رد: سوريا وأزمة أعداء النظام !
:
منذ مطلع الخمسينات من القرن الماضي لم تكن السعودية تنظر
إلى لبنان غير تلك النظرة العامة كونها بلد جميل .. مناخه رائع
و شعبه شعب مضياف كأصوله العربية ؛ وأن فيها صحافة " حرة "
تزعج أحيانا بعض الأمراء خاصة أولئك الذين كانوا يطوفون شوارع
الحمراء ومنطقة الزيتونة الممتدة على الكورنيش البحري من مقهى
العجمي حتى المرفأ والتي احتوت أرقى " علب الليل " وأجمل
بنات الليل - مع احترامي لهن - " رزق الله على هيديك الأيام " ...!
وكان الحكم السعودي ينظر إلى لبنان سياسيا كبلد يسكن فيه
خطر دائم يتهدد سوريا قلب بلاد الشام باستمرار .. ولكنه
كان مطمئنا على استقرار الوضع فيه بعد صيغة التعايش التي
اتفق حولها اللبنانيون عام 1943 وفي ظل حكم الرئيس كميل
شمعون صديق الغرب – بريطانيا وأمريكا - فهو صديق قديم للإنكليز
وصديق مستجد للأمريكيين ومتعاونا مع مخابراتها " السي اي ايه "
تعاونا سيتضح مستقبلا كم كان عميقا ...!
فالقلق السعودي كان على سوريا من منظور رؤيتها الخاصة للخطر .
فالتهديد لكيانها يأتي أولا العراق لجهة الشرق ، والأردن لجهة
الجنوب ومن ثم الجانب الإسرائيلي لجهة الغرب الجنوبي ثانيا .. !
فالأسرة الهاشمية يحكم أبناءها كلا البلدين ، وهما يشكلان خطرا
محدقا بمستقبل المملكة إن هم استطاعوا السيطرة على سوريا
أو جرها إلى " وحدة " أو حلف أو حتى مجرد تفاهم بين تلك البلاد
خصوصا والدعوات كانت قائمة تطالب بتحقيق وحدة " الهلال الخصيب "
( أي سوريا والعراق والأردن ولبنان وما تبقى من فلسطين ) المرشح
لقيادة هذا المشروع من الناحية النظرية كان الأسرة الهاشمية ...!
لذا ، ولتلك الأسباب أنفة الذكر كانت السعودية تطلب ود الحكم
السوري وتغريه بكل الوسائل حتى لا تقع سوريا بيد " الأشرار " !
والسعودية تعاونت مع عبد الناصر بداية ولغاية تحقيق الوحدة
المصرية – السورية في العام 1958 حتى حدوث المتغيرات الهامة
التي حدثت في العراق ثم لبنان والأردن واختلطت الأوراق ...!
" فالصراع على سوريا " حُسم لصالح عبد الناصر .. والعراق حدثت
فيه " ثورة 14 تموز " وأطاحت بحكومة " نوري السعيد " والعرش
الهاشمي، وسيطر التيار القومي العربي الناصري على السلطة
هناك بعد انقلاب ثاني أطاح بعبد الكريم قاسم .. وفي الأردن
أستطاع التيار الشعبي الناصري والقومي العربي المتمثل
بحزب " البعث " ( تنظيم الأردن كان اقوي تنظيم بعثي على
الساحة المشرقية ) ان يفرض حكومة وطنية على الملك حسين ؛
أما لبنان فإنه وقع في حرب أهلية نتيجة المتغيرات المشرقية
وانتهت باتفاق أمريكي وعبد الناصر على أن يؤتى بقائد الجيش
اللبناني فؤاد شهاب رئيسا لجمهورية لبنان لا يعادي عبد الناصر
ولا يقاطع الغرب .
وكان من الطبيعي ان تتغير قواعد اللعبة بناء على تلك المتغيرات ،
واتجه الحكم السعودي بالنظر نحو لبنان وبالتحديد نحو السياسيين
السوريين الذين أتوا إلى لبنان هربا من نظام " الوحدة " وإجراءاته
التي خربت مصالحهم بشقيّها السياسي والاقتصادي والثقافي ( يقال في أسباب
الانفصال الكثير فعلى سبيل المثال : تأميم البنوك الخاصة والمعامل والشركات
الصناعية الكبرى والتي كانت مزدهرة من غزل ونسيج وأسمنت.
قدوم الكثير من العمال المصريين إلى مدن الإقليم الشمالي، واختلال توازن قوى العمل.
سياسات استبدادية من قبل الحكومة في الإقليم الجنوبي ساهمت
في توليد انزعاج لدى السوريين الذين كانوا يتباهون بالتعددية السياسية
التي اشترط عبد الناصر إلغائها لقبول الوحدة.
كان لجهاز المخابرات دور مؤثر في إذكاء نار الفرقة بين المواطنين.
عدم وجود تواصل وترابط على الأرض بين الإقليمين، ووجود كيان العدو الإسرائيلي بينهم ) .
هذه الأمور وغيرها كانت الورقة الرابحة في يد أعداء الوحدة واستفادت من الخطاء
الجسام التي ارتكبها عبد الناصر ( كما يُجمع معظم الذين أرخوا تلك المرحلة ) وبذا قويت
نواة المعارضة ضد عبد الناصر والنظام الوحدوي الأمر الذي بدأ
يتيح للحكم السعودي فرصة التدخل لإضعاف خصمهم اللدود عبر
حبك المؤامرات ودفع الأموال الكثيرة لإسقاطه أو اغتياله خصوصا وان السعودية
جهرا وعلنا كانت من أشد المعارضين لقيام تلك الوحدة . لقد نجح الامر
واستطاع " الانفصاليون " دعم انقلاب سيطر فيه العسكريون على السلطة
وقاموا باجلاء الجيش المصري المرابط في سوريا واعتقوا القوات المظلية التي أرسلها
عبد الناصر إلى اللاذقية بعد استسلامهم بناء على أوامر ناصر نفسه وانتهت
الوحدة في أواخر العام 1961 ولم يمضي على قيامها أكثر من ثلاث سنوات ...!
عبد الناصر قام بالرد على النظام السعودي بانقلاب عسكري على حكم الإمامة
ثم قام بتسعير الحرب فيها وأرسل مزيدا من الرجال والعتاد بعد انقلاب "السلاّل "
وزاد من حجم تدخلاته في لبنان الذي أصبح منذ ذلك الوقت ساحة
صراع ما بين الحكم السعودي والحكم الناصري ليس على هذا
البلد الصغير إنما ليكون منطلقا للسيطرة على سوريا مجددا عبر دعمه لأكثر من
محاولة انقلابية كانت تبوء بالفشل , فعبد الناصر كان يجند المناصرين له
والسعودية تدعم الحكم الانفصالي بقوة ؛ أما في لبنان فلم يكن
لها أي حظ مع أي شارع آو جهة باستثناء دعم بعض الشخصيات
اللبنانية محدودة الفاعلية فمعظم الشارع الإسلامي كان ناصريا بامتياز
ولم يُستثمر ذلك إلا من أجل خلق مزيد من العداء لكلا البلدين
سوريا والسعودية ! و بقيت الأمور على هذا الحال حتى حدوث الزلزال الكبير :
الذي غير وجهة التحالفات وكان من الممكن أن يغير وجه المنطقة ؛ فحزب " البعث العربي الاشتراكي "
نجح في انقلاب الثامن من شباط عام 1963 في العراق واستولى على السلطة في بغداد
ثم نجح في انقلاب عسكري ثاني وسيطر على الحكم في سوريا في الثامن من آذار أي
بعد شهر واحد تماما .هذا التحول الكبير احدث خللا هائلا في
موازين القوى وبدا أن سوريا قد فلتت من قبضة المصريين والسعوديين معا
يا للمفارقة التي جمعت كل من مصر والسعودية على هدف واحد مع أن مصالحهما
في ذلك مختلفة ؛ لقد بدأ النظامان يعملان على تقويض حركة البعث .. فعبد الناصر
يكيل له الشتائم ويصنفه ببعث امريكي وآخر بريطاني والسعودية تشكو للأمريكيين
بأن الشيوعيين سيطروا على سوريا !
وها هو الحزب الذي نشا في العام في بداية أربعينات القرن الماضي يحكم في العراق وقاعدته النضالية
دمشق ولأول مرة منذ عصور .
بالرغم من ذلك فقد شرع بعثيوا سوريا والعراق في تأليف وفد مشترك وذهب ليفاوض
عبد الناصر من اجل إقامة وحدة ثلاثية بينهم ( راجع محاضر
جلسات الوحدة لمحمد حسنين هيكل ) الأمر الذي اثأر حفيظة
السعودية التي شعرت ان الضغوط سوف تزداد عليها من " العروبيين
التقدميين " لكونها تمثل في نظرهم رأس " العروبيين الرجعيين "
لكن عبد الناصر " الذي كان يماطل " كان قد قطع شوطا كبيرا في الإعداد لانقلابين مضادين
للبعث في كل من سوريا والعراق ... فشل في الدولة الأولى ولكنه
نجح في الثانية حيث تم التحالف ما بين الناصريون وبعض البعثيين على البعث
نفسه في العراق ولكن سوريا خرجت من يديهم وما كانت السنوات العشر من 1958 حتى 1968 إلا توطئة
لنظام حكم قادم بعد سنتان حيث استقر الوضع السياسي فيها – نسبيا -
ومضى نظام الراحل حافظ الأسد في تثبيت دعائم دولة انتقلت من كونها تابع تتصارع
عليها تلك الدول إلى دولة مركزية صار يُحسب لها ألف حساب حتى لو لم تطلق طلقة نارية واحدة .
وعاش أعداء ذلك النظام في أزمات متتابعة نتيجة لفشلهم بالسيطرة على سوريا مباشرة فردوا
بعد ذلك من خلف الحدود .
يتبع
|