرى للهنود الحمر تم بعيدًا عن الأعين‏,‏ أما الذي يحدث للفلسطينيين فإنه يتم أمام الأعين‏,‏ وكما خذل العالم القديم الهنود الحمر عن جهلٍ أو صمتٍ‏,‏ فإن عالمنا المعاصر خذل الفلسطينيين إما عن عمدٍ أو تواطؤٍ أو خوفٍ‏.

إن القانون الدولي العام ينصُّ على تأمين حق الدول والأقاليم الحبيسة في الاتصال بمحيطها إلى الحد الذي سمح للفقه الدولي بالحديث عن حقوق لتلك الأقاليم على جيرانها‏؛ تلزمها بضرورة تمكينها من المرور عبر أراضيها للاتصال بالدول الأخرى،‏ وهو المبدأ الذي قررته أيضًا اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار‏،‏ كما أن اتفاقية المعابر الموقَّعة في عام ‏2005‏ نصت على أنها ينبغي أن تظل مفتوحةً بشكل متواصل‏؛ وذلك كله أصله الدكتور صلاح عامر أستاذ القانون الدولي في مذكرةٍ قانونيةٍ أعدها حول الموضوع في سنة ‏2006‏ بناءً على طلب وزير الخارجية الفلسطينية‏.

وفي المذكرة تحدث عن حق السلطة الفلسطينية في الحصول على تعويضات مالية من "إسرائيل" بسبب الحصار الذي فرضته‏,‏ كما تحدث عن آثار قانونية أخرى تترتب على انتهاكات "إسرائيل" لمبادئ وأحكام القانون الدولي،‏ وإخلالها بالاتفاقات الموقَّعة مع السلطة الفلسطينية بخصوص المعابر‏,‏ ومن أهم هذه الآثار حق السلطة الفلسطينية في إنهاء الاتفاقات من جانب واحد‏، أو إيقاف العمل بها استنادًا إلى ما تقضي به اتفاقية فيينا بشأن المعاهدات‏.

استخدام "إسرائيل" المعابر لخنق الفلسطينيين وتركيعهم لم يَسْتَثْنِ معبر رفح‏,‏ وهو ما أقحم مصر في المسألة ووضعها أمام موقف دقيق؛‏ فهي لم تكن طرفًا في اتفاقية المعابر- انتهت مدتها وجُددت لستة أشهر فقط ولم تعد قائمةً الآن-‏ لذلك فإنها باتت مخيَّرة بين الالتزامات القانونية والملاءمات السياسية‏؛‏ إذ بمقتضى الالتزامات القانونية فإن القانون الدولي الذي سبقت الإشارة إلى موقفه يوجب على مصر فتح معبر رفح‏,‏ كما أن إدارة المعبر ينبغي أن تتم بالتفاهم بين مصر والفلسطينيين‏,‏ دون تدخُّلٍ من "إسرائيل"؛ ليس فقط لأنها كدولة محتلة ليست لها حقوق في قطاع غزة الذي تخلَّت عنه‏,‏ ولكن أيضًا لأن الأمر يتعلق بسيادة مصر على حدودها‏,‏ وهو الرأي القانوني الذي يتبنَّاه ويدافع عنه المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض‏,‏ أما الملاءمات السياسية فقد تدفع الأمور باتجاه آخر‏,‏ وهي مفهومة ومقدَّرة‏,‏ لكني أتمنى ألا تسفر عن موقفٍ يعزز الحصار المقدس ولا يرفعه‏؛‏ لأنه منذ بدأ كان مدنسًا ولا يزال‏.
--------
فهمي هويدي/*عن الأهرام
[/align][/frame]


الساعة الآن 15 : 01 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية