![]() |
المبخرة والمجمرة - قصة : أحمد رجب شلتوت
( أ ) أبو النمرس مدينة باردة . لا ينفك مرعي يردد هذه المقولة لنفسه كلما زادت إرتجافته . أبو النمرس بالنسبة له مجرد مكان يصله الأتوبيس بالعاصمة . قصدها في الربيع الماضي . كانت رياح الخماسين تواصل هبوبها ، وكان هو مهدودًا فغفا . عند المحطة الأخيرة . أيقظه المحصل : إصح .. إصح يا أخ وصلنا آخر الخط . نظر - عبر زجاج الأتوبيس - إلى المكان الجديد . رأى طفلاً يحملق فيه . الطفل من خارج الأتوبيس . يرى الأنف الضاغط على الزجاج مجدوعًا فيضحك . يغادر مرعي الأتوبيس إلى أرض لم يطأها من قبل . يسير على غير هدى بينما رياح الخماسين تلفحه ، وفي أذنه صوت المحصل يذكره بالوصول إلى نهاية الخط . " نهاية الخط . آه يا مرعي ما أكثر النهايات التي شهدتها ولم تزل سائرًا على قدميك " أراح قدميه . جلس على مقهى . طلب كوب شاي ولما أتى به النادل حادثه . سأل عن البلد والسكن وأشياء أخرى . وهو يشرب الشاي تذكر قريته النائية .. ربما أصبحت مدينة صغيرة مثل تلك التي يشرب شايها الآن . يشعر بحنين مفاجيء إلى قريته التي لم يعد له فيها أحد . من يعرف هناك ؟ ربما لا أحد .. فالذي لم يتخطفه الموت أدركه النسيان . أنقذ نفسه من الأسى والحنين . بسرعة فكر وقرر : أنا في كل الأماكن غريب . وما دامت الغربة واحدة فلأسكن المكان الأقرب . وهكذا قرر مرعي أن يسكن وأسرته في أبو النمرس . ( ب ) تعلم سعاد - إبنة مرعي الوحيدة - أن الرحيل قدر لا فكاك منه . صاحب المنزل حصل على تصريح بالهدم وأمهلهم شهرًا . ما دفعه ليس كثيرًا لا يكفي للحصول على شقة إلا في مكان بعيد . مكان يقطعه الأتوبيس في ساعة من بولاق أبو العلا إلى أبو النمرس . في رحلتها الأولى إلى المدينة الجديدة إكتشفت أمرًا رأته مهمًا . فالنيل وهي متجهة من بولاق أبو العلا إلى ميدان التحرير كان إلى يمينها ومن بعده الزمالك ، بينما النيل الآن وهي متجهة إلى أبي النمرس يكون إلى يسارها ومن بعده المعادي . " آه يا نيل .. شاطئاك علامتا فصل ، وأنا بينهما مشدودة . منفية . تهفو روحي إلى ما قبل أو ما بعد العلامة الفاصلة . أنا بين قوسيك محاصرة . أكاد أختنق . إعتاد أبي أن يحذرني من الضياع إذ يرى بين قوسيك منجاي ومفازتي . فبينهما – حسبما يرى – شهامة ونخوة أولاد البلد . وأنا على يقين من ضياعي وتبددي سواء بين الفاصلتين أو خارجهما . أخي طار فوقهما إلى العراق وعاد ميتًا ، ومثله زوجي الذي مات غريبًا في الصحراء . ضاعا .. وأنت يا أبي مثلهما ضائع حتى وإن لم تبرح مكانك بين الفاصلتين . الآن تقودني إلى مكان جديد كل ميزته – بالإضافة إلى كونه بين الفاصلتين – هو قربه النسبي من القاهرة .. لم يجديك هذا القرب ؟ .. أنت لا تحتاج القاهرة إلا مرة في الشهر لتقبض قروش المعاش . تلك القروش التي يمكن أن تصلك في أي مكان . فبم يجديك القرب من القاهرة إذن ؟ أنت حر في سكناك . أما أنا فكل الأماكن عندي سواء " ( ت ) هذا الشتاء قاس . قالها مرعي فأشعلت سعاد النار في كومة أخشاب . تركته – مع أطفالها – يستدفئون وقامت لتعد حساء العدس . أشعل عود بخور ليبدد رائحة الدخان . قبل أن يجيء الحساء إنبثقت الفكرة كومضة . سيحول المجمرة إلى مبخرة . قال لإبنته وهما يأكلان : البلد الذي لا يعرفك فيه أحد ... لم يكمل المثل فهي تعرفه . راح يحكي عن مشروعه للمستقبل . علبة من الصفيح . مجرد علبة من الصفيح . يثقبها من حوافها ثقبين متقابلين . ومتر سلك ، بل نصف متر يكفي . يجدل السلك ويصله بالثقبين . يجعله يدًا للعلبة . يضع في العلبة رمادًا ، بعض مخلفات الإستدفاء . يضعها حتى نصف العلبة ، وفوقها يضع بعض جمرات وحفنة بخور . يطوف شوارع وحواري أبو النمرس . يبخر الحوانيت ومداخل البيوت . كل المطلوب منه أن يشعل البخور ويسيؤ . يتوقف أمام الدكان أو البيت صائحًا : صلي على النبي . يطلق بخوره ويمد يده ، فتمتد أياد أخرى بقطع من العملة المعدنية . ( ي ) النار في المبخرة بينما البرد يغزو جسده . يرتجف ، ويظل سائرًا حتى تنطفيء ناره وينفذ بخوره . يعود في الليل إلى مأواه . سعاد تلم صغارها حول الموقد . توسع له مكانًا بجوارها . يدلق قروشه في حجرها . تلمس يده. إنت بردان قوي تدلك يديه بيديها الدافئتين . تدمع عيناه بينما يحاول أن يبتسم . تضمه سعاد . يذوب في حضنها . تصدقي يا سعاد لأول مرة منذ عمر طويل أشعر بالدفء . أحمد رجب شلتوت |
رد: المبخرة والمجمرة - قصة : أحمد رجب شلتوت
سرد جميل ومتماسك، والإنسان يحتاج إلى الدف والحضوري الوجداني كلّ يوم، كما الخبز عزيزي المبدع
دمت بخير :sm5: |
رد: المبخرة والمجمرة - قصة : أحمد رجب شلتوت
الصديق المبدع :أحمد
قصتك جيدة ...سردك متماسك...قصتك تفيض بالدفء دمت مبدعا مودتى |
رد: المبخرة والمجمرة - قصة : أحمد رجب شلتوت
حين يشعر الإنسان بالغربة في بلده لتلك أقسى درجات الغربة .. لكن الإنسان مجبول على التعود و خلق الجو المناسب له والاندماج في محيط غيرمحيطه .. خاصة حين يشعر بالدفء العاطفي ..
رائع هذا الدفء الذي لم أبا لا زال يكافح في متاهات الحياة وابنة تشق طريق الكدح لتعيل صغارها .. دام تالقك أخي أحمد . |
الساعة الآن 53 : 01 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية