![]() |
عبده .. سعادة البواب
الى الحكواتي محمود عمر لم أستطع النوم فترةً طويلة من الزمن. كانت قطعة المعدن المنشطرة عن الرصاصة قد استقرّت قريباً من النخاع الشوكي، مسبّبةً لي ألماً مبرّحاً كلّما حاولت الحركة، وباختصار كنت شبه مُقْعَدْ. ولم يَطُلْ بي الانتظار حتّى حصلت على منحة علاج الى جمهورية مصر العربية لإجراء عمليّة دقيقة من أجل إزالة الشظيّة وتلّقي العلاج الفيزيائي حتّى أتمكّن من العودة الى حالتي الطبيعية. كانت زوجتي الجميلة متألقة في حضورها الدائم الى جانبي، وبالطبع قررت مرافقتي حتّى آخر الدنيا، وكان هذا وعدها حين عقدنا القران لتصبح هي بدورها زوجة لمواطن فلسطيني مشاكس يعشق طعم الحريق والنار. وصلنا القاهرة وكانت هناك شقّة قد تمّ استئجارها للإقامة في البلاد حتّى الانتهاء من إجراءات العلاج والعودة بعد ذلك الى غزّة (جيفارا في ذلك العهد). وصلت الشقّة على كرسيٍّ متحرّك، وحييت البوّاب الصعيدي عبده. صاح عندها بلهجته الحميمة: - أهلاً يا بيه .. إن شاء الله تقوم بالسلامة يا سعادة البيه، الله يلعن أبو اللّي كان السبب. - كلّك ذوق يا عبده. - زيارة عائلية يا باشا؟ - لا يا عبده .. أنا جريح وحضرت لتلّقي العلاج في مصر. انت أدرى بغزّة وأحوالها. هزّ عبده رأسه ناقماً وضرب كفّاً بكفّ ومضى الى أعماله ومشاغله. كنت أشعر بإحباطٍ كبير لأنني لم أتعوّد طِوال حياتي التي كانت في بداياتها من الجلوس دون حولٍ أو قوّة. أنا الذي كنت أجول وأصول في أحياء غزّة كلّ يومٍ مائة مرّة، أتقاتل مع الهواء وأحرق قلب الفلفل الحار، أجِدُ نفسي أسير الكرسيّ لا أقدر على رفع صغيري بين يديّ. هذا كثير .. أشتاق لإجراء هذه العملية والتي تحمل الكثير من المخاطر والشلل بالطبع احتمالٌ وارد. أخذتني الكوابيس في كلّ اتجاه، لا أدري كيف أتصرف وكيف أمضي سنوات حياتي فيما بعد. أدرك بأن زوجتي قادرة على الصمود طويلاً الى جانبي وهي تنفحني الثقة بالنفس والشجاعة في مواجهة المجهول. ولكن ما تغادر الشقّة حتّى أعود الى كوابيسي وعالمي المجنون. غادرت زوجتي الى الأسواق لتأمين حاجات النهار ولشراء بعض الكتب للتسلية وقضاء الوقت الطويل القاتل ما بين السرير والكرسيّ المتحرك. وبعد ساعة من الزمن سمعت صوت طرقٍ على الباب. - مين بالباب؟ صرخت بأعلى صوتي والنقمة ظاهرة على ضعفي وعجزي. - أنا عبده البوّاب يا سعادة البيه. لم أكن قادراً على فتح الباب لهذا الرجل الطويل ذو الحضور القويّ والصوت الجهور. - أدخل يا عبده، الباب مفتوح. ودخل عبده الشقّة، نظر إليّ بعينين مليئتين بخليط غريبٍ من المشاعر. قال متأثراً وصوته أقرب الى الحشرجة: - والله يا سعادة البيه أنا طوال عمري وأنا أجمع حاجتي وأكنز قرش ورا قرش لحتّى جمّعت أربعين جنيه. ولو كنت أملك ملايين يا باشا لكنت أدّمتهم لحضرتك. وما أن أنهى عبده تلك الكلمات حتّى كان قد ألقى الأربعين جنيه في حرجي ومضى والدمع في عينيه. عندها لم أمتلك نفسي وصرخت بكلّ ما أوتيت من قوّة: - لا يا عبده .. من شان الله ياعبده، آخر ما أحتاج إليه هو النقود. ارجع يا مجنون أنا أملك الكثير إذا قارنته بجنيهاتك المعدودة .. لكنّي يا عبده لا أملك أنا ونصف العالم العربيّ جزءاً ممّا تملك. أنت الذي تخلّيت عن جزءٍ كبيرٍ من أحلامك في موقفٍ إنسانيّ زاد ضعفي ضعفاً، وجعلني أسمو برأسي الى السماء، لأدعو بملء صوتي أن يمتلأ عالمنا العربي الغارق بالذهب الأسود والأصفر بعشرات الآلاف أمثال عبده .. يا سعادة البوّاب عبده لقد ملأت قلبي حبوراً وعجّلت في شفائي. لم يتنازل عبده عن قراره أبداً، ولم أجد بدّاً من تقديم هذا المال لبعض الأصدقاء لبناء سبيل ماء في إحدى شوارع القاهرة المكتضّة بالسكّان كصدقة جارية عن روحه الحيّة وكيانه المتسامي فوق أحلامنا الدنيوية. هذه حكايتي مع سعادة البوّاب عبده. أكرم الله وجهه أينما كان. |
رد: عبده .. سعادة البواب
جميلة هذه الصورة التي رسمت للبواب البسيط المتسم بالكرم و النخوة ولاشك أن مثله كثيرين
تقديري لإبداعك أستاذ خيري دمت بصحة و خير |
رد: عبده .. سعادة البواب
شكرا لك أديبتنا الرئعة نصيرة لهذا الحضور
وأعتذر عن التأخر بالرد مودتي |
الساعة الآن 15 : 12 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية