رد: سوريا وأزمة أعداء النظام !
لم يمضي شهر واحد على توقيع اتفاقات كامب ديفيد المصرية – الإسرائيلية بتاريخ 17
سبتمبر (أيلول) 1978 .. وتحديدا في تاريخ 24 أكتوبر/ تشرين الأول فوجئت القيادة العراقية بان طائرة سورية
طلبت الإذن لدخول المجال الجوي العراقي وأُبلغت بأن على متنها شخصية سورية قيادية لم تحدد هويته
ويطلب الاستئذان بالهبوط في إحدى المطارات العسكرية ...!
وبعد اخذ ورد ، اتت الموافقة بعد ساعتين من التحليق وأُذن لها بالهبوط في إحدى مطارات معسكرات الرشيد
القريبة من العاصمة بغداد .
كان العراقيون يخمنون ، من تكون تلك الشخصية الكبيرة وماذا تريد .. وهل المسألة تتعلق بهروب أحد الشخصيات العسكرية ولجوءها إلى العراق بهذه الطريقة ؟!
ولكن وبعد أن حضر أحد الضابط الكبار وصعد إلى الطائرة حتى ظهر عليه الارتباك واجري اتصالا سريعا بالرئاسة
عبر الهاتف - ما كان يجب إجراءها - حتى كانت الأقمار الصناعية الأمريكية التي كانت تجوب المنطقة تلقط الخبر الذي أذهل الإدارة الأمريكية
في واشنطن والتي لم تتأخر في وضع الخطط الجاهزة لديها موضع التنفيذ !!
ولم يمرّ وقت طويل حتى كان الرئيس العراقي احمد حسن البكر يصحب ذلك الضيف الهابط من السماء ورحب به ترحيبا حارا اسقط
جبال الجليد المصطنعة والتي تكونت ما بين البلدين منذ العام 1966 العام الذي أتى بحافظ الأسد ورفاقه من البعثيين لحكم سوريا .
كان حافظ الأسد مثل معظم السوريين يتطلع إلى العمق الجغرافي فلا يرى عمقا أهم وأعظم وأقوى من العمق الطبيعي لسوريا : العراق .
وعبر التاريخ عندما كان هذا العمق يُقفل تبحث سوريا عن عمق آخر ليكون سندا لها في أوقات الشدة وغالبا ما كانت تتجه نحو مصر
وبلاد الحجاز ولا تعدم وسيلة لتحقيق ذلك ، مع أن العراق كان الأقرب .. ولكنها الأنانيات التي تدمر سياسة البلدان !
فغياب مصر عن ساحة الصراح دفع الأسد للجوء إلى قلعة الأسود بغداد .يصف احد الحاضرين الأسد في تلك الليلة بأنه كان في
براءة الأطفال \ وهو المعروف باتزانه وقدرته على الصبر / و كان يقدم للعراقيين عروضا مختلفة ابتدأ من تولي بغداد قيادة سوريا
سياسيا وعسكريا دون قيد أو شرط ما عدا شرط قيام الوحدة بينهما ..الأمر الذي حير العراقيين
وتساءلوا عن رأي القيادة السورية مجتمعة بما فيها قيادة الحزب الحاكم هناك ؛ قال الأسد إنكم
ولا شك تعرفون الشعب السوري ومدى عمق تربيته الوحدوية عند مختلف فئاته مهما اختلف توجهاتهم ،
فالوحدة العربية تُدرّس في مناهج التعليم وأصبحت ثقافة عقائدية فأي سوري يمكنه إخبارك ما عدا ان يكون هو من اعداء
الوحدة او من الذين لا يؤمنون بها اصلا وكذا حال العراقيون .
غادر الأسد بغداد بعد أقل من 24 ساعة الى دمشق وهو مطمئن إلى حدوث زلزال سوف يهز العالم بأسره عندما يتم ذلك الحدث
التاريخي بإعلان وحدة البلدين.لم يتأخر الزمن .. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى قامت لجان مختلفة وعلى جميع المستويات
السياسية والإقتصادية والعسكرية والتربوية والحزبية واهم من كل ذلك لجان من رجال القانون
وبدأت في تقديم اقتراحات تعديل القوانين في القطرين ما يتناسب مع دولة الوحدة ؛ واجتمع رجال الفكر في البلدين من اجل مهمات قادمة ...
وبدأت تلك اللجان بعقد اجتماعاتها في العاصمتين حيث بدا وكأنهم يسابقون كرة الأخطار القادمة التي كانت تكبر مع كل تقدم وانجاز .
شهدنا وشاهدنا مسئولين عراقيين في دمشق على رأسهم
صدام حسين \ كان نائبا للرئيس البكر \ الذي القي محاضرة في إحدى القاعات في جامعة دمشق حضرها عدد كبير من رجال الفكر والثقافة من كلا البلدين
( لقد كان جافا في محاضرته ) لم يبتسم ولو لمرة واحدة ، وعلّقت حينهاأمام أصدقائي بأنه كان يعتقد نفسه " سوسلوڤ " المنظّر الشيوعي
صاحب العقل المدبر مع الفارق بأن هذا الخير كان " يُدبّر " لغيره على عكس صاحبنا الذي كان لنفسه !
إن صدى ذلك الحلم قد جعلنا نتفاعل معه في لبنان ، حيث عمت المسيرات
الجماهيرية التي ضمت مؤيدي حزب البعث بجناحية السوري والعراقي وطافوا شوارع المدن اللبنانية رافعين شعارات مختلفة
مؤيدة للوحدة وسارع التنظيمان اللبنانيان إلى عقد اجتماعات مشتركة موحدة بينهما وكان ذلك ترجمة صادقة لتوجهات جدية وبدوا كأنهما تنظيم واحد فجنّت أطراف محلية عديدة وما كان أحد من الحالمين بأن يقتصر هذا الجنون على أطراف صغيرة بل أن العالم بأسره قد جنّ وذلك لسبب خطير ذلك أن حدود هذه الدولة تبدأ عند أقدام جبال طوروس في الشمال الغربي لسوريا على البحر المتوسط وتنتهي
عند حدود شط العرب وتقع بينهما لبنان وفلسطين وشرقي الأردن ؛ هذه الوحدة لو تحققت لتغير وجه التاريخ للمنطقة والعالم بأسره ..ولكن ..!
أسبوع واحد كان يفصلنا عن ذلك الحدث التاريخي لا أكثر ...!
قطع التلفاز اللبناني برامجه بفلاش يقول انه ملحق إخباري مهم ...
تسمرت أمام شاشة التلفزة أخمن وأنا قلق جدا فماذا حدث في ذلك المساء الحزين ..؟
لقد ظهر الرئيس احمد حسن البكر على التلفاز العراقي مباشرة وهو يلقي ببيان نبرته الخطابية حزينة ووداعيه ، بدأه بتوجيه التحية
إلى الروح العربية الأصيلة التي لن تموت ، والتي ستبقى
ساعية من اجل عزة الأمة العربية وكرامتها والسعي هو سمة المؤمنين العاملين على تحقيق حلمها في الوحدة والتحرر مهما واجهت من صعاب "
وقبل أن يُكمل خطابه ( يشهد الله إني بكيت ، بكيت بحرقة ) فنظرت إليّ زوجتي
مستغربة تسألني : ما الذي أبكاني حقا ...!!
و بصوت يعصره الألم والكلمات تخرج من حنجرتي مختنقة وقلت لها :
لقد طارت الوحدة ..!
وعدت إلى سماع بقية الخطاب الذي أنهاه معتذرا إلى الشعب طالبا منه
أن يقبل استقالته ومخاطبا الجيش العراقي ان يحافظ على الثورة ومنجزاتها ، وعلل سبب تلك الاستقالة بقوله :
" أن أسبابي هي فقط أسباب صحية ...!
تسلم صدام حسين الرئاسة ولم نكن نعرف بأنه سيقوم بالإجهاز على كل من سولت له نفسه من العراقيين بالتفكير بالوحدة !
لا أريد فتح الدفاتر وإثارة ما انقضى ؛ ولكنا نكتب للتاريخ ، تدفعنا الأسئلة التي طالما حيرتنا منها :
هل صحيح بأن سوريا كانت وهي تسعى للوحدة مع العراق تتآمر عليه ؟
هل يُعقل أن يقتل صدام 17 عشر عضوا قياديا من أعضاء مجلس قيادة " الثورة " والحزب لأنهم / كما أذيع / متآمرون مع النظام السوري ومع من ؟ مع السفير السوري في بغداد حيث ذهبت كاميرات التلفزة العراقية واقتحمت مقرّ السفارة ويا لهول ما شاهدنا ! خزنة تحتوي على ألواح المتفجرات .. ووصل بخمسين ألف دينار عراقي " مصاريف الانقلاب " ومهزلة كبرى على الهواء مباشرة ، مع أن بعض المتهمين العراقيين كانوا يملكون ملايين الدنانير وهم من أصول غنية كابر عن كابر .
دفعتنا الأسئلة التي طالما حيرتنا والتي وجدنا بعض أجوبتها من سلوك النظام وخطواته .
لقد أنجزت لجان العمل المشتركة السورية - العراقية في العام
1979 جميع ما تتطلبه قيام دولة الوحدة واتفقوا على وحدة الحزب وإلى أي مؤتمر " قومي " سيعودون .. واتفقوا على أن تكون بغداد العاصمة الشتوية للدولة ودمشق العاصمة الصيفية لمدة ستة اشهر مداورة
واتفقوا على مجلس قيادة مشتركة وبرلمان واحد ومصالح الدولتين وعلاقاتهما الخارجية حتى أدق التفاصيل .. لكنه كان حلم ليلة صيف جميل انتهى بكابوس مفزع عاش فيه العراق لسنوات وما زال ؛ فكيف تصرفت سوريا وإلى أين اتجهت ؟!
|