![]() |
حسن الخلق .. توافق الظاهر مع الباطن
رسالة الإسلام جاءت رحمة للعالمين وتضمنت تزكية وإصلاح لحياة الناس أجمعين. فما من شيء تدعو إليه الفطر السليمة والعقول الحكيمة إلا ودعت إليه ورغّبت فيه، وما من شيء ترفضه العقول السليمة والطباع المستقيمة إلا وقد نهت عنه وحذّرت منه. جاءت بالدعوة إلى تزكية النفوس وتقويم القلوب وإصلاح الباطن والظاهر والخلق والسلوك. رسالةٌ تدور كلُّها مع أزكى السجايا وأنبل الطباع وأحسن الأخلاق وأصلح الخصال، يقول سبحانه في وصف صاحب الرسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم : (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
نعم، إنها الرسالة التي تقوم أصولُها التشريعية والتهذيبية على الأساس الأخلاقي. رسالةً من الأهداف الكبرى لها ومن المقاصد العظمى في تشريعاتها الأمرُ بصالح الأخلاق وكريم الطباع، والدعوةُ إلى ذلك قولا وفعلا وسلوكا، يقول سبحانه مقرِّراً مبدأً من مبادئ محاسن الأخلاق القولية : (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83]، ويقول سبحانه مؤصِّلا لمبدأ محاسن الأخلاق الفعلية: (ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِي أَحْسَنُ ٱلسَّيّئَةَ) [المؤمنون:96:34]، (ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِي أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وفي هذا الشأن كله يقول من اتّصف بقمّة الكمال الإنساني وغاية النبل البشري محمد صلى الله عليه وسلم: ((إنما بُعثت لأتمِّم صالح الأخلاق)) رواه أحمد و صححه ابن عبد البر في التمهيد(1). هدف الإسلام : جاء الإسلام لتحقيقِ غايةٍ عظيمة، و ليقومَ بمهمّة جسيمة، ألا وهي القيام بحقِّ الله تعالى وحقوق الخلق، لقوله تبارك وتعالى: (وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) [النساء: 36]، وما سِوى هذه الغايةِ من عُمران الأرض وتشريع الحدود وكفِّ الظلم ونحو ذلك فهو تابع للغايةِ الكبرى التي هي الوفاء بحقّ الله وحقوق الخلق، ووسيلةٌ إلى هذه الغاية، وتمهيد إليها. والخلق الحسنُ أساس القيامِ بحقّ الله تعالى وحقوق الخلق، والخلقُ الحسن بالإيمانِ أصلُ الوفاءِ بحقّ الله وحقّ العباد، وبذلك ترفَع الدرجات وتكفَّر السيئات، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ المؤمنَ ليدرك بحسنِ خلقه درجةَ الصّائم القائم)) حديث صحيح رواه أبو داود (1)، وعن أبي الدّرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما مِن شيءٍ أثقل في ميزانِ العبدِ المؤمن يومَ القيامة من حسن الخلق، وإنَّ الله يبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح (2) . _تعريف حسن الخلق: الحسن لغة ضد القبح . والحسن الجمال كما قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة, وفي موسوعة نضرة النعيم: الحسن هو نعت لما حسُن . والخلق لغة : اسم لسجية الإنسان وطبيعته التي خلق عليها , والخلق كما قال الجرجاني والغزالي : عبارة عن هيئة راسخة للنفس يصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية ( 4). فالخلق الحسن: هو كلّ صفةٍ حميدة في الشّرع والعقل المستقيم، وقال بعض أهلِ العلم: "الخلق بذلُ الخير وكفّ الشرّ"، ويقال: "الخلق الحسن بذل النّدى وكف الأذى". والقول الجامعُ للخلق الحسن: هو كلّ ما أمر الله به، وترك كلّ ما نهى الله عنه، كالتقوى والإخلاص والصبرِ والحلم والأناة والحياءِ والعفّة والغيرة وبرّ الوالدين وصلة الأرحام والرحمة وإغاثة الملهوف والشجاعة والكرم والصدق وسلامة الصّدر والرّفق والوفاء والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وحسن الجوار والتواضع والتحمّل والسماحة وترك المنكر والخديعة والغدر والخيانة والابتعاد عن الفواحش والمنكرات وخبائث المشروبَات وخبائثِ المآكلِ وترك الكذب والبهتان وتجنب الشحّ والبخل والجبن والرّياء والكبر والعجب والظلم والعدوان والحقد والغلّ والحسد والبعد عن التّهم ونحو ذلك. _ علاماتِ حسن الخلق : وجمع بعضهم بعضَ علاماتِ حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثيرَ الحياء، قليلَ الأذى، كثيرَ الصلاح، صدوق اللسان، قليلَ الكلام، كثيرَ العمل، قليل الزلل والفضول، براً وصولاً، وقوراً صبوراً، شكورا راضيا، حليما رفيقاً، عزيزا شفيقا، بشّاشا هشَّاشا، لا لعانا ولا سبّابا، ولا منَّانا ولا مغتابا، ولا عجولا ولا حقودا، ولا بخيلا ولا حسودا، يحبّ في الله ويبغض في الله، ويرضى لله ويغضب لله. انتهى. _ ومن فوائد الخلق الحسن: الخلق الحسن بركةٌ على صاحبه وعلى مجتمعه، وخيرٌ ونماء، ورفعة عند الله وسناء، ومحبة في قلوبِ الخلق، وطمأنينة وانشراح في الصدور، وتيسير في الأمور، وذِكر حسن في الدنيا، وحسن عاقبة في الأخرى. وسوءُ الخلق شؤم ومحْق بركة وبغض في الخلق وظلمَة في القلوب وشقاء عاجل وشرّ آجل. _ من ينتفع بالخلق الحسن: الخلق الحسن ينفَع المؤمنَ في الدنيا والآخرة، ويرفع درجتَه عند ربِّه، وينتفع بخلقِه البرّ والفاجر . وأمَّا الكافر فإنما ينفعه خلقه في الدنيا، ويثيبُه الله عليه في العاجلة، وأمَّا الآخرة فليس له فيها نصيب لأنه يريد بعمله إرضاء الناس والسمعة الحسنة والشهرة الطيبة فهذا أبو سفيان في كفره يدع الكذب خوفا وحياء من الناس كما في حديث هرقل عند البخاري (5) ثُمَّ قَالَ ( هرقل ) لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ , قال أبو سفيان : " فَو َاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ " ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: يَا رسولَ الله، أرأيتَ عبد الله بن جدعان فإنّه كان يقري الضيفَ ويكسب المعدومَ ويعين على نوائب الدهر، أينفعُه ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا، إنَّه لم يقل يومًا: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين) رواه مسلم (6). - أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالخلق الحسن : وقد أمرَ الله تعالى في كتابِه العظيم بكلِّ خلق كريم، ونهى عن كلِّ خلق ذميم، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، وحسبُنا في ذلك مثلُ قول الله تبارك وتعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، وقوله تبارك وتعالى: (ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَٱلضَّرَّاء وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَـٰفِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]، وقوله تبارك وتعالى: خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ) [الأعراف:199]، وقوله عز وجلّ: (وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ) [النحل:127]، وقوله تبارك وتعالى: (وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِي أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34]، وقوله عز وجلّ: (وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء:215]، وقول الله تعالى: (تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83]، وقوله عز وجل: (وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ،وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـٰماً ،وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ،إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ،وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ،وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان:63-68]، وقوله عز وجل: يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ) [المائدة:1]، وقول الله تعالى: (وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ) [الحشر:7], فاتقوا الله تعالى كما أمر، وابتعدوا عما نهى عنه وزجر، فقد أمركم الله بقوله: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، وهذه آية جامعة لكل خلق كريم، ناهية عن كل خلق ذميم . - فضل الخلق الحسن في السنة النبوية : في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقَه )) رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله عنه (7) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ألا أخبرُكم بمَن يحرُم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كلِّ قريب هيِّن ليِّنٍ سهل )) رواه الترمذي وقال: حديث حسن (8) . وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الرفقَ لا يكون في شيء إلا زانَه، ولا ينزَع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم (9) . وعن النّوّاس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البرّ والإثم فقال: ((البرّ حسن الخلق، والإثمُ ما حاك في صدرك وكرهتَ أن يطّلع عليه الناس)) رواه مسلم (10) . - أمر السنّة النبويّة بالخلق الحسن: وجاءت السنّة النبويّة ، آمرةً بكلّ خصلة حميدة، ناهية عن كلّ خصلة خبيثة, ومن تلك الأوامر التي تجعلنا نعيش سعداء مع عبق السنة ورياحين السيرة ونستمع إلى توجيهاتٌ سامية وإرشاداتٌ عالية,منها ماجاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي (11) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: ((تقوى الله وحسن الخلق))، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: ((الفم والفرج)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح (12) . و كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟! كلّ قريب هيّن سهل)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب (13) . وكقوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة (14)، وكقوله صلى الله عليه وسلم في مقامات أخرى: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) رواه مسلم (15) وكقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) رواه مسلم (16) . _ النموذج الأمثل : قدمت السنة لنا النموذج الأمثل والمثلُ الأعلى في كلّ خلق كريم، وفي كلّ وصفٍ حميد عظيم، سيد البشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو القدوة التامّة في كلّ شيء، قال الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]، فقد أدّبه ربّه فأحسنَ تأديبَه. واعتنى صلى الله عليه وسلم أعظمَ عنايةٍ بتربية الأمّة على كلّ خلقٍ حميد وفعلٍ رشيد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما بعثتُ لأتمّم صالحَ الأخلاق)) رواه أحمد (17) . وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ وأثنى اللهُ تعالى على نبيّه عليه الصلاة والسلام أفضلَ الثناء، ثناءً يتردَّد في سمعِ الوجود، ويتلوه الملأ الأعلى والمؤمنون من الجنِّ والإنس، ولا تُنسيه سرمديّة الزمان، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28]. عن عائشة رضي الله عنها أنّها سئِلت عن خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقالت: كان خلقه القرآن(18). قال ابن كثير في تفسيره رحمه الله : "صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجيَّة له، وخلقًا تطبّعه، وتركَ طبعَه الجبلي، فمهمَا أمرَه القرآن فعَله، ومهما نهاه عنه ترَكه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم؛ من الحياء والكرم والشجاعة والصَّفح والحِلم وكلِّ خلق جميل" انتهى (19). وحتَّى قبلَ البعثةِ لم يجدوا عليه سقطةً ولا عيبًا يُذمّ به، مع كثرةِ أعدائه، وتوافرِ دواعيهم وحرصِهم، ولمّا فاجأه الوحي قال لخديجة رضي الله عنها: ((لقد خشيتُ على نفسي))، فقالت: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا، إنّك لتصِلُ الرحم، وتصدُق الحديثَ، وتحمِل الكلَّ، وتقرِي الضيفَ، وتعين على نوائِب الحقّ . رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (20) . فهذا بعض خلقِه الكريم قبلَ البعثة، فأتمَّ الله عليه النعمة والخلقَ العظيم بعدَ البعثة. فتأسَّوا ـ أيها الأخوة والأخوات ـ بنبيّكم صلى الله عليه وسلم ، بالتمسّك بدينه القيّم، والعمل بشريعته الغراء، والتخلّق بأخلاقه الكريمة، بقدْر ما يوفّقكم الله لذلك، واحملوا أنفسكم على منهجه مخلصين لله تعالى، متّبعين لسنته، غيرَ مبتدعين في دينه، قال الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:21]. ثم علينا الاقتداء أيها الأخوة والأخوات بالسلف الصالح الذين اتصفوا بمكارم الأخلاق وشهد لهم بذلك العليم الخلاق في مثل قول الله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـٰهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ) [الفتح:29]، وقوله تبارك وتعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ) [آل عمران:110]، فهم خير الناسِ للناس، وقوله تبارك وتعالى: (مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23]. فكلّ واحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم أمّةٌ وحدَه في مكارم الأخلاق والبعدِ عن سفاسف الأمور، يُعلَم هذا من تفصيل سيَرهم وأحوالهم فتمسكوا ـ ياإخواني ـ بأخلاق دينكم، وحافظوا على هدي نبيكم ، تفوزوا بجنة ربكم . _ كيفية الوصول لحسن الخلق: من الأخلاق الحسنة ما يكون الإنسان مجبولا عليه، ومنه ما يكون مُنالا بالاكتساب والمجاهدة، قابلاً للتعديل والتقويم، قال القرطبي: "الخلق [جِبِلَّة] في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محموداً وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محموداً" (21)، وقال الماوردي رحمه الله: "الأخلاق غرائز كامنة تظهر بالاختيار، وتُقهر بالاضطرار" انتهى. التدرب على حسن الخلق : فعلى المسلم المجاهدةُ في تهذيب أخلاقه وتقويمها، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرّ الخير يُعطه، ومن يتوقَّ الشرَّ يوقه)) رواه الخطيب بسند حسن (22) . وليحرص كل منا على أن يعود نفسه ويدربها على التخلق بأحسن الأخلاق , ويحاول ذلك بالتعاون مع الآخرين , فيحدد خلقا واحدا أو اثنين كل أسبوع ليتحلى به أويتخلق به , ويحدد خلقا آخر يتنازل عنه ويتركه , وقد يجد في هذا جهدا أو مشقة فيفعل الخلق الجميل متكلفا بداية حتى يصير له سجية وطبعا ويصدر منه دون عناء أو مشقة فالمسألة قد تكون صعبة في البداية وتحتاج إلى صبر جميل وإلى اللجوء لله تعالى ويسأله التوفيق ويكثر من الدعاء الذي كان يقوله أفضل الناس خلقا, فكان يقول صلى الله عليه وسلم في دعائه: ((اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)) رواه النسائي بإسناد صحيح (23). _ الحرص على الأخلاق الفاضلة للدعاة: إذا كان التخلق بالخلق الحسن أمر محتم على المسلم, فهو على الدعاة ومن يحمل هم الإسلام أوجب , لأنهم القدوة والنموذج الذي إذا هدم يؤخر الأمة و يعطى الناس الفرصة للوقوع في مساويْ الأخلاق أو التساهل فيها بحجج واهية, وينبغي على الدعاة في العصر الحديث التخلق بالأخلاق الفاضلة, فالتعفف عما في أيدي الناس خلق كريم ينبغي التزامه, و البعد عن التكبر، والاستماع إلى النصح والتوجيه حتى من المخالفين, و الحرص على الاتحاد وجمع الكلمة, والشجاعة في الاعتراف بالخطأ واتباع الحق والرجوع إليه, والصبر على الأذى, وقبول الأعذار, وإقالة العثرات، ونصرة المظلوم، وقول الحق، والإنصاف و الحكم بالعدل حتى لو تعرض الدعاة للظلم أو الهجوم أو السخرية أو الاستهزاء. وفي المداراةَ فسحة للمسلم فهي من الخلق الحسَن، ومعناها دفعُ الشرّ بالقول الحسن أو الفعل الحسَن، وتبليغُ الحقّ بأسلم وسيلة، وتكون في بعض الأحوال، وليبتعد المسلم عن المداهنة لأنها من الخلقِ الذميم والمداهنةُ هي السكوت عن الحقّ أو الموافقة في المعصية, وأخيرا إليك الأمور المعينة على التخلق بالأخلاق الفاضلة المستقيمة. _ الأمور المعينة على الالتزام بالأخلاق الحميدة: يجب التنبه إلى أن حسن الخلق مرتبط بسلامة العقيدة وصحة العبادة , فالعقائد ومنها أركان الإيمان وشعبه لها آثار عظيمة في الالتزام بالأخلاق المستقيمة, فمن آمن بالله وبأسمائه وعلم أن الله يراه واستشعر مراقبة الله له فكيف يرتكب الخلق القبيح, وإذا وقع في المحظور تاب وأناب وندم واستغفر, وكذلك الإيمان بالملائكة له آثاره الإيجابية على ملازمة الأخلاق الفاضلة, وأيضا الإيمان باليوم الآخر, وهكذا لا تنفك العقائد عن الأخلاق, وترتبط أيضا بالعبادات فمن حافظ على الصلاة تعود على احترام المواعيد والنظام وابتعد عن الفحشاء والمنكر, والزكاة تطهر المال وتزكي النفس وتطهرها من الشح والبخل وتعودها على التوكل والبذل والإنفاق والعطاء, وفي مدرسة الصوم الدروس والعبر وتعلم الصبر ومجاهدة النفس للوصول للتقوى, وكذلك مدرسة الحج تضبط الأخلاق وتقومها , فالأخلاق إذن مرتبطة بالعقائد و العبادات ولا صحة لمن يقول بعدم وجود رباط بينهم أو علاقة متينة كبعض الكتاب أو الفلاسفة . فعلى المسلم تدريب نفسه ومجاهدتها للتخلق بالخلق الحسن ويجتهد في تصحيح عقيدته وعبادته , وعليه الإكثار من قراءة القرآن وكتب التفسير و السيرة النبوية وتاريخ الأنبياء وسير العلماء والقادة والمصلحين ليتعلم منهم ويقتدي بأخلاقهم ويتأسى بآدابهم وينتفع بفضائلهم , ويسأل الله دائما الهداية والتوفيق لصالح الأخلاق((اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)) رواه النسائي بإسناد صحيح (23) , هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. منقول مجدي محمد عطية |
الساعة الآن 06 : 01 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية